حين يحارب الاحتلال الثقافة في القدس
تاريخ النشر : 2016-01-30 14:51
تجريد المكان من الثقافة ماذا يعني؟
في قصيدته الشهيرة، "على هذه الأرض" للشاعر محمود درويش جعل "خوف الغزاة من الأغنيات" مما يستحق الحياة!
ويبدو أن ذلك الآن ينطبق كثيرا على ما فعلته سلطات الاحتلال الإسرائيلية من منع وزير الثقافة د. إيهاب بسيسو، من عقد لقاء مع مثقفين مقدسيين في المسرح الوطني-الحكواتي بالقدس، أو أي مكان آخر في "القدس الشرقية".
فوفق بيان صادر عن المتحدثة باسم "الشرطة الإسرائيلية"، لوبا السمري، وقع وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، عضو الكنيست جلعاد اردان، على أمر يحظر تنظيم نشاط موضوعه ''إحياء المؤسسات الثقافية الفلسطينية في القدس"، "وذلك في مسرح الحكواتي في القدس. لقد تم إطلاع الوزير على أن هناك نية لعقد النشاط برعاية السلطة الفلسطينية، من دون حصولها على تصريح كتابي، كما هو مطلوب بموجب المادة 3 (أ) من قانون تنفيذ الاتفاق الانتقالي بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة (الحد من النشاط) - عام 1994 قائلا: "لن نسمح بأي مس ما، في سيادة إسرائيل، وتوفير موطئ قدم ما للسلطة الفلسطينية، في أي من الأراضي الإسرائيلية".
رد الفعل الاحتلالي دفع الشاعر والوزير بسيسو ليكتب على صفحته في الفيسبوك:"التحديات التي تواجه المشهد الثقافي الفلسطيني تبدأ بسياسات الاحتلال الذي يرى في الثقافة تهديدا حضاريا وفي لقاء ثقافي يناقش آفاق الثقافة الفلسطينية في القدس حدثا يستوجب المنع وإغلاق المسرح الوطني بشكل مؤقت.
الإبداع الفلسطيني لم يتوقف يوما أو يتراجع أمام سياسات الاحتلال ولن يتوقف أو يتراجع بسبب سياسات الاحتلال فهو مكون أصيل للذاكرة والمكان.
في الطريق إلى المسرح الوطني في القدس للقاء المثقفين يطل بيت الشرق ومؤسسة الطفل العربي ومعالم عدة تعيد بناءها الذاكرة من صوت وحركة، ويرتبها الوقت بعفوية صادقة فملامح المكان الثري بمفرداته الأصيلة أكثر قدرة على الاحتفاظ بمكونات الثقافة والروح، وأكثر قدرة على الاحتفاظ بمقومات البقاء والصمود.
ستستمر الثقافة الفلسطينية في عطائها لأنها نبض الحياة اليومي الذي يحمل صوت فلسطين وملامحها إلى فضاءات العالم الإنسانية."
 ولعل بسيسو يعيدنا مرة أخرى لقراءة قصيدة درويش:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة: تردد إبريل، رائحة الخبزِ
 
في الفجر، آراء امرأة في الرجال، كتابات أسخيليوس ، أول
 
الحب، عشب على حجرٍ، أمهاتٌ تقفن على خيط ناي، وخوف
 
الغزاة من الذكرياتْ.
 
على هذه الأرض ما يستحق الحياةْ: نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ
 
الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيمٌ يُقلّدُ
 
سِرباً من الكائنات، هتافاتُ شعب لمن يصعدون إلى حتفهم
 
باسمين، وخوفُ الطغاة من الأغنياتْ.
 
على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ: على هذه الأرض سيدةُ
 
الأرض، أم البدايات أم النهايات. كانت تسمى فلسطين. صارتْ
 
تسمى فلسطين. سيدتي: أستحق، لأنك سيدتي، أستحق الحياة.
 
وخوف الغزاة من الأغنيات (الثقافة والفنون) هو نفسه خوفهم "من الذكرياتْ، فوزير ما يسمى بالأمن جلعاد اردان تذكر أمرا، ونسي أمورا عن قصد.
لقد ذكر أردان المادة 3 (أ) من قانون تنفيذ الاتفاق الانتقالي بشأن الضفة الغربية وقطاع غزة (الحد من النشاط) - عام 1994، ونسي أن الاتفاقية المذكورة تركت ملف القدس لمفاوضات الحل النهائي، بشرط عدم تغيير الواقع في القدس، مع أن الاحتلال لم يترك شيئا في القدس إلا مسّ به، لدرجة الجرأة على حرمة المسجد الأقصى.
 
قباب ومآذن وأسوار تحيط بها أسلاك شائكة، تحاول أن تطمسها وتمحوها من ذاكرتنا. هذه هي القدس وهي تُنتزع كل يوم من هويتها العربية. هذه هي القدس التي تسقط شهيدة في كل لحظة بعد أن بحّت الحناجر وبهتت الشعارات دون أن يكون هناك فعل إيجابي على أرض الواقع.
 
تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلية نفي المدينة المقدسة عن العروبة والإسلام، فلا يقتصر الأمر على التهويد، وتحجيم دورها الثقافي والتنويري، بل هي تسعى إلى الطرد التدريجي الممنهج لأهلها.
في هذا السياق، فإن محاربة الاحتلال للقدس الثقافية، لا يبعد كثيرا عن سياسة الترحيل بدلالاتها، والتي تنذر بانهيار عام قد يجتاح المدينة بشكل كبير، إذا لم تواجه دولة الاحتلال بمقاومة من المقدسيين والفلسطينيين والعرب والمسلمين عموما.
وليس الأمر مقتصرا على الثقافة والفنون بل يتجاوز ذلك إلى الوجود العربي نفسه في المدينة. فلا تخص الحياة الثقافية والفنية في القدس مواطنيها فقط، بل تخص الحياة الثقافية والفنية الفلسطينية بشكل عام.
القدس الثقافية، ما هي إن لم تكن كل ما في المدينة، من المدارس والجامعات والمستشفيات والفنادق ومراكز الفنون والمساجد والكنائس.
 في القدس الغربية تهويد وتغريب واضحان، حيث غدت مستوطنة لليهود المتدينين والمتطرفين، فانقضى عهد التعددية في هذا الشطر المغتصب منذ عام 1948.. في القدس الشرقية التي احتلت عام 1967، والتي بالصعوبة نصلها، مازالت رياح التعددية تقاوم التهويد، ثمة وجود إسلامي ومسيحي واضح، ولعل المؤسسات التابعة للكنائس والقنصليات الغربية على وجه الخصوص كثيرة، منها ما هو قديم خاص بالآثار كالمؤسسة البروتستانتية والبريطانية مثلا، إضافة لعدد من المراكز الثقافية كالمركزين الثقافيين البريطاني والفرنسي..في حين تعددت مرجعيات الوجود الثقافي والتعليمي في القدس، فمنه ما له علاقة بالمؤسسات الأجنبية والكنسية، وكذلك الأهلية، إسلامية كانت أو مسيحية.
يمكن رصد المؤثرات على الحياة الثقافية في القدس، من خلال رصد المراكز الثقافية والتربوية والفنية العامة، حيث لا يجد الباحث صعوبة في التعرف على الواقع، فما إن يبدأ باستقراء هذا الواقع حتى يصفع بما يمكن الاصطلاح عليه، بـ «عزل القدس» عن السياق العام في الضفة الغربية وقطاع غزة، كمكان للسلطة الوطنية الفلسطينية، حيث تم تأجيل القدس لما عرف بمفاوضات الحل الدائم، والذي مكّن دولة الاحتلال الإسرائيلي من العمل باتجاه تهويد المدينة، وتفريغ مضمونها، عبر الاستفراد بها، عن طريق الحفاظ على الأمر الواقع، الذي أصلا لم تلتزم به دولة الاحتلال الإسرائيلي، والتي سرعان ما بدأت بالانقضاض على الفعل الفلسطيني في القدس، عبر إقفال المؤسسات الوطنية، وعلى رأسها بيت الشرق.
فباستثناء بعض المدارس ومؤسسات الأوقاف في القدس، لم تستطع السلطة الفلسطينية التمدد في المدينة، كما لم تتمدد رمزيا ولا وطنيا، مكتفية بالقليل من الدعم، خصوصا لصحة المقدسيين، فتركت فراغا في القدس، كي يتم ملؤه إما بمؤسسات ما يسمى ببلدية الاحتلال، أو بمنظمات المجتمع المدني، التي لم تضع الثقافة الجادة، ولا القدس، ولا القضية الوطنية، أولوية للعمل، بل سارت في عملها وفقا لسياسة الممولين باتجاهات دمقرطة المدينة، والتربية على حقوق الإنسان والمرأة والطفل، وعلى الرغم من أهمية هذا العمل، إلا أنه لم يصب في تفعيل الهوية الثقافية الفلسطينية والعربية (القومية) من منظور مقاوم، وتحرري.
فصارت ثقافة القدس ثقافة لا تضع في أولوياتها الثقافة المقاومة، فاندفعت الجماهير والنخب المثقفة لتلبي ما يعرض عليها من مشاركة في ورشات أو ما يعرض لها من أعمال فنية، فصارت تتأثر بها، فحصل نوع من التشتيت الثقافي والقيمي، ففي الوقت الذي انخرطت فيه النخبة في هذه الأنشطة، اندفعت نخب أخرى باتجاهات الإسلام السياسي، بدوافع دينية واجتماعية، وفي كلتا الحالتين، تم إبعاد الثقافة قسريا عن الفعل الوطني والثقافي الحقيقي، الذي ينظر إلى القدس وفلسطين نظرة عميقة بنائية، تسعى نحو الانعتاق من الاحتلال، وبناء وطن حر، بإرادة حرة، بأجندات تنبع من داخل المواطنين والمواطنات، لا أجندات تشتيتية، لا تشكل الأساس المتين، في المقاومة والتحرر من جهة، والبناء من جهة أخرى.
وبذلك تكونت ثقافة جديدة بشكل خاص في القدس، دفعت الجماهير المثقفة لتكييف نشاطاتهم باتجاهات معينة، ودفعت - وكان ذلك بشكل أسهل - رجال المدينة ونساءها للمشاركة في هذه الأنشطة، لمجرد المشاركة وتمضية الوقت، وإثبات الذات عبر هذه النافذة الضيقة.
فإذا استقرأت هموم المقدسيين والمقدسيات، والتي تأتي في ظل التهويد، والبطالة، ستجدهم باحثين عن عمل وتعليم ومراكز صحية، وتأمينات اجتماعية، على طريق الخلاص الفردي، بعيدا عن الخلاص الجمعي، للقدس المحررة، وفلسطين الحرة المستقلة، والتي هي بالضرورة منطلق حل المشكلات الفردية، من عمل وتعليم وصحة وبناء بيوت وثقافة وفن..
نثق بذكاء الفعل الفلسطيني الثقافي والوطني والسياسي أيضا، للحكواتي-المسرح الوطني، والمقاصد، والبلدة القديمة، والمقدسيين وبيوتهم. أما المكان فهو اكبر من غرفة، وأما الزمان فزمان من يريد أن يكون في الزمان والمكان أيضا. وما دمنا اعتدنا على ردود فعل الاحتلال، صار من اللازم تغيير الأساليب.
 من المهم ايضا أن نفعل العامل الذاتي في استهداف المقدسيين والمقدسيات ثقافيا فيما هو تنوير، لان الاحتلال سعى الى خلق قدس ريفية لا مدينية في سياق ترييف المدن العربية أيضا، وهذا هو بيت القصيد أن نحضر ثقافيا ضمن ثقافة تنويرية في القدس.
-       تجريد المكان من الثقافة ماذا يعني؟
-       النفي، الذي يعني الترحيل.
-        ترحيل؟
-       ترحيل وتهجير!
-       والناس، والشعب؟
-       سيطول بقاؤهم أكثر كثيرا مما يتوقع الغزاة.
حين يحارب الاحتلال الثقافة، فإن هذا يعني أنه إلى انتهاء!