التمــويل الأجنبي‏ ..‏ والطـابـور الخــامس‏ ( الحلقة الثانية )‏
تاريخ النشر : 2013-10-03 14:27

يشكل التمويل الأمريكي لمنظمات المجتمع المدني‏,‏ جزءا من تدفقات مالية أوسع عبر مؤسسات تمويل دولية أوروبية بالأساس لمصر تتجاوز الملايين‏.‏

وتستقطب المنظمات العاملة بمجال الحريات العامة والحقوق السياسية ما يعادل95% من هذا التدفق سنويا, بعد25 يناير, ما يشكل إحدي آليات الاختراق الناعمSoftPenetration للمجتمع, كون هذه المنظمات تنفذ أجندة خارجية سواء بإرادة كاملة تحت إلحاح التمويل, أو من دونها. والمؤكد أن مصر ليست الاستثناء أو النموذج الوحيد علي تلك العمالة السياسيةPoliticalCliency وإنما رأينا نماذج مماثلة من حولنا بالعراق ولبنان وفلسطين.

هناك مشكلة تواجه تلك المنظمات, فهي من ناحية بحاجة للتمويل للقيام بدور حيوي في تنمية المجتمعات المحلية أمام ضوء شح مصادر التمويل الداخلية, ولكنها في نفس الوقت غير قادرة علي تحقيق الاستقلالية الذاتية عن أهداف ومصالح مصادر التمويل الخارجية.

وتعقدت تلك المشكلة في مصر, حينما غيرت إدارة أوباما قواعد اللعبة السياسية التي سادت علاقاتها مع مصر قبل25 يناير2011, التي كانت تؤمن مصادر تمويل أمريكية لمنظمات المجتمع المشهرة رسميا, وبعد موافقة حكومية, وبعيدا عن مخصصات المعونة الاقتصادية السنوية التي تراجعت إلي250 مليون دولار بالعام2013, وحسب مؤشرات موازنة عام2014, ستنخفض إلي188.5 مليون دولار. فبعد هذا التوقيت بدأ تدفق التمويل الأمريكي ومعه الغربي يتوسع ليشمل جميع المنظمات الرسمية وغير الرسمية, زاد الطين بله أن الإدارة الأمريكية لم تكترث بالحصول علي الموافقة الحكومية المصرية, بل واقتطعت حصة من المعونة لتمويل أنشطة تلك المنظمات, بهدف دعمها سياسيا وتمويليا.

وانعكست هذه التطورات علي معدل التدفق الحالي لمصر خلال العامين ونصف العام الماضيين, إذ لا توجد أرقام محددة لهذا التدفق السنوي, ليس بسبب تعدد الجهات الأمريكية المانحة فحسب, وإنما أيضا لعملية التعتيم عليها بعد الأزمة القضائية التي دخلتها تلك المنظمات مع الحكومة المصرية وبلغت مداها بأحكام السجن في يونيو الماضي. والاعتقاد العام أن هناك ما بين25 ــ30 مليون دولار ضخت سنويا لدعم تلك المنظمات. أي أننا نتحدث عن تدفق مالي حقيقي خلال الفترة الماضية بلغ80 مليون دولار للمنظمات العاملة بالمجال السياسي وحده.

المبالغة بتلك الأرقام أتت لعدم دراية الكثير بآلية هذا التدفق, بالإضافة للأنشطة الإنمائية التي تقوم بها وكالة التنمية الأمريكية بمصر, التي يدخلها البعض خطأ في التمويل الأجنبي, فحسب تفاهمات سابقة سمحت الحكومة لها بالتمويل المباشر لأنشطة اقتصادية وصحية بل وقضائية للجمعيات الأهلية داخل المحافظات التسع التي تعمل بها الوكالة. فعلي سبيل المثال حينما أعلن أوباما بعد28 يناير أن إدارته رصدت150 مليون دولار لدعم النشطاء السياسيين وتقوية مراكزهم السياسية والمؤسسية, كان ذلك تعبيرا عن خطط مستقبلية وتمويل متدرج علي سنوات, وما قدم بالفعل حسب بيان صادر من السفارة الأمريكية بالقاهرة لا يتجاوز65 مليون دولار لبرامج لدعم عملية الانتقال الديمقراطي التي تدعمها الولايات المتحدة, استفادت منها منظمات أهلية وأحزاب سياسية.

كما أن إعلان السفيرة الأمريكية آن باترسون خلال جلسة استماع باللجنة الفرعية للشئون الخارجية بمجلس الشيوخ عام2012 أن600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول علي منح مالية أمريكية, وأن بلادها قدمت40 مليون دولار خلال الخمسة أشهر الأولي بهذا العام لمنظمات المجتمع المدني لدعم الديمقراطية بمصر, إنما يستهدف تمويل مشاريع ممتدة زمنيا.

وثمة حقيقة يجب إدراكها عن طبيعة المؤسسات الأمريكية الداعية لنشر الثقافة الديمقراطية وتخليق مجتمع مدني قادر علي الاضطلاع بدور تنموي:

1 ــ تلك المؤسسات ليست مستقلة تماما, وإنما تقوم بتنفيذ أجندة خاصة مرتبطة بإحدي جماعات التأثير السياسي داخل دائرة صنع القرار الأمريكي سواء جماعات المحافظين الجدد بالحزب الجمهوري, أو الجماعات الليبرالية داخل الحزب الديمقراطي.

2ــ أطر عملها وأهدافها ذات صلة وثيقة بالعديد من المؤسسات الرسمية الأمريكية كالخارجية, وزارة الدفاع, ووكالة الاستخبارات المركزيةCIA.

 3 ــ بالإضافة للمصادر الذاتية, فإن جزءا كبيرا من تمويل تلك المؤسسات دوما ما يأتي عبر القنوات الرسمية الأمريكية. منها ما هو معلن بشكل رسمي بالمساعدات التي تقدمها الخارجية أو الكونجرس لقوي المجتمع المدني, في حين تبدو المساعدات التي تقدمها استخبارات وزارة الدفاع شبه سرية. والتدفق المالي الأمريكي يتم عبر7 مؤسسات اثنتان منها حزبيتان والبقية رسمية لارتباطها بوزارات حكومية أو الكونجرس. سنتناول منها اثنتين بتلك الحلقة اليوم, وعلي أن ننشر البقية غدا.

1 ــ المعهد الوطني للديمقراطيةNDI, ويتبع الحزب الديمقراطي وتديره مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة التي خلفت جيمي كارتر بهذا المنصب, ورغم أن المعهد أنشئ عام1983, إلا أنه لم يبدأ العمل بمصر إلا عام2005, وبشكل مؤسسي عام.2006 وللمركز ثلاثة فروع رئيسية بالقاهرة والإسكندرية وأسيوط. يدير من خلالها مشاريعه التي ترتبط بأجندة الديمقراطيين بنشر ثقافة حقوق الإنسان ودعم عمليات التحول الديمقراطي, والحريات العامة بالمجال الإنساني والوظيفي, وقبل ثورة يناير, كانت المنظمة المصرية لدعم الديمقراطية أكثر المنظمات التي تلقت الدعم المالي من المعهد, حيث مولت أنشطة المنظومة في مراقبة انتخابات عامي2005 و2010, ولكن بعد الثورة اتسعت رقعة المنظمات الأهلية التي حصلت علي دعم المعهد للعشرات.

وحسب إفادة رئيس المعهد كينيث والك, أمام اللجنة الفرعية للشئون الخارجية بمجلس الشيوخ في يونيو الماضي, فإنه خلال العام2011 شارك في برامج تدريب المعهد13 ألف مصري, عبر700 دورة تدريبية الكثير منها داخل مصر, والآخر بالأردن. وفي إبريل2011 قدم المعهد منحا بقيمة14 مليون دولار تم تنفيذها علي مدار عامين استهدفت برامج الإصلاح السياسي والديمقراطية. كما حصل المعهد من وكالة التنمية علي18 مليون دولار لتنفيذ برامجه التدريبية داخل مصر في: إدارة عملية الانتقال السياسي, وتجارب التحول الديمقراطي, وتدريب وتنمية قدرات الأحزاب السياسية علي المشاركة في الانتخابات من حيث التنظيم والدعاية, واستفاد منها العديد من كوادر الأحزاب المصرية. إلي جانب برامج دعم ومراقبة منظمات المجتمع المدني لمراقبة الانتخابات واستفاد منها أكثر من200 منظومة وجمعية أهلية. تنمية ثقافة الانتخاب والمشاركة السياسية للجمهور.

ومول المعهد إنشاء المعهد المصري الديمقراطي بنحو522 ألف دولار عام2012, هو شركة مدنية. بالإضافة لتمويل أنشطة العديد من المنظمات الأهلية سواء الكبيرة بالتعاون مع شركاء أوروبيين مثل المجموعة المتحدة محامون ـ استشاريون, وحصلت علي تمويل بنحو907 آلاف دولار, ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان245 ألف دولار, ومركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف,160 ألف دولار, ومركز ابن خلدون,1.4 مليون دولار, والمنظمة العربية للإصلاح الجنائي, حصلت علي تمويل بنحو2.1 مليون دولار.

2ــ المعهد الجمهوري الدوليIRI, ويترأسه السيناتور الجمهوري جون ماكين, وتأسس عام1982, وبدأ العمل رسميا في مصر عام2006, حينما تقدم بطلب للخارجية باعتماد مكتب إقليمي له بالقاهرة, وكان المعهد قد بدأ نشاطه قبل ذلك بعام.

وتتجه أنشطة المعهد الجمهوري الدولي إلي قضية الثقافة الديمقراطية, والعمل مع القوي الحزبية ومنظمات المجتمع المدني من خلال آليات التدريب والمنح المالية المرتبطة به. إذ دوما ما يمول المعهد الورش والحلقات التدريبية التي تخدم قضايا التعددية الليبرالية حسب التوصيف المحافظ بالمجالين السياسي والاقتصادي, بالإضافة لتمويل زيارات غير رسمية رشحتها منظمات أهلية وحزبية للولايات لمتابعة ومراقبة الانتخابات الأمريكية, بالإضافة لتمويل الأبحاث وجمع المعلومات. وكانت له مشاركة كبيرة في انتخابات عامي2011 و2012 من خلال دعم الأحزاب القديمة أو التي نشأت حديثا. وكان المعهد تلقي دعما ماليا من وكالة التنمية بقيمة14 مليون دولار لدعم أنشطته في دعم الحريات الاقتصادية والسياسية ونشر ثقافة الديمقراطية.

يمثل كل منهما نوعية القيم التي يؤمن بها القائمون علي إدارته وتمويله. فعلي الرغم من إعلانها أنهما غير منحازة بالمرة, غير أنها تمتلك علاقات لصيقة جدا بالقوي الحزبية الأمريكية, وتضم في مجلس إدارتها وهيئة مستشاريها أعضاء الحزب بالكونجرس, مما يجعلها منحازة بعمق للمصالح والقيم التي تتصور أنها تخدم بلدها بها. ما قاد لسياسة التدخل المادي المباشر في سياسة العديد من الدول الخارجية ذات السيادة لنشر تلك القيم المرتبطة دوما بالمصالح الأمريكية. والأهم أن عملهما يستهدف عمليات التغيير من أسفل, عبر إحداث تغيرات بنيوية في هيكل موازين القوي داخل المجتمعات غير الغربية, لتأكيد هيمنة الثقافة والقوي ذات الميول الغربية علي آليات صنع القرار داخلها.

 

الاهرام المصرية