روسيا من «القيصر الدُمية» إلى «قيصر الشعب»
تاريخ النشر : 2014-01-03 12:20

يمكن النظر إلى صعود «روسيا ـ بوتين» كنتيجة لعدة عوامل لم تكن متوفرة لنظام الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. وأحد هذه العوامل المهمة، برأينا، تدفق «الدولار النفطي» على روسيا حيث ارتفع سعر برميل النفط الروسي في عهد فلاديمير بوتين في المتوسط إلى 60 دولاراً للبرميل، بينما كان في عهد يلتسين حوالي 16 دولاراً فقط. وزاد الاعتماد في عهد بوتين على صادرات النفط والغاز، التي ارتفعت في إجمالي الصادرات الروسية من 30 في المئة إلى ما يقرب من 70 في المئة حاليا. كما زادت حصة عوائد تصدير النفط والغاز في ميزانية الدولة من 25 في المئة في عام 2000 إلى نحو 50 في المئة في الوقت الراهن. وهنا يتضح بجلاء مدى تبعية الاقتصاد الروسي لتصدير النفط والغاز. ولكن اللافت أن النمو الاقتصادي تراجع في العام المنصرم بشكل كبير، بالرغم من ارتفاع الأسعار العالمية للنفط.
لقد تحققت بعض المكاسب الاجتماعية أثناء حكم بوتين، فحسب البيانات الرسمية تضاعفت الدخول الحقيقية للسكان أكثر من مرتين. كما انخفض مستوى الفقر، حيث تقلص عدد السكان الذين يعيشون «تحت خط الفقر» من 29 في المئة إلى 16 في المئة تقريبا. غير أن ميخائيل ديلياغين، الاقتصادي الروسي المعروف، يقول إن نحو 80 في المئة من سكان روسيا يعيشون بشكل عام «عند خط الفقر». وكان النمو الاقتصادي في عهد بوتين مصحوبا بتفاوت اجتماعي كبير في توزيع الدخول، الذي يتراوح بين 16 و20 مرة بين الفقراء والأغنياء حسب البيانات الرسمية. ويمثل هذا التفاوت امتدادا لعهد يلتسين، كما هو الحال مع الفساد. فقد اعترف بوتين في العام 2007 بأن الفساد في روسيا من المشاكل التي عجز عن حلها.
وبالرغم من نجاح بوتين في إخماد الحركة الانفصالية في الشيشان، إلا أن هذا لم يمنع وقوع عمليات كبيرة من قبل الجماعات المسلحة الإسلامية المتطرفة، منها عملية مسرح «دوبروفكا» في موسكو في العام 2002، وعملية مدرسة «بيسلان» في أوسيتيا الشمالية في جنوب روسيا في العام 2004، وتفجيرات قطار الانفاق في موسكو في العام 2010. واليوم تعود التفجيرات الإرهابية من جديد في مدينة فولغوغراد في جنوب روسيا مع اقتراب موعد الألعاب الأوليمبية الشتوية في سوتشي، ناهيك عن الوضع المتوتر للغاية في شمال القوقاز الروسي خاصة في داغستان.
وعلى المستوى الخارجي، أيد بوتين في أيلول العام 2001 عزم الولايات المتحدة شن الحرب على حركة «طالبان» في أفغانستان بسبب أحداث 11 أيلول. واعتبرت الدوائر السياسية الروسية هذا الموقف مفيداً لروسيا، التي تشعر بالخطر من حركة «طالبان» سواء عليها أو على دول آسيا الوسطى السوفياتية السابقة. ووقعت الكثير من المناوشات بين الكرملين والغرب، حيت اتهم الأخير بوتين باستخدام سلاح النفط والغاز في السياسة الدولية، واتهمه أيضا بمخالفة حقوق الإنسان والسير نحو العودة إلى النظام الشمولي السوفياتي السابق. وزادت حدة التوتر بين بوتين والولايات المتحدة بسبب الدرع الصاروخية الأميركية وتوسع حلف شمال الأطلسي.
وكانت الحرب الروسية الجورجية في آب العام 2008 اختبارا مهماً يستكشف ميزان القوى في الساحة السوفياتية السابقة، حيث سنحت الفرصة لروسيا للتكشير عن أنيابها والتأكيد على أنها في طريقها لاستعادة عافيتها. وتمثلت الصفعة القوية للغرب في اعتراف موسكو باستقلال إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا. وأعلنت موسكو بوضوح أن لديها مصالح في القوقاز وآسيا الوسطى لن تتنازل عنها. ورداً على التغلغل الأميركي والأطلسي في الحديقة الخلفية لروسيا (القوقاز وآسيا الوسطى)، أرسلت روسيا سفنها الحربية إلى فنزويلا وكوبا للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ومرت مجموعة من هذه السفن عبر البحر المتوسط ورست في ميناء طرطوس السوري، في تلميح واضح إلى أن موسكو عائدة إلى البحار والمحيطات العالمية. هذا بجانب مواصلة روسيا زيادة قدراتها العسكرية بزيادة إنفاقها على التسليح بشكل واضح. وباتت الأزمة السورية «فرصة تاريخية» لتأكيد عودة روسيا كدولة كبرى تتقاسم المصالح والنفوذ على الساحة الدولية في ظل تعددية قطبية لا تزال في طور التشكل.
ولعل إحدى المشاكل الرئيسية لـ «روسيا ـ بوتين» تتمثل في منظومة سياسية داخلية تعتمد «ديموقراطية موجهة» تستبعد تداول السلطة العليا مع المعارضة، وتُقر فقط بـ تبادل هذه السلطة داخل مجموعة ضيقة من النخبة الحاكمة. وتعكس هذه المنظومة ما يسمى بنموذج «قيصر الشعب» صاحب الكاريزما، الذي يعتمد على دعم واسع من المواطنين، والذي يدخل في نزاع مع النخبة التي تشكلت في وقت سابق أو مع قسم منها. وذلك بعكس نموذج «القيصر الدُمية»، الذي يخدم مصالح رموز النخبة ويتبعها بقوة، والذي مثله بوريس يلتسين في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي. ويرى باحثون روس أن بوتين يجسد نموذج الزعيم صاحب الكاريزما، الذي يسيطر على الشعب لمصلحة النخبة، ولكنه يعطي انطباعا بأنه يتحكم في النخبة من أجل الشعب.
فعندما جاءت حاشية يلتسين ببوتين إلى الحكم، كان في ذهنها صيغة «القيصر الدُمية»، الذي تسهل السيطرة عليه كما كان الحال مع يلتسين (نموذج أنور السادات بعد وفاة جمال عبد الناصر). ولكن سرعان ما خرج بوتين من هذا النموذج بفضل الشعبية الكبيرة التي اكتسبها بسبب الحرب الثانية في الشيشان، واعتمادا على مزاج المجتمع المناهض لطواغيت المال والنتائج الكارثية للاصلاحات الاقتصادية في فترة التسعينيات من القرن العشرين. وبذلك تحول بوتين إلى دور «قيصر الشعب»، وأعاد هيكلة النخبة الحاكمة الموروثة من عهد سلفه، حيث اتفق مع البعض وطرد البعض الآخر من صفوفها، مضيفا إليها أعوانه. والتحمت الدولة عمليا في عهده مع «الأوليغاركيا المُطيعة» في ظل دور أساسي لنخبة بوتين الجديدة، المكونة من المنحدرين من أجهزة الأمن وأبناء مدينة بطرسبورغ مسقط رأس الزعيم. فنسبة ممثلي مؤسسات القوة في الحكومة وغيرها من مؤسسات الدولة، الذين يعتمد عليهم بوتين في حكمه تبلغ نحو 67 في المئة، من بينهم حوالي 25 في المئة منحدرين من المؤسسة العسكرية. ومع عودة «قيصر الشعب» إلى الكرملين في 2012 باتت أمامه تحديات خارجية وداخلية كبيرة، نعتبر الأخيرة منها الأهم في تحديد سيناريوهات المستقبل، خاصة أنها تتعلق بالاقتصاد ودرجة الحرية المتاحة وتصاعد «الاشتباكات» العرقية والاثنية والدينية، والإرهاب الذي بدأ يُطل من جديد.

عن السفير اللبنانية