أزمة السكن .. ســكين على رقاب الغــزيين
أمد/ غزة - تحقيق باسم ابو جري: ككرة الثلج المتدحرجة، تتعاظم أزمة السكن في قطاع غزة بفعل الحصار الإسرائيلي المفروض منذ سبعة وسبعين شهراً. وتتفاقم الأزمة جراء استمرار الاستهداف المباشر للمساكن ومنع دخول مواد البناء وحرمان الفلسطينيين من استغلال مساحات واسعة من الأراضي القريبة من الحدود. وواصلت قوات الاحتلال الإسرائيلي استهداف المنازل السكنية حتى بعد تنفيذها خطة الفصل أحادي الجانب حيث تسببت في تدمير عشرات آلاف المساكن في ظل حصار مشدد، منعت بموجبه دخول مواد البناء.. كما فرضت مناطق مقيدة الوصول يصل مداها إلى 1500 متر على امتداد حدود قطاع غزة الشرقية والشمالية. إن هذه الإجراءات الممنهجة واللاإنسانية أفقدتنا عدد كبير من الرصيد الوطني الإسكاني، و زادت نسبة التكدس في المساكن، والتجمعات السكانية، كما أفرغت مفهوم الحق في السكن المناسب من مضمونه باعتباره حق أساسي من حقوق الإنسان كفلته المواثيق الدولية. ووفقاً لمعطيات الزيادة الطبيعية في تعداد السكان فإن القطاع بحاجة لحوالي (242.505) وحدة سكنية جديدة بحلول عام 2020، فيما تقدر حاجة القطاع حتى نهاية العام الجاري 2013 بحوالي (106.026) وحدة سكنية جديدة. وتمكن الفلسطينيون من إنشاء حوالي (15.000) وحدة سكنية من هذه الاحتياجات التي من بينها مشاريع إعادة الإعمار والقطاع الخاص في الفترة (2011 - مايو2013)، وذلك خلال الانفراجة العمرانية الجزئية التي شهدها القطاع غزة بعد دخول كميات من مواد البناء عبر الأنفاق والمعابر. ومما تقدم يظهر اتساع الفجوة بين العرض والطلب على المساكن، مما أفرز حصيلة يومية مروعة على حياة الناس ليس فقط في وجه الباحثين عن مأوى كالأزواج الشابة، والقاطنين بين الجدران المهترئة والضيقة. بل أيضاً للباحثين عن فرص العمل خاصة عمال البناء والتشييد، الذين انضموا لصفوف البطالة جراء نقص مواد البناء، مما ضاعف من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية على حد سواء. وهذا دفع المراقبين الدوليين للتعبير عن خشيتهم بأن القطاع بحلول عام2020م، سيصبح منطقة غير ملائمة للعيش، بسبب استمرار أزمة الإسكان. إن الحق في السكن المناسب هو حق من الحقوق التي كفلها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، و يشكل أحد أهم الركائز الأساسية لحياة الإنسان وإحساسه بكرامته المتأصلة. وأهمية هذا الحق تبرز كونه يصون حقوق أخرى، مثل الحق في الصحة، والحق في التعليم، والحق في الحياة. وجراء هذا العقاب الجماعي ل(1.7مليون نسمة)، ظهرت مأساة حقيقية للأسر الفلسطينية لا سيما الأطفال والنساء.
أطفال يدفعون الثمن!! في مسكنه المكون من غرفة واحدة انطلقت صرخة المواطن (ر، م) من سكان مخيم المغازي وسط القطاع، كونه أحد المعلقة قلوبهم بالمعابر، تلاحظ أثناء زيارته في مسكنه كثرة "البخاخات الطبية" التي يستخدمها للعلاج وتجده يلازم المذياع لعله يلتقط نبأ فتح المعابر ودخول مواد للبناء. ينام في الغرفة اليتيمة ويصحوا الرجل وزوجته وأبناؤه، فيقول: " تكاثرت أسرتي في هذه الغرفة حتى أصبح عددهم (13 فرداً)، جميعهم تلاميذ في المدرسة، وأحمد التحق في الجامعة هذا العام. ويؤكد أن مسكنه مساحته (30 متر مربع)، وهو عبارة عن غرفة ودورة مياه ومطبخ، مسقوف جزء منه بالباطون، والبقية بألواح (الاسبستوس) . فصل الصيف بالنسبة له أفضل حيث يستطيع أولاده النوم على سطح المطبخ، وقد أضطر لإغلاق الشارع الضيق المحاذي للمنزل بهدف توسعة مسكنه ليضع فيه الغسالة ووعاء الدقيق. يفتقر للتهوية ودخول الشمس لذا تلازمه الرائحة الكريهة والأمراض التي أنهكت أجساد أطفاله, عن ذلك يتابع:" أتلقى علاج نفسي في عيادة حكومية، ويصرف لي دواء من عيادة المخيم التابعة (للأونروا) على شكل أقراص و"بخاخات طبيبة" لعلاج ضيق النفس ,ابني فوزي يعاني من أزمة صدرية ويتلقى علاج في عيادة المخيم ويحصل على تبخيرة، وابنتي دعاء تعاني من أزمة قلبية واستلمتُ لها (جهاز التبخيرة) وهي تتألم باستمرار أما ابني الأكبر أحمد فيعاني من (الروماتيزم) في عظام أطرافه العلوية والسفلية وقد أخبرني الأطباء أن الرطوبة العالية في المسكن وعدم التهوية إصابته بالمرض وزوجتي تعاني من (انزلاق غضروفي) وقد أخبرها الأطباء بمستشفى دار الشفاء بضرورة العيش في مسكن صحي" . ويصف معاناته متابعاً: " أحمل بطاقة لاجئ مسجل في (الأونروا)، وسبق أن تقدمت بشكوى عن ظروف المسكن فأرسلوا لي باحث للكشف عن أوضاع المسكن وسجل الملاحظات ، ثم تلقيت نبأ قبل الحصار من إحدى موظفات (الأونروا) انه يوجد لك شقة سكنية في مدينة خان يونس وحال تجهيزها ستسلمها، لكن الظروف في القطاع ازدادت سوء بعد إغلاق المعابر ولا زلت أحلم برؤية الشقة الموعودة. وأتابع المذياع يومياً لأسمع خبر فتح المعابر وانتقل من هذا الجحيم إلى النعيم الموعود". غاية ما يتمناه هو الحصول على شقة تدخلها أشعة الشمس والهواء، وبها إنارة جيدة تشمل الحد الأدنى من مقومات الحياة حتى يعيش أطفاله كبقية أطفال العالم.
وجع الفقدان والحرمان!! قصة ثانية من نصيب المواطن (ر.ع) الذي أجلسنا في غرفة بمنزله قرب الباب الخارجي المطل على شارع بعرض متراً واحداً في مخيم النصيرات، غرفته محشوة بالملابس وبها فرشة مغطاه ببطانية لعزل برودة الأرض . يقول(ر.ع):" هذه الغرفة عرضها (4 متر) وطول المنزل (12متر) هذه هي مساحة المنزل، فيه مطبخ وحمام وغرفتين بالأعلى، وحصيلة زواجي منذ ثلاثة وثلاثين عاماً أربعة عشر فرداً، قتل الاحتلال الإسرائيلي أحدهم سنة 2007، واعتقل الآخر سنة 2011". اخترق رنين هاتفه النقال كلامه فقربه من عينيه وتابع : " هذا هو تأثير ضيق المنزل نظري ضعف ولا استطيع قراءة الأرقام ,عدد من أولادي يعانون من ضعف في النظر، وتأثيرات الوضع الصحي طالت مستواهم التعليمي فتسرب ثلاثة من المدرسة، أما بناتي وأمهم فيناموا في غرفة، وأنا وثلاثة أولاد في هذه الغرفة التي نستخدمها لتخزين الملابس واستقبال الضيوف ، اثنين من أولادي صنعوا لهم كشك نايلون على سطح المنزل للنوم أرضه قطعة خشب حتى لا تصله مياه الأمطار والبرودة فمواد البناء غير متوفرة" . ويشير أن ضيق المأوى يجبره وأولاده على المكوث في الشارع لساعات طويلة بحثاً عن الهواء النقي والشمس، فلا يدخلونه إلا للنوم.
صراع البقاء!! يقول السيد (ن، س) إن الاحتلال الإسرائيلي أجبره على العيش في خيمة منذ ثلاثين شهراً وهي لا تقيه من برد وأمطار الشتاء ولا من الحرارة والحشرات والزواحف في الصيف. ويفصل الرجل معاناته قائلاً " منزلي يقع جنوب شرق مدينة غزة بالقرب من الحدود مع (إسرائيل) ضمن ما يعرف (المنطقة العازلة)، لدي أربعة أولاد وبنت وبعد عشر سنوات من زواجي في 13/7/ 2010، اختطفت قذيفة مدفعية من الاحتلال زوجتي نعمة وأصيب أفراد من أسرتي بجروح وبعضهم أصبح يعاني من صدمات نفسية" . نصح الأطباء الأب بتوفير مكان ملائم للسكن وزيادة فترات اللعب والترفيه للتغلب على المشاكل النفسية, وبعد أقل من عام على وقوع الجريمة الأولى وبتاريخ 28/4/2011، تعرضت شقته للقصف بعدة قذائف مدفعية من الاحتلال فأصيب عدد منهم ودمرت محتويات وجدران الشقة، فانتقل للعيش في خيمة قدمتها له اللجنة الدولية للصليب الأحمر فأقامها وسط الحقول الزراعية. ويضيف: " حصلت على مساعدة مالية من (الأونروا)، وبدأت في تشييد منزلا ، ونظراً لنقص المواد الخام وارتفاع الأسعار بقيت أسرتي في الخيمة التي تمزقت من القدم والطقس" . وختم حديثه قائلاً: "منذ ثلاثين شهراً وأنا أناضل لتجهيز مأوى متواضع علماً أن تشييد المسكن لا يستغرق أكثر من ثلاثة أشهر في الأوضاع المستقرة، أملي في مطلع العام الجديد أن يفرح أطفالي بنوم هادئ في مسكن جديد".
الفتاة. أيضاً محاصرة!! قصة أخرى من نصيب إبراهيم الذي حرمه الحصار من فرحة العمر, كانت أحواله قد تحسنت مطلع العام الماضي بعد دخول مواد البناء من الأنفاق الواقعة بين غزة ومصر، وعمل مع مقاول بناء، ووفر مبلغا من المال، وعقدت قرانه على فتاة . ويضيف : " جهزت المال لبناء غرفة ودورة مياه على سطح منزل عائلتي لأتزوج لأنني بلغت تسعة وعشرين عاماً، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن فالأوضاع تدهورت في النصف الثاني من العام، ونفدت مواد البناء من السوق خاصة (الإسمنت) والحديد، بحثت عن شقة للإيجار لم أجد، العادات والتقاليد لا تسمح بتمديد فترة الخطوبة ، والزواج معطل حتى إشعار آخر". صرخة في واد. مفوض عام (الأونروا) "فيليبو غراندي" يصرح بأن 19 من أصل 20 مشروعاً إنشائيا تابعين (للأونروا) في غزة قد توقفت بسبب الحصار. ويضيف أن (الأونروا) ومنذ آذار الماضي لم تحصل على أية موافقة من الحكومة الإسرائيلية على أي مشروع إنشائي، وأنها لم تعد قادرة على استيراد مواد البناء، ويطلق "غراندي" تحذيرا بشأن الاستقرار الإقليمي قائلاً: "إن غزة تتحول بشكل سريع إلى منطقة غير صالحة للسكن.." ويتابع: "لربما يكون تعزيز الأمن الإنساني للناس في غزة هو السبيل الأفضل من الإغلاقات المادية والعزلة السياسية والعمل العسكري لضمان الاستقرار الإقليمي الحصار–غير الشرعي- ينبغي أن يتم رفعه أولا وقبل كل شيء. ينبغي السماح للأمم المتحدة بأن تواصل على أقل تقدير العمل بمشاريعها الإنشائية وتوفير بضعة وظائف للسكان المحاصرين". إحصائيات وأرقام. الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أصدر بيان بمناسبة يوم الإسكان العربي الذي صادف في الأول من شهر تشرين أول الماضي، أكد فيه أن ما نسبته (62.2%) من الأسر في قطاع غزة بحاجة إلى وحدة سكنية واحدة على الأقل، و (29.3%) منهم لديهم القدرة المالية على بناء وحدة واحدة على الأقل. وفي دراسة نشرت لوزارة الأشغال والإسكان أعدت بالتعاون مع المجلس النرويجي (NRC) فقد ذكرت أن المشاريع التي أشرفت الوزارة على تنفيذها وشاركت فيها هي مشاريع إنشاء وحدات سكنية خاصة لتعويض متضرري الحروب والاجتياحات التي شنّتها قوات الاحتلال على قطاع غزة في الفترة السابقة، وأظهرت الدراسة أن القطاع بحاجة لحوالي (242.505) وحدة سكنية جديدة بحلول عام 2020، فيما تقدر حاجة القطاع حتى نهاية العام الجاري 2013 بحوالي (106.026) وحدة سكنية جديدة، وخلصت الدراسة أن ما تم بناؤه عن طريق الوزارة أو بالتنسيق مع المؤسسات الأخرى لا يغطي سوى (14%) من حاجة القطاع الإسكانية المتراكمة. المراكز الحقوقية تتابع الأزمة. في تقرير نشره مركز الميزان لحقوق الإنسان عن واقع السكن، ذكر أن الكثافة السكانية في قطاع غزة بلغت (4.661) فرد/كم2، كما بلغ متوسط كثافة السكن (1.6%) فرد للغرفة، بينما يعيش ما نسبته (9.6%) من سكان القطاع في مساكن ذات كثافة مرتفعة بواقع (3) أفراد في الغرفة الواحدة. وأوضح التقرير أن الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة له تداعيات سلبية وخطيرة على تنفيذ مشاريع الإسكان خاصة مع الضعف الشديد في مواد البناء الواردة للقطاع عبر معبر كرم أبو سالم، وبعد قيام الجانب المصري بالإغلاق المتكرر لمعبر رفح، وهدم الأنفاق التي كانت تستخدم لإدخال مواد البناء. وأشار التقرير أن من بين الأسباب التي تزيد من أزمة السكن، الاعتداءات المتكررة من جانب قوات الاحتلال الإسرائيلي والتي ينتج عنها تدمير لمساكن الفلسطينيين والبني التحتية، بالإضافة لسوء الأوضاع الاقتصادية وتفشي ظاهرة البطالة والفقر، وغياب المصادر التمويلية الكافية، إضافة للتأخير في المشاريع التي تنفذها المؤسسات الدولية نظراً لأنها تتطلب الحصول على الموافقة الإسرائيلية، وأخيراً ندرة وقلة الأراضي في القطاع وارتفاع أسعارها.
المواد الخام. يقول السيد محمد النجار رئيس بلدية المغازي في قطاع غزة، أن العلاقة طردية بين دخول مواد البناء والخدمات المقدمة وتحسين ظروف السكان من جانب البلدية، فكلما نقصت مواد البناء، تفقد شريحة كبيرة من العمال لأماكن عملها خاصة (عامل البناء، والطلاء، والقصارة، وعمال الألمونيوم، والنجار، وأيضاً المهندس وبائع الأثاث وخلافه . ويضيف:" تنعدم مقدرة هذه الشريحة على دفع مستحقات البلدية، وفي نهاية الأمر لا يكون باستطاعة البلدية تقديم خدماتها للمواطنين وهذا يزيد من سوء الظروف المعيشية للمواطنين" . التأثيرات النفسية من جانبه يؤكد د. درداح الشاعر أستاذ علم النفس المساعد في جامعة الاقصى" أن غياب المسكن المناسب، يخلق حالة من الكدر والقلق والتوتر النفسي وعدم التركيز وشرود الذهن و يؤثر على حالة التوافق والتكيف الاجتماعي . ويضيف " عندما يحرم الإنسان من فرصة العمل، ومن ثم فرصة المسكن والزواج، يصبح الطموح والمستقبل بلا قيمة".
وبالنظر إلى تصاعد معاناة غزة من أزمة السكن يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية تلك المعاناة فقد سمح من خلال صمته أن يكون قطاع غزة حقل تجارب، لاسيما للاحتلال الإسرائيلي . وثمة سؤال يتردد في فضاء غزة "ألم يحن الوقت لتطبيق العدالة و ليتمكن الغزيون من التمتع بحقوقهم وعلى رأسها الحق في السكن الملائم؟!!" .