مانديلا ..الدرس الذي رسبناه ..!

تابعنا على:   14:25 2013-12-15

أكرم عطا الله

اليوم تحط الرحلة الطويلة لأحد ضمائر الإنسانية رحالها في كونو قريته التي أهدت للبشرية تلك القامة العملاقة ، اليوم يواري جثمان الرجل الذي ملأ العالم صخبا منذ أن أعلن التمرد مبكرا على الظلم فأقسم أن ينشر العدل والمساواة وسط عالم ينوء بالقسوة واستعباد البشر والتمييز والمصالح وصراعات السلطة والثروة ، "لا أحد مثله ...كان فريدا "هكذا قال لنا وريثه جاكوب زوما وهو يودع " أبو الأمة " التي اجتاحها شعور باليتم .

نشر صديقي على صفحة التواصل الاجتماعي صورة اختصرت آلاف الكتب والمجلدات وآلاف السنوات من العمل من أجل العدالة والإنسانية صورة شاب أبيض من جنوب أفريقيا يحتضن عجوز سوداء يبكيان معا الرجل الذي حقق معجزة المساواة في وطن كان نموذجا للعنصرية والظلم، السيد القديم يحتضن ما كان لونها يجعلها في منزلة أكثر انحطاطا فأصبحا سيدين معا .

 "لن يحدث أبدا أبدا أبدا مرة أخرى في هذه البلاد الجميلة أن يتم قمع طرف بواسطة طرف آخر "بهذه الكلمات تعهد نيلسون مانديلا أمام زعماء العالم في منتصف تسعينات القرن الماضي أثناء حفل تنصيبه كأول رئيس أسود لتلك البلاد الجميلة ليس فقط بطبيعتها الساحرة بل بالنموذج الذي قدمته في التسامح وأعطت للبشرية تجربة رائدة في الأخوة الإنسانية بعيدا عن الاستعلاء واحتقار البشر والتمييز بينهم على أساس اللون والجنس والعرق ومن دولة كانت منبعا للعنصرية في ثمانينات القرن الماضي إلى دولة تعطي وجها حقيقيا لإفريقيا السوداء إنه بحق يستحق وصف الرجل الذي غير وجه القارة السمراء .

 " كان لدي موعد تأخر ربع قرن مع رجل رفعت رأسي من بعيد كي يراه ثم حالت ظروف قاهرة بيني وبينه لألقاه وحين جئت إلى مصر كان من سوء حظي أن جمال عبد الناصر لم يعد هناك " هكذا أسرنا الراحل الكبير وهو يزور القاهرة عام 95 باحثا عن ما تبقى من أبو القومية العربية والكرامة العربية ففي عام 62 كان محمد فايق وزير الشئون الإفريقية والإرشاد القومي لدى الزعيم عبد الناصر قد رتب موعدا للقاء بين الذين حملوا على أكتافهم هموم الإنسانية متمردين على الظلم مانديلا وعبد الناصر فيعتقل مانديلا قبل يومين من اللقاء وطال الانتظار لثلث قرن وحين حضر مانديلا ملبيا الدعوة لم يكن عبد الناصر هناك ...هكذا هو قدر الثوار وأحلامهم وإخلاصهم وذكرياتهم التي نحملها ونحفظها ونعيد تدريسها لأولادنا .....كانوا عظماء في زمن القهر.

أعظم الانتصارات هي الانتصار على النفس وأعظم النفوس هي التي تتسامى على الحقد حين تكون محملة بإرث ثقيل وهنا كلمة السر في روح مانديلا الذي أراد أن يقولها للعرب في رسالته قبل عامين وهو يرى حجم الحقد المتناثر في شوارعهم وحجم القتل والدمار والتشفي حين حدث تغيير للنظام في بعض الدول ، كان الرجل قلقا من ثقافة عربية تسيطر عليها لغة الانتقام والتشفي فكتب أجمل الدروس التي رسب بها العرب مجددا قائلا في رسالته" خرجت إلى الدنيا التي ووريت عنها سبعا وعشرين عاما لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد ورغم أن اللحظة أمام سجن فكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلا ؟ ... إن إقامة العدل أصعب كثيرا من هدم الظلم .. ثم استمر قائلا أنا لا أفهم العربية للأسف لكن ما أفهمه عن تفاصيل الجدل السياسي اليومي في مصر وتونس تشي بأن معظم الوقت هناك مهدر في سب وشتم كل من كانت له صلة وتعاون مع النظامين البائدين وكأن الثورة لا تكتمل إلا بالتشفي والإقصاء .. أتفهم الأسى الذي يعتصر قلوبكم وأعرف أن مرارات الظلم ماثلة .. عليكم أن تتذكروا أن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد فاحتواؤهم ومسامحتهم هي أكبر هدية للبلاد في هذه المرحلة ثم أنه لا يمكن جمعهم ورميهم في البحر ثم أن لهم الحق في التعبير عن أنفسهم ".

وعن تجربته الشخصية كتب مانديلا مخاطبا العرب أذكر جيدا أنني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعا واسعا من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق لكن وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا الخيار الأمثل لولاه لانجرفت جنوب أفريقيا إما إلى الحرب الأهلية أو إلى الدكتاتورية من جديد وتخيلوا لو أننا في جنوب أفريقيا ركزنا جهودنا كما تمنى الكثيرون على السخرية من البيض وتقليم أظافرهم لما كانت جنوب أفريقيا واحدة من أروع قصص النجاح الإنساني أتمنى أن تستحضروا قول نبيكم " اذهبوا فأنتم الطلقاء " .

هذه الثقافة الإنسانية الرائعة التي كانت وراء نهضة جنوب أفريقيا لتدخل بفضل سواعد كل أبنائها من السود والبيض مجموعة العشرين الأكثر تطورا اقتصاديا على مستوى العالم وبفضل ثقافة التسامح التي قادها مانديلا ،العرب هم أحوج أن يقرؤوا تلك التجربة ولكنهم أمة لا يجيد القراءة لا تجيد الاستفادة من التجارب الإنسانية فتجربة مانديلا جديرة بالتمعن بهدوء ولكننا انشغلنا بالسؤال هل أن الترحم على مانديلا حلال أم حرام وهو السؤال الذي يعكس مستوى جهلنا وعجزنا عن الاستفادة من إرث الإنسانية التي نفتش دوما في قشورها دون الاستفادة من تجاربها الغنية فقد شكلت تجربة مانديلا كلمة السر التي لو فهمها العرب ستكون كفيلة بنقلهم إلى مستوى الدول المحترمة والحضارية والمتطورة ولكنا كتراثنا الطويل والدامي انتقاميون ثأريون متخلفون لم تغيرنا كل هذه التجارب وبقينا كما نجن من داحس والغبرة إلى داعش والنصرة .

علينا الاعتراف بفشلنا في بناء الدولة ولا زالت الدول العربية مجموعة من القبائل المتناحرة ولا زالت العنصرية جزء من إرثنا الثقافي هذا شيعي وذلك سني وتلك كردية وهؤلاء أقباط وأولئك سنة ودروز وعلويون ولا تنتهي تلك التصنيفات التي تحمل قدرا من العنصرية والتمييز عن الآخر والتي تنتزع المواطنة عن مواطن عاش آلاف السنين على هذه الأرض يتم تصفيته وفقا لاعتبارات تجاوزتها البشرية والأمم التي نجحت في بناء دولها وبقينا نحن حيث تركنا التاريخ على أحد أرصفته نتقاتل ونتعارك بانتقام وتسود لغتنا ثقافة التصنيف والعنصرية وكلما تحدثت مع أحد فانه يشتم الآخر وتسود لغة التشفي والإقصاء والإلغاء وإذا تحدثنا عن المصالحة يقولون لك أنسيت ماذا فعلوا بنا؟حتى شيوخنا كانوا أشد الدافعين للفتنة والقتل والإقصاء وشطب الآخر في الوطن حين استدعوا كل تلك النعرات المذهبية بشكل تخجل منه الأمم .. يا سادة انسوا مانديلا الذي تحمله البشرية على رأسها وابقوا في حساباتكم واهدموا دولكم ولكن لا تقولوا أنكم تستحقون الحياة كباقي الشعوب ،في كتابه رحلتي نحو الحرية يتذكر مانديلا في شبابه أنه داعب أحد أصدقاءه يوما قائلا من يدري قد يأتي يوم ويصح لي فيه تمثال وذكرى في جنوب أفريقيا لكنه حينها لم يكن يعلم أن ستكون له تماثيل في الساحات والمتاحف العالمية وذكرى في قلوب الملايين فهو استحق لقب أيقونة الإنسانية فليرقد بسلام ..!

اخر الأخبار