أحلام الاستقرار عن مياه المتوسط

تابعنا على:   12:40 2015-05-21

نسيم الخوري

خلافاً لكل ما يشاع عن تطويع العالم وتلقين القاطنين في الشرق الأوسط، وبمختلف الأساليب والطرائق، مفاهيم مثل الحريّة والديمقراطية والعدالة والمساواة، وغيرها من الأفكار التي تستحوذ على انتباه الكثير من الأجيال الشابّة والشعوب، فإن الواقع، كما يبدو لي، هو في مكان آخر خيالي خطر، وخطره تظهره تلك المصطلحات أفخاخاً لمزيد من الفوضى والازدواجيات في السياسات والمواقف الدولية.
ومن يحدق مليّاً حوله يدرك تماماً أن تلك المصطلحات التي تجرف بلادنا بعدما جرفت فلسطين، تبدو كأنها غير موجودة حتى في الدول الحضارية التي تدعو إليها.
إننا نعيش عبودية مقنعة وحيرة وضغوطاً هائلة والتباسات إقليمية ودولية، حتى بتنا مسكونين بالقلق.
وما نراه من حولنا بالعين المجردة أو عبر الشاشات يخالف الوقائع والقوانين والشروط التي تحقق وجودنا كبشر ولدتنا أمّهاتنا أحراراً.
منذ سقوط البرجين في الولايات المتحدة الأمريكية، سقطت، أو راحت تسقط تلك المفاهيم في هذه المنطقة الخصبة من العالم.
هي بلاد خصبة بكنوزها السماوية والجوفية وقيمها.
ومعها سقطت، وما زالت تسقط، مجموعات من الأنظمة والأوطان والثوابت والقيم والأفكار، وسقط العرب تحديداً في قبضة العين العالمية التي تكاد تشعرك كأنّك إرهابي مراقب كيفما، وأنّى اتجهت في القارات.
أعتقد أن أهمّ ما يطلبه العالم اليوم في الغرب والشرق، هو الاستقرار مصطلحاً واحداً يساوي المصطلحات المستوردة كلها على شكل حروب أو فتن مذهبية وطائفية.
في زيارتي العلمية منذ أسبوع إلى العاصمة الفرنسية مثلاً، شعرت بعدم الاستقرار.
تجوب الفرق العسكرية أنفاق المترو حاملة أسلحتها، وفي حالة استنفار يخيف طوال النهار والليل.
تجدهم أينما ذهبت في الشانزيليزيه والحي اللاتيني، كما محطات شارل ديغول وشاتليه ومونبارناس ودون فير روشيرو أكبر محطات قد يوجد فيها العرب.
تسأل عن تلك المظاهر غير المسبوقة وغير المألوفة أبداً في باريس، يجيبونك: التهديدات الإرهابية المتصاعدة.
تسأل أكثر، يقولون: إن وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لو دريان أمر بنشر عشرة آلاف عسكري منذ منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، وسيبقون يؤازرون البوليس.
مبدئياً، حتى بدايات الصيف، هناك 7 آلاف يحرسون المراكز الدينية، وتحديداً المراكز اليهودية.
هناك فرقة استثناء واحدة أمام كنيسة نوتردام التي تزوّج فيها نابليون بونابرت.
ويتوزّع الثلاثة آلاف عسكري المتبقون على المناطق السياحية والمطارات ومحطات القطار الاستراتيجية من باريس.
قد تتعرّى في أروقة المطارات حتى من تلبيسة أسنانك، إن كنت أسمر مجعّد الشعر.
أنت مراقب، والكاميرات مزروعة مثل مصابيح الإنارة في الشوارع، ليس في باريس وحدها وإنما في عدد من العواصم والمدن والأسواق والمجمّعات التجارية، وهناك من يتابعك في سريرك حاملاً الأي باد أو الهاتف المحمول أينما كنت.
أنت مراقب في منزلك ومكتبك وأرجاء عملك ومدرستك وجامعتك، كما في دور العبادة والسينما والاجتماعات، وهناك من يسجل تحركاتك وسلوكك وصورك وعلاقاتك طوال النهار، ويلحق بك إلى زواياك الحميمة، فيسجل لك أي اتصال تقوم به من هاتفك العادي أو الخلوي، وتُجمع عنك المعلومات التفصيلية الهائلة قبل أن تفتح لك نافذة اتصالية لبريدك الإلكتروني، أو ل«فيس بوك» أو «تويتر»، ويبدو لك الإنسان الرقمي الذي هو أنت، وقد أدخل تحت لسانه وبين أصابعه وفي تموّجات عقله وفكره وخياله الصامت أجهزة فائقة القدرات تعمل بدقة متناهية، وبموجب برامج وآليات مرسومة، ليس لتسجيل كلّ ما ينبس به حبرك وتحليله، بل لحفظه نقطة ضوء في عالم متقن يسهل تخزينه وأرشفته واستعماله عند الضرورة، وعند بروز أي ملمح يشتبه في أنّه يضمر الإرهاب مهما كان نوعه ومستواه.
تقليدياً، استهلك الكثير أعمارهم وفق مقولة محفوفة بالخوف والتوجّس من أجهزة المخابرات التقليدية في الدول، وكان المعيار الأساسي المخيف فيها، أن قلم الدولة يعنيها الأمن والاستقرار قبل كل شيء.
وعليه يمكننا أن نتساءل بالخطّ العريض: ما هي الحرية، بل كيف تحقق حريتك عبر الفوضى والحروب والحقن المذهبي والطائفي؟ ما معنى الفتون بالكلام عن حقوق المرأة وحقوق الطفل، أو مشاركة المواطن العربي في بناء الرأي العام، أو الإرشاد إلى قراءة دستورك، واستكشاف المجتمع المدني، أو تعليمك كيفية تأسيس الأحزاب والجمعيات وبناء الدساتير، إلى نصائح لا تنتهي في المواطنية، والطريق إلى الديمقراطية، وغيرهما من عناوين الكراريس المقتضبة والكتيبات والنشرات والصور وعناوين الجمعيات الأمريكية والمحلية، التي نجدها مجّانية وكثيرة محشورة في صناديق البريد أو تحت الأبواب، كما نجدها فوق الشاشات أسواقاً مغرية ممتدّة لا تنتهي، وهي توجز نصوصاً مستوردة باللاتينية أو معرّبة في التنمية المستدامة والتنمية المؤسساتية وردم الأودية، والهوات الكثيرة المنصوبة بين الأنظمة العربية كما بين الأنظمة والشعوب، وما بين الشعوب ومواطنيها إلى آخر المعزوفة الخاصة بتحقيق مصطلحات الشرق الأوسط الكبير وتحوّلات الدول نحو المجهول.
‏إنها أمور وعناوين، تشغل يقظة المجتمعات المدنية غير الحكومية أو الهيئات الإنسانية التطوعية المعنية بالتثقيف والتوعية والتماسك والاندماج الاجتماعي، بهدف تخليصها من الشعارات والمصطلحات والأوراق والأنشطة التي لا تفضي قطعاً إلى الاستقرار.
لو سألت قاطني الشرق الأوسط اليوم فرداً فرداً: ماذا تنشد: الحرية والديمقراطية أم الاستقرار؟ لست بحاجة إلى الدراسات والإحصاءات.
تحلم شعوبنا والأغلبية بالاستقرار.
صحيح أنّ العين هي الحاسّة الأخيرة التي تستيقظ لدى الإنسان بعد ولادته، وهي تحتوي على 135 مليون خلية حسيّة مسؤولة عن التقاط الصور وتمييز الألوان، وهي حاسّة ذكورية الخصائص، وصحيح أن الأذن هي الحاسّة الأولى التي تبدأ عملها قبل الولادة في جسد النطفة، وهي أنثوية الخصائص، وصحيح أيضاً أن العين والأذن قامت عليهما أسرار الدول وأمنها واستقرارها، لكن الأصحّ أنه بزواج العين والأذن بالمعنى التقني الاتصالي، انفتح العالم على سلطات الشاشات الزجاجية التي لا تنتهي، تلتقط كل شيء في استطالات للنفوذ الدولي والإقليمي لم يكن عاقل يحسبه.
تلك ظواهر مقلقة تغتصب الحريات والديمقراطيات والخصوصيات والتواريخ والقيم وتكشف الأغطية، لكنها مطمئنة في عصر الإرهاب والتفجير والجرائم العابرة للقارات.
ويبقى الاستقرار هو السؤال الذي لم يحطّ عبر التاريخ فوق خرائط المتوسط وفي تتابع الأجيال.
عن الخليج الاماراتية

اخر الأخبار