عن أميركا المتآمرة وإيران الحنون...

تابعنا على:   11:39 2015-05-12

عصام الخفاجي

إن لم يسعف العراقيين الحظ بأن يحتفلوا بذكرى مرور قرن على تأسيس دولتهم المعاصرة بعد خمسة أعوام فلن يكون سبب ذلك لجنة فرعية في مجلس النواب الأميركي، بل عجزهم هم عن بناء نظام حكم لا يشعرون بالغربة عنه.

عند مناقشة موازنة الدفاع الأميركية خصصت لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي مبلغاً لمساعدة العراق عسكرياً في حربه ضد «داعش» يمرّ عبر الحكومة المركزية حصراً. لكن اللجنة اشترطت أن تتخذ الحكومة العراقية خطوات ملموسة لتحقيق المصالحة الوطنية خلال ثلاثة أشهر، وإلا فإن جزءاً من تلك المساعدة سيتم توجيهه إلى قوات البيشمركة الكردية والعشائر السنّية من دون المرور بحكومة بغداد. قرار اللجنة هذا لن يصبح نافذاً إلا بعد أن يصوّت عليه مجلس النواب ويُرفع إلى مجلس الشيوخ ليصوّت عليه بدوره، ومن ثم إلى الرئيس الذي يجب أن يصادق على الموازنة. والرئيس وإدارته قالا مراراً إنهما لن يتجاوزا الحكومة العراقية، أي أن الأول سيمارس حق الفيتو هذا إن وافق عليه المجلسان.

من المؤكد أن ساسة العراق، أو معظمهم، يدركون هذا الأمر. لكنهم يدركون أيضاً قيمة التجييش الشعبوي في بيئة انحطّ وعيها السياسي. بيئة تم إقناعها بأن مئات الطلعات الجوية التي قام بها التحالف الدولي على مدى شهور طويلة والمليارات التي انفقها لهذا الغرض ومئات المدربين الذين تم إرسالهم لمساعدة الجيش العراقي والوكالات الغربية التي تم تكليفها بتحليل كل تفصيل عن «داعش»، كل هذا وراءه مؤامرة أميركية تهدف لإضعاف العراق، بل هي دعم لـ «داعش».

إن كان لقرار لجنة مجلس النواب الأميركية مزيّة فإنها تكمن في فرضه ضغوطاً لمصلحة تحقيق المصالحة الوطنية التي طال انتظارها وتكاد تصبح سراباً. لكن للقرار مزيّة أخرى، إذ هو كشف عن عورة نظام العراق السياسي. قرار اللجنة صار اسمه في لغة ساسة العراق مؤامرة «مشروع الدولتين»، أي الدولة السنّية والدولة الكردية.

قادة كردستان رحّبوا بالقرار كما لو أنه بات نافذاً. وقادة السنّة أيّدوه «بشرط ألا يمسّ بوحدة العراق واستقلاله». وقادة الشيعة هاجموه بعنف. وثمة من هدّد برفع السلاح ضد أميركا في حال إقراره من دون أن يبيّنوا كيف سيهاجمون أميركا وليس لها وجود برّي في العراق، إلا إذا كان قصدهم رفع السلاح بوجه من يتلقى سلاح أميركا.

ولتأكيد وجود مؤامرة أميركية أعادوا التذكير بمواقف نائب الرئيس جو بايدن الداعي إلى أن يكون العراق دولة اتحادية تتكون من ثلاثة أقاليم ذات حكم ذاتي. موقف تبنّاه مذ كان في صف المعارضة في ظل إدارة الرئيس السابق بوش، وكنت واحداً ممن تمت دعوتهم إلى الكونغرس لتقديم رؤيتهم للأمر. كان رأيي ولا يزال أن المقترح يقوم على وهم أن يؤدي ذلك إلى تعايش ودّي بين العراقيين فيما هو سيقود حتماً إلى حرب لن تكون أهلية بل إقليمية. وكان رأيي ولا يزال يقوم على ضرورة التفريق بين الطموح القومي للأكراد ومظالم وبشاعات ارتكبها نظام البعث بحق الشيعة وهم الغالبية، وقد حان الوقت لأن يحتلوا مواقع تتناسب وثقلهم في المجتمع العراقي.

«مؤامرة» هي التعبير الشعبوي الجذّاب الذي تستخدمه السياسة العربية لوصف كثير من المشاريع والمقترحات والتصورات التي يتم طرحها علناً وتخضع للنقاش والصراع. وحين يتعالى صراخ «المخطّطات المبيّتة» فبوسع أي سياسي ربط أي خيط بآخر للبرهنة على وجود المؤامرة، ما دام ثمة جمهور يستمتع بإعفاء نفسه وإعفاء قادته من مسؤولية تهشيم العراق العربي.

أن يكون القابضون على السلطة السياسية في العراق، كما في أي بلد آخر، ذوي مصلحة في الحفاظ على وحدته أمر بدهي. فما من حاكم يريد قضم الرقعة التي يتحكّم بها. من هنا لا يجد هؤلاء تناقضاً بين دمغ السياسة الأميركية بالتآمر وترحيبهم وشكرهم لإيران التي هي، في رأيهم، لم تساعد فقط على صد هجوم «داعش»، وهو أمر حق، بل دافعت عن وحدة العراق. حتى حين صرّح مستشار رئيس الجمهورية الإيرانية بأن بغداد ستكون عاصمة امبراطورية إيرانية كان الإعتراض خافتاً لم يشر إلى إيران بالاسم بل اكتفى بالتأكيد على حرص العراق على سيادته، مع أن التصريح جاء على لسان مسؤول في دولة متّهمة بمحاولة إخضاع العراق لها، ومع أن مسؤولاً مهماً في الحشد الشعبي بايع قائد الثورة الإيرانية زعيماً للأمة الإسلامية. بل إن هذا المسؤول يمكن أن يكون رئيساً لوزراء العراق لو جرت انتخابات نيابية غداً. لم يطالب مسؤول عراقي، شيعياً كان أم سنّياً أو كردياً، إيران بتحديد موقفها الرسمي من استقلال العراق وسيادته.

ليس الأمر هكذا مع أميركا. خيانة أن يشكرها مسؤول عراقي. وتصريحات ساسة العراق توحي بأنهم متفضّلون على التحالف الدولي، إذ يسمحون له بالمساهمة في محاربة «داعش». ولا ينسون حين يناشدونه التدخّل وزيادة عدد هجماته الجوية أن يذكّروه بأنه لا يقوم بذلك حبّاً بالعراق بل دفاعاً عن مصالح الغرب. ولا تنسى ميليشيات الحشد الشعبي التي تقول إنها لا تحتاج إلى أميركا، إدانتها لها إن هي لم تتدخل للمساعدة. لا تعثر على عراقيّ يجرؤ على شكر أميركا.

أميركا اليوم تطالب الحكومة العراقية بما يطالبها العراقيون به: تشكيل جيش مهني كفؤ قادر على حماية بلده. جيش البعث العقائدي كان جزّاراً ذبح عشرات ألوف الشيعة والأكراد ووجّه مدافعه إلى مدينة الرمادي السنّية عام 1995. والجيش الذي سبقه في عهد الأخوين عارف كان جيشاً تعصف به صراعات ثلاث كُتل كلها سنّية: ضباط الموصل وضباط تكريت وضباط الأنبار. والجيش المتهرّئ الذي خلفه نوري المالكي رئيس الوزراء السابق لم يكن طائفياً شيعياً فقط، بل كان فاسداً وبعيداً عن المهنية لدرجة دفعت أهل مدينة الموصل إلى اعتباره جيش احتلال. شعارات «جئنا لننتقم» التي رافقت تحرير مدينة تكريت السنّية هي الوجه المقابل لشعارات «لا شيعة بعد اليوم» التي رفعها حرس صدّام الجمهوري عند قمع انتفاضة الجنوب الشيعي عام 1991.

الأكراد فرضوا جيشهم على حكومة بغداد سواء دعمتهم الأخيرة أو لا. وصل حقدهم المشروع على جيش ارتكب فظائع بحقهم أن رفضوا رفع العلم العراقي الذي رفعه الجيش في حربه ضدّهم حتى تم تغيير العلم. لكن السنّة مطالبون بأن يتركوا مهمة الدفاع عن مناطقهم إلى الحشد الشعبي وإلا فأنهم يقسّمون العراق. الحشد الشعبي اندفع بالآلاف مدجّجاً بالسلاح من دون انتظار قانون يشرعن وجوده، ففتوى السيستاني تسمو على القانون. وحتى بعد إعلان خضوع الحشد لقيادة القائد العام للقوات المسلحة، لا يزال قادته يصرّحون أنهم لن يستأذنوا أحداً بالدخول إلى أي منطقة يقررون تحريرها. تشكيل الحرس الوطني ينتظر قانوناً والترجيحات تقول إن هذا القانون لن يصدر قريباً.

أي بلد هذا الذي يسعى قسم من سكانه إلى الإستقلال ما إن يتوافر لهم السلاح؟

* كاتب وأكاديمي عراقي

عن الحياة اللندنية

اخر الأخبار