المنعطف الأهم

تابعنا على:   11:23 2013-10-08

مروان صباح

مروان صباح / رغم أنه ما يزال محدود النطاق وذات امكانيات متواضعة عسكرياً متضارب في حصيلة تحركاته وانجازاته حتى الآن ، يكاد معدوم البِذّرة السياسية على الإطلاق ، كأنه بصيغة تعمدي ، حذف من قاموسه هذا المصطلح ، إلا أنه يتمدد بشكل يدفع المرء استقراءه وقراءة محصول جمعه على الأرض بعد ما كان ، حقيقياً ، يعاني العزلة والملاحقة بشتى تقنياتها ، كاد المرء يصدق تأويلات بوش الصغير ، بأن نهاية هذا الفكر انتهى في جبال تورا بورا دون رجعة وإلى الأبد ، وفي كل مرة يطوي النسيان صفحة تنظيم القاعدة ، السلفية الجهادية ، بقتل قائد ميداني أو زعيمه ، يعود بولادة ثانية متجددة ، قالبة ، ولادات أخرى ، من خلال عملية هنا أو اشتباك دائم هناك حتى أصبح يحتل أماكن ممتدة على طول وعرض الجغرافيا العالمية ، تتخطى افغانستان وباكستان والعراق والصومال ومالي واليمن وشمال افريقيا وسيناء وصولاً إلى سوريا وليس أخيراً كما يبدو من تزايد نشاطات التنظيم بالاستقطاب وبالتالي توسيع نطاق أعماله المسلحة التى لم تسلم منها مناطق الخليج العربي ، كقاّعدة لوجستية شعبية حاضنة للفكر والأفراد .

لم تُجدي نفعاً جميع المحاولات التى ارادت سلخ السلفية الجهادية ، كفكر عن المجتمعات الاسلامية تماماً ووضعها في خانة الوباء القاتل ، لمن يقترب نحوها ، رغم الجُهد الهائل التى قدمته الأنظمة الإسلامية بعد أن وجدت ضالتها في تحسين شروط بقائها عندما تحالفت مع الإدارة الأمريكية في حربها على التنظيم ودفعت بما تمتلك من قوة عناصر متدربة بالإضافة للمال المتدفق في ملاحقة أفراد التنظيم بشن ضربات وحروب متقطعة بالإضافة إلى محاربة الفكر عبر شاشات الفضائيات بأهم البرامج الأسبوعية تهّدف تبيّن اجرام أفعالهم وطبيعة سلوكهم ، وبالتأكيد كما تشير الإستراتيجيات بدلالتها بأن هناك قِراءات استوجبت قبل التحرك داخل مؤسسة الأمن القومي الأمريكي بالإقدام نحو أي عمل يحمل التنفيذ ، بقراءة أصول الفكر قبل أن تقرر التعامل معه رجوعاً للإمام الحنبلي وشيخ الإسلام أبن تيمية وتلميذه أبن القيم وصولاً للمجدد ، الأمام محمد ، الأكثر تعميماً ، وفاعلاً على الأرض ، كون الاختلاف بين الاخوان والتنظيمات الجهادية ، بالأصول الفكرية معدومة بقدر ما هي حاضرة من الناحية ، تقديم السياسة على الجهاد ، بل هي أطراف منشقة عن الاخوان ، رفضت الاستمرار بالاكتفاء بالمراقبة الخاملة والكسولة التى أدمنت على إعّداد المجتمعات وارتأت أنها من الممكن الوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع ، لكن المنشقين اعتبروها مراحل من التخطيط الكسيح وسرديات تبسيطية سطحية لا تخدم أبداً رؤيتهم لا في المنظور القريب ولا البعيد ، . بيد أن تقاطعت مصالحها مع الإدارة الأمريكية في افغانستان وكانت أولى خيوط التى سمحت لها أن تتشكل بهذا الشكل المتنامي وبالزخم التفقيصي الاستيعابي للأفراد حيث تحولت إلى ساحات محتضنة بديلة للأوطان التى ضيقت الخناق حول رؤوسهم ، مما شكل توافق غربي نظامي في دفع شر هؤلاء وإرهابهم إلى ما بعد جغرافية الأنظمة ، لكن كما يبدو لم تكن النتائج النهائية مرضية للأطراف ، على الأقل للأنظمة ، حيث يغيب عنها البدائل ، مغايراً لما تتمتع به الإدارة الأمريكية التى تنتقل بخفة دون أن تتأثر بالمتغيرات حتى لو أصابها وعكات جانبية ، حيث اخذت القاعدة من قوتها التى تكونت على تراب افغانستان استقلالية ، كشفت عن طموحاتها في انشاء دولة اسلامية لا تعترف بالحدود القائمة ، وإعادة بناء المجتمع من خلال بمبادئ الشريعة المحكومة بالنص القطعي ، فأصدرت أصوات حديدية سجلت لأول مرة ندا صريح من وراء جبال افغانستان ، بلُغة تحمل تهديد الضرورة ، بالمغادرة القوات الأمريكية من الأراضي الخليج العربي ، التى كانت مقدمة أشبه بالتحول ، حذفت جميع التقاطعات القائمة أو الممكنة بالمستقبل التى وصفت بأنها تعوم على مياه راكدة ، حيث خاضوا الطرفين حرب استخبارتية باهظة الاستنزاف خصوصاً بعد ما اُحتلال العراق ، تفاقمت بأضعاف مضاعفة ، كأن أرضها الخصبة جاءت انقاذ لإعادة احياء التنظيم من التلاشي والاندثار ، مما سهل اعادة تجديد قواه بما يتناسب مع المرحلة الجديدة بالقدر الذي تركه النظام العراقي من أسلحة وأفراد اخفقت الولايات المتحدة التعامل مع واقعها ، مما انتج خلل مقصودّ ، أدى إلى تنكيل مُجّحف بالحقوق الآدمية الذي وفرّ القنوات السلسة من الاحتضان والاندماج في عمليات تحقق الذات أولاً والقُوت ثانياً يليها السلطة التى فقدوها هؤلاء عندما اُسقط نظامهم .

عند أول مدينة سقطت في أيدي المعارضة السورية المسلحة ، كان من الأرجح أن لا يغيب عن الذهنية العربية التطورات السلبية التى حصلت بفترة وجيزة من ظروف موضوعية تشكلت بشكل سريع لم تكن للحظة بعيدة عن خصوصية الزمان والمكان كما يراها البعض ، بل العكس تماماً ، طالما استطاع النظام احلال مكان الدولة الذي اخضعها بأذرعها المتعددة لغاياته ، وتحولت إلى شكل فاقد الجوهر بالمعنى التكويني ، لتطفو ، قلة منتقية من مناحي الحياة فوق العامة المكدسة بشكلها العشوائي الذي أتاح للجماعات المسلحة سهولة التموضعّ وإدارة شؤون العامة ، لأن في الواقع ، المسافة قد تقلصت على النحو المتسارع وبات الفاصل بين الجهتين معدوم الرؤية لدى المواطن ، لكن المسألة تتعارض ، ما دامت الثورة مستمرة ولم تُحقق أهدافها بالكامل ، ومن الطبيعي يتخللها انقسامات وتتعدد الرؤى التى يتطلع إليها كل قسم نحو المستقبل ، مما أوجب لفئة أن تسيطر على الفئات الأخرى ، هذا ما يحصل بتقديري في المربع السوري تماماً وغيره من مربعات مشتعلة تداخلت المشاهد في الآونة الأخيرة ، إلا أن بات المشهد العسكري واضح برجاحة كفة التنظيمات الجهادية التى تتصاعد قوتها يوم بعد الأخر وذلك يعود إلى أمور جما ، أولها الحاضنة التى يتمتع بها هؤلاء ، لم تأتي من فراغ اسقاطي أو بمحض الصدفة على الإطلاق ، وبعيداً عن السلوك الإنتهاجي التى تحرص على توظيفه ، من احقاق الحق المفقود لزمن طويل بين المواطنين ، وبالرغم تورطها بالعديد من الأساليب الهمجية التى تعالج بعض الإشكاليات بطريقة تُنفر وتقلق الكثير بأفعالها ، إلا أن حجم الالتحاق بمركبها يدلل عن نتيجة استقطاب ديني كون الرحلة ليست إطلاقاً بالنزهة أو وقفة احتجاج بقدر ما هي اصطدام مع آلة تتفوق بهائل امكانياتها التى تتطلب عقيدة صلبة ، توفرت بالخط الجهادي ، لكنها مفقودة بالخطوط العاملة على الساحات ، مغايراً في الحقيقة لعقود سبقت ، كانت التنظيمات المسلحة غير اسلامية في العقدين الخمسينات والستينيات قادرة على استقطاب الأفراد وفي أغلب الأحيان تفوقت .

لقد حددت الإدارة الأمريكية عام 2003 م بعد تمكنها من دخول بغداد ، خطوط القتال مرة أخرى بين السنة والشيعة ، في وقت ، لم تسمح للعميلة الديمقراطي أن ترى النور وجعلت العوامل التى تأتي بالحكومة الرشيدة غاية من المستحيل حيث افتقدت جميعها عبر العشر سنوات الماضية للخدمات والعدالة وتوزيع المنّصف للثروات والأمن والمحاباة بالوظائف ، كما أطلقت أيدي البطش نحو فئة كبيرة من فئات الشعب التى ضاقت بها السبل واضطرت إلى اللجوء والاحتكام لحمل السلاح الذي مهد لانفجار حرب أهلية بكل تفاصيل الكمائن التاريخية ، فكانت العراق المنعطف الأول ، لكن التواطؤ ، حجب الدمار الذي وصل أليه البلد بغضون سنوات قليلة ، بل سرعان ما امتددت خطوط جحيمه عبر الحدود ، كونه استوعب رغم عنه افواج متعاقبة من خارج حدوده ليصبح المشهد اشبه بانتحار قومي ، حتماً سيؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيمات باتت مُقرة داخل المجتمعات المتناحرة أو في أحسن حال المتنافرة ، طالما العوامل الاستقرار التى تبدد المخاوف وتعزز الارتباط بالدولة ، ليس مكتوب لها الترجمة على واقع الأرض ، بل تزداد حدة المخاطر يوم بعد الأخر وتتقلص الفرص مع ازدياد إطلاق النار في سوريا وسقوط الضحايا من مختلف الجغرافيا الاسلامية ، لن يكون حال العرب بعد التقسيم القادم أكثر سوءاً من الحاضر ، لكن ما يُكمنه التقسيم المستقبلي من مخاطر وخطورة ، يحذف لأي مشروع استنهاضي عربي مرتقب ، حيث المؤكد بأن التقسيم الذي بات يترجم على سطح الخشبة السياسية سيعطي المستعمر الفسحة الأطول منّ السيطرة على إرادة الشعوب في المنطقة وإخضاعها لصياغاته الكامنة من خلال التفكيك الجغرافي ضمن دول صغيرة منزوعة من الدسم الحضاري ، قابلة لأي اطروحة دون امكانية معاينتها ، إن كانت تتلاءم مع خصوصياتها أو مستقبل أجيالها ، بل هي اشبه بالدول المتناحرة ، تارةً بسبب العرقيات والإثنيات وأخرى بسبب الحدود الجغرافيا التى ستترك أثر عميق ومادة لزجة يتفرع عنها صراعات طويلة الأمد .

العراق كان المنعطف الأهم في تقرير مصير المنطقة برمتها ، ليس فقد لأنه أصبح أرض خصبة للأفكار الجهادية الإسلامية التى تقود العمل المسلح ، والوحيد على الساحة دون منازع ، بل ، حُررّ البترول من قبضة صدام حسين وباتت الإدارة الأمريكية الجهة الوحيدة المقرره بهذا الخصوص ، تمتلك صعود وهبوط اسعاره ، مهددة الدول العربية بالترنح والسقوط ، لهذا تصطفّ الدول الآيلة للسقوط في طابور الأسعار المرتفعة التى تدفع الشعوب العربية بالخروج لإسقاطها بسبب عجزها الكلي في الحد من التضخم الناتج عن الغلاء الهستيري .

فأي مصير ينتظر العرب ، بعد ما نُكل بثوراتهم الشعبية وأربكت علميات التغيير ووضعت في دواليبها عصي غليظة ، حيث ارتفعت أصوات الأنظمة التى تحاكي شعوبها من خلال نبرات معاتبة ، رغم أنها تدرك بأن الحرمان أدى للعصيان كما حاصل اليوم بالسودان ، كأن الأنظمة في مضمونها لا تختلف رغم اختلاف شعاراتها ، خصوصاً عندما تحين لحظة الرحيل فتتوحد مفرداتها ، لهذا نجد احتفالات الرئيس البشير بعد كل هزيمة تجّتاح المدن بالمهللين رغم اخفاق وعوّده بإحراز الديمقراطية والرفاهية التى جاءت أكثر استبدادا وفقراً ، وخسارته لجنوب البلاد بعد معارك طاحنة ذهب خلالها مئات الآلاف من الأرواح كما أنه تنصل ، من حلفاء الماضي بالضغط عليهم كالشيخ أسامة بن لادن الذي غادر مكرهاً السودان 1996 م إلى افغانستان ، فليطمئن البشير ، بأن تنظيم القاعدة الذي حرص أن يبتعد عنه طيلة المدة الماضية سيعود عبر ما أنتج نظامه من حاضنات لم تُبقي الدولة المركزية فيها لقمة خبز كريمة .

والسلام

كاتب عربي

اخر الأخبار