«جون كيرى» الذى لم يقل شيئاً

تابعنا على:   11:28 2015-02-28

د . هالة مصطفى

المشروع الذي تقدمت به مصر إلي مجلس الأمن بخصوص تسليح الجيش الليبي (قوات الفريق خليفة حفتر) بعد الحادث المروع

الذي تعرض له 21 من مواطنيها علي يد تنظيم داعش الإرهابي, قوبل بتحفظ من قبل الولايات المتحدة والدول الأوروبية الكبيرة -انجلترا وفرنسا وايطاليا واسبانيا - حيث استبقت الجلسة ببيان موحد يحظُر «التدخل في الشأن الليبي» رغم أن الأوضاع في ليبيا تعد جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي المصري بحكم الحدود المشتركة معها من الناحية الغربية.

وقد لا يكون الأمر مفاجئا, فأمريكا طوال تاريخها في المنطقة تسعي فقط للحصول علي غطاء سياسي عربي لتحركاتها العسكرية وتحالفاتها التي تنشأ بموجبها (مثلما حدث في حرب الخليج الثانية) ولكنها لا تسمح بالعكس, أي أن تأخذ دولة عربية بزمام المبادرة لتشكيل تحالف إقليمي يحظي بالشرعية الدولية! ونفس الشيء ينسحب علي أوروبا التي مهما امتلكت من هامش للاستقلالية في بعض توجهاتها الخارجية، إلا أنها لا تخرج بأي حال من الأحوال عن المظلة الأمريكية في القرارات الاستراتيجية, فالمنظومة الدفاعية هي واحدة في النهاية. وفي المقابل, أعلنت الإدارة الأمريكية عن قرب استضافتها في واشنطن لقمة موسعة لمكافحة الإرهاب لوضع خطة التحرك المستقبلي, وهو ما روج له وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في مقال له نشر منذ أيام بصحيفة الشرق الأوسط اللندنية تحت عنوان «صعود التطرف يمثل تحديا لنا جميعا»، في رسالة موجهة إلي العالمين العربي والاسلامي. وهو بلا شك جدير بالاهتمام لكونه يضع الخطوط العريضة للفكر الأمريكي في هذا الصدد. فماذا جاء بالمقال؟

بعد المقدمة النمطية عن خطورة التطرف و الارهاب المصاحب له، والاقرار بالضرورة الملحة لمواجهته عسكريا كجزء من هذه المواجهة, أكد أن الأخيرة لا تكفي وحدها لإحداث التغيير علي المدي الطويل وأن الأمر يحتاج إلي «حوار عالمي» يضع أجندة مشتركة لكيفية التصدي له في إشارة إلي موضوع القمة القادمة (وكأننا نعود هنا إلي المربع رقم واحد بعد مرور ما يزيد علي عقد من الزمان من انطلاق الحرب الدولية علي الارهاب)! وفي نفس السياق, يشير إلي أهمية تغيير المعطيات السياسية والفكرية التي تُشكل البيئة الحاضنة له, وأولي هذه الخطوات تكمن في «الحكم الرشيد» وإقرار «دولة القانون» و«التنمية» التي ستوجد فرص عمل للشباب، وبالتالي منع الارهابيين الذين يستغلون «الغضب والجهل والمظلومية» لاستقطاب الآجيال الجديدة وتجنيدها.

هذا ملخص ما جاء في مقال كيري, والذي يثير من الأسئلة بأكثر ما يقدم من إجابات, فهوحديث نظري شديد العمومية و يتفق عليه الجميع أو علي الأقل تردد وكُرر مئات المرات، أما كيفية تحقيقه علي أرض الواقع في ظل المشهد الراهن في المنطقة - وهو الجانب الأهم - فهذا ما لم يتعرض له المقال من قريب أو بعيد. إذ لم يتطرق لظاهرة تفكك الدول بتداعياتها الخطيرة والتي أدت إلي تلك الحالة غير المسبوقة من الفوضي والسيولة ما وفرملاذا آمنا للتنظيمات الارهابية وأعطاها جرأة للاستيلاء علي أراضي وأقاليم والامتداد الجغرافي هنا وهناك, وهي ظاهرة بدأت بتجربتي أفغانستان والعراق قبل أن تتبعهما دول أخري امتدت من ليبيا إلي اليمن. فبعد أحداث 11 سبتمبر شنت أمريكا حربها علي الارهاب لمواجهة تنظيم القاعدة في أفغانستان ومن بعده غزت العراق وأسقطت نظامه وحدث نفس الشيء بعد ما يقرب من ثماني سنوات بتدخلها في ليبيا من خلال الناتو. وفي جميع الحالات تم تنصيب حكومات محلية ضعيفة لم تقوعلي تحقيق الاستقرار وإعادة بناء دولها ، بل باتت تفقد تدريجيا سيادتها علي أجزاء من أراضيها دون أن تقضي علي تنظيم القاعدة، وإنما ظهر تنظيم متطرف آخر هناك هو طالبان ، فضلا عما صاحب كل ذلك من تفجير للصراعات المذهبية والطائفية بعد تسليم الحكم إلي حكومة شيعية في العراق جعلت من المذهبية أداة لإقامة سلطة وجيش طائفيين. وفي ظل هذه الأوضاع تفاقمت ظاهرة «الميليشيات المسلحة» لكل طائفة أو جماعة أو تنظيم علي الجانبين السني والشيعي حتي أصبحت نماذج متكررة وفق نمط «المحاكاة» وهنا ظهرت «داعش» مستغلة حالة الفراغ السياسي والأمني والصراعات المذهبية. والمفارقة أن من يواجهها هي فصائل من جيوش أو ميليشيات تابعة لطوائف أو أقليات كحالة «البشمركة» التابعة للأكراد.

ومن ناحية أخري, تجاهل المقال جنوح دول إقليمية في الآونة الأخيرة نحو مزيد من النفوذ والمكانة والدور، تتصارع فيما بينها مستخدمة تلك الميليشيات في حروب بالوكالة لتحقيق أهدافها دون أن يوقفها أحد . فايران تنافس السعودية وتركيا وقطر داخلة في معادلة التنافس الاقليمي بقوة وتعادي مصر خصّماً من دورها, وهو ما يجعل من الدول المفككة ساحة لهذا التنافس والذي لا يُراد له أن ينتهي ما لم تحقق كل دولة أهدافها منه. إنه صراع مفتوح يعتمد علي ما يحققه كل طرف من مكاسب علي أرض الواقع مما يغري بمزيد من الاقتتال والفوضي.

وفي هذا السياق, فان الإستراتيجية الأمريكية هي عنصر فاعل ورئيسي في مسار تلك الصراعات, فواشنطن تقف في وجه البعض وتغض الطرف عن سلوكيات البعض الآخر وفق حسابات سياسية متغيرة, مثل حالة إيران الآن علي سبيل المثال, التي أفسحت لها (لاعتبارات تخص ملفها النووي) المجال لتنامي نفوذها في العراق وقبله في أفغانستان وحاليا في سوريا، التي تقاتل مجموعات من حرسها الثوري مع القوات النظامية لبشار، ونفس الشيء في اليمن التي انتهي بها الأمرالي استيلاء الحوثيين المدعومين منها علي السلطة, ناهيك عن استمرار نفوذها في لبنان من خلال حزب الله. وتسري نفس السياسة علي علاقاتها بالأطراف الأخري (سلبا أوايجابا حسب ما تقتضيه المصلحة الآنية) تركيا وقطر من جانب والسعودية ومصر من جانب آخر.

فكيف سيتم إذن تسوية كل هذه الصراعات، والأهم كيف سيكون عليه شكل الدول مستقبلا؟ وأين يقف حديث كيري عن الحكم الرشيد والتنمية من هذا الواقع الذي تسعي فيه أغلب دول المنطقة لمجرد الحفاظ علي وجودها! وكيف يفسر الأفكار المتداولة في كثير من الدوائر الأمريكية، وآخرها ما عبر عنه أوباما في حديثه الشهير إلي الصحفي توماس فريدمان عن أن الحل في المنطقة - مشيرا إلي ليبيا وسوريا والعراق - يتجه نحو التقسيم . إن المشهد أعقد كثيرا من التبسيط الذي حمله مقال وزير الخارجية الأمريكي، والمصالح المتضاربة و الصفقات السرية أو المعلنة تزيده تعقيدا. إنه تقريباً لم يقل شيئا!

عن الاهرام

اخر الأخبار