سهر يظلل سماء عاشق - قصة قصيرة

تابعنا على:   19:35 2014-12-28

بثينة حمدان

(قصة حقيقية، بشخوصها وأحداثها وأعماقها.. الوهم الوحيد فيها هو المجتمع!)

منحتني وردتين امتلأتا بتقاسيم وجه والدتهما وهدوء طباعها، لمعت ملامحهما البريئة بالطلة والطيبة، والأمل الذي ينتقل بالعدوى بسرعة بين من تحب. وردتان بل قديستان تشعان سلامًا: سماء؛ آلهة الحب، وسهر آلهة الحب المستمر...

هما عاشقتان لي، وهي من حفر بعطفها اعتنائي بهما، منحتني السماء والسهر وغابت، تركتني على عتبة الحكاية، من هنا بدأنا، حطت يراعة في عشي وغابت. هاجرت مثل طير، رحلت مثل طيف، نامت مثل حورية. سكنت إلى الأبد بلا وداع. ست سنوات؛ طفلتان، ومئات القصص، في كانون الأول أصيبت بألم في الرأس، ونامت، أيقظتُها، استيقظت مثقلة، ثم نامت إلى الأبد. وبقيت أنا وهما والزمن، تصطك أناملنا بالريح، تصطدم الوجنات بجدار الصمت، تقسم العيون حولنا بكل شيء إلا بهذا الحب الذي يغمرنا.

في المساء الأخير كانت قد قررت أن تخلو مع أوراقها، لتكتب شيئًا ما كعادتها، بينما خلدنا إلى النوم، أَطفأتُ الأنوار، وحل السكون...

المجتمع

حضر بيت العزاء كل من صادفنا نسير بين ثنايا الليل، نتمايل بين أغصان شمس النهار، نضحك، نركض خلف ورقة الخريف، نختبئ من مطر السماء، نلتحم خلف ستار خشبة المسرح. حضر كل من رمق بريق عينيها الرقيقتين، وكل من حظي بيدها تربت عليه، فتزيح عنه بؤس الزمان وظلامه. جاءت طالباتها اللواتي لم يعرفن بيوت العزاء قبل اليوم، جاءت مسنات أهل البلد اللواتي جلست معهن مرارًا على الأرض -رغم حياتها العاجية السابقة- تتبادل أطراف حديث شيق. حضر كل من سمع عن موتها المفاجئ وطفلتيها سماء (5 أعوام)، سهر (عام ونصف العام)، واللتين بدأتا للتو رحلة اليتم.

بين العبرات ورغم صوت القرآن، تنفست وتهامست كلمات هنا وهنا، تشفق على هذا اليتم، وذلك الزوج الأرمل، معتقدين بحسم أنه سيتزوج خلال شهور، ويختتم الحديث طبعاً بالدعاء للطفلتين بأن تكون زوجة والدهما القادمة حنونة.

هو

قبل أن تنام، كنت أفكر بعيدها الثلاثين، كيف أحول عقارب الوقت كلها إلى فرح. لكنني أصبت برعب نومها المفاجئ، حتى دون حوار أخير، وقبل أن أكمل كتابة قصيدة التحامنا، بقيت أبياتها مطلعًا بلا عجز أو خاتمة، مجرد أجزاء متلاحقة متلهفة لبقية لم تأتِ.

وقفتُ في بيتِ العزاء، لا أسمع، لا أرى، لا أعرف ما الذي حصل؟ لكنني كنت بوحي ما أتخذ قرارات عن مسار جنازتها، بأن تمر من كل الشوارع التي امتلأت بنا، قرب بيت عائلتها، قرب بيتنا، طريق المشفى، طريق السينما القديمة، والمقهى الشاهد علينا، وأماكن العمل التي جمعتنا مصادفة... إلى المقبرة. قررتُ أيضًا أن ترى ابنتي سماء وجه والدتها للمرة الأخيرة، فيكون موتها بلا تأويلات أو احتمالات مصطنعة للأطفال الذين لا يتقنون تخيل اجابة مفادها: ذهبت أمك إلى السماء، أو في مشوار طويل. وقال لها وجه والدتها الجميل: وداعاً حبيبتي.

(كان يريد أن يكون الغياب واقعًا لابنته، بينما لم يكن واقعًا له.. ما زال يقف عند مطلع القصيدة)

المجتمع

قبل أن ينتهي الدفن انهالت اقتراحات ما بعد موت سلام بين أفراد العائلة بل وامتدت النقاشات لدائرة المعارف، وكانت الخيارات واضحة لهم وهي إما أن تعيش الطفلتان مع عائلة الأب أو عائلة المرحومة. وكان الرأي بأن الوقت ما زال مبكرًا لمناقشة الموضوع نادر الطرح، يقابله دائمًا بأن على والد سماء الزواج: "ما المانع؟ فجارهم أبو محمد تزوج بعد أربعين زوجته. هذا من حقه"، ويثني على هذا الرأي آخرون: "احتياجات الرجل ليست كالمرأة، سنزوجه قريبًا ونساعده على النسيان".

هو

عند عتبة الباب سقطتُ في أول زيارة لبيتنا بعد شهرين من رحيلها. صفعني هذا الحجم من الذكريات التي لم أتوقعها، هنا أمسكت بها لأول مرة بلا عذال ولا فضوليين، هنا ضممت زهرة عباد الشمس، بكل تفتحاتها وتجلياتها، هنا استرقت النظر أخيرًا وبجرأة المكان المغلق إلى أعذب شفاه أذاقتني حلاوة الحب. من هنا بدأنا، وهنا عاشت معي لحظات الضيق المادي الذي يصحب أي عروسين متوسطي الحال، ولحظات الخوف من الموت خلال الاجتياح الاسرائيلي.

على هذه الطاولة شهادة التأمين على حياتي التي استصدرتها قبل وفاتها، ودون أن تعرف في محاولة للتأمين على مستقبلهم من بعدي إذا رحلت، فكان الواقع يتحدث عما بعدها هي!

المجتمع

بعد ستة شهور، قررت راوية أن تقابل والد سما وسهر. قدمت له نفسها، طالبة يده وهو الصامد في وجه الموت، والمنهك مع طفلتيه، تريد أن تكون أمًّا لهما. قالت راوية لنفسها: لن يطيق البقاء وحيدًا، أريد أن أكون طوق النجاة.

(راوية هي ضحية أصوات المجتمع الرافض لفكرة بقاء الرجل الأرمل وحيدًا.. بينما تقف جارتهم الأرملة عفاف خائفة من البوح برغبتها في الحب!)

هو

لا أريد امرأة، لا أريد جسدًا، أريد روحًا. لا أريد مجرد زمن أمضي به بقية حياتي بل تاريخًا. لا أريد الظلم لبنتيَّ بل أن أكون لهما أبًا وأمًّا. ماذا يريدون؟ لماذا يسألون عني؟ نعم لقد كان موتها رحيمًا بها وقاسيًا علي، ليتني استطعت أن أستيقظ ليلاً مثل سهر التي كانت تصرخ في الشهور الأولى لوفاة سلام: "ماما". ليتني استطعت البكاء أمام كل المعزين.

أمسكت بيد راوية وقلت لها: أشكر لك لطفك وكرمك.. وغادرت.

العائلة

ما زال قلب والدته يحترق، ولا تنفك تدعو له في حضوره وغيابه وتدعوه للزواج وأن ينسى سلام، أما والده فقد التزم الصمت، فازداد مرضه، الطفلتان بنظره تكبران بسرعة وتتزوجان وسيتركانه وحيدًا في القريب العاجل. الأب حرّض أصدقاء ابنه لإقناعه، وكثيرًا ما فاجأوه بزيارة لمكتبه مع عزباوات كثيرات. ولم تسلم البنتان من تذكير جدتهمت وعماتهما لهما بأن والدهما من حقه الزواج، وأن عليهما الموافقة على ذلك بلا تردد.. مرت عشر سنوات وما زال المجتمع مصرًّا على الزواج بلا كلل أو ملل...

هو

أعترف، فمعها كانت أجمل وأقصر رحلة في حياتي، مرت مثل قطرات الندى التي تعربش على أشعة الفضاء، ما أن تشع الشمس حتى تختفي، وتعلق بالذاكرة أجمل لوحة. أنا ظلها على الأرض، أنا ما زلت معها فكيف أكون لأخرى؟! أعيش مع أجمل فتاتين يجسدانها، سماء تسير نحو نضوجها الأنثوي، وسهر وطفولتها الناعمة والمشاغبة جدًّا جدًّا..

وكان آخر ما كتبته سلام: "أحب السماء التي تظللني، أحب السهر فأنام وعيوني مفتوحة كالغزال، وأحب هذا الغزال الذي ينام إلى جانبي رغم التراب والظلام والسكون الذي أتدفق به في هذه اللحظات....".

اخر الأخبار