من الثورة إلى الدولة

تابعنا على:   10:12 2014-12-02

محمد حسنين هيكل

متى تحافظ الثورة على طريقها.. ومتى يضيع منها الطريق؟.. وإذا أكلت الثورة أبناءها،أو أكلها أبناؤها فمن الذى يضع الأساس الجديد ومتى وكيف؟.. ومتى تنتقل الدول من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية؟..

هذه الأسئلة الصعبة وغيرها أجاب عليها بمنطق المفكر والمحلل الأستاذ محمد حسنين هيكل حين أصدر كتابه « مدافع آية الله» عام 1982 سجل فى مقدمته العربية على طريقته الفريدة دراما الثورات ، والحوار الذى أجراه «الأستاذ» مع آية الله الخمينى فى باريس قبل ثلاثة أشهر من عودته لقيادة الدولة فى إيران، وهو رجل كان قد تجاوز الثمانين ـ لا تربطه بالشباب أى صلة ـ لكن المدهش هى مقدمة الكتاب ،وما حوته من إجابات لأسئلة محيرة عن قوانين الثورة ـ أى ثورة ـ ومتى تدخل الثورة مرحلة الهروب من الحقيقة والتراجع والهزيمة .. وكيف تنتقل أى أمة من الثورة إلى الدولة!

وإلى أوراق الأستاذ محمد حسنين هيكل التى يمر اليوم 35 سنة بالضبط على كتابتها..

اقتربت من "دراما" الثورة الإيرانية وهى مازالت عند فجرها. وكان الأفق مازال معتما من حولها, ولم يكن الخيط الأبيض قد استبان بعد من الخيط الأسود فيها. كان نجاح الثورة واردا, وكان ضربها واردا أيضا!

كان ذلك عندما التقيت بـ "آية الله روح الله الموسوى الخميني" لأول مرة فى باريس يوم الحادى والعشرين من شهر ديسمبر 1978. وأعترف أن ما رأيته استهوانى وقتها وشدنى إليه. فقد شعرت أننى أمام تجربة فريدة فى التاريخ الحديث.

كنت قبل ذلك أعتقد أن "الثورة الشعبية" بالمعنى الحرفى لهذا التعبير قد فات زمانها, ذلك أن اختراع الدبابات والمدافع المنصوبة على أبراجها قد قلب موازين القوى بين الجماهير الثائرة وبين السلطة الحاكمة. وتصورت – بناء على التجربة الثورية المصرية وتجارب أخرى فى العالم العربى والعالم الثالث عموما – أن أى ثورة جديدة لم تعد تملك الآن إلا أحد خيارين:

- أن تجعل من القوات المسلحة – بدباباتها – طليعة لزحفها.

- أو أن تقوم بشكل ما بتحييد القوات المسلحة والالتفاف وراءها – أو أمامها – واصلة إلى أهدافها.

كان ظنى أن الثورة السوفيتية هى آخر ثورة استطاعت فيها الجماهير غير المسلحة أن تواجه جيش السلطة وأن تنتصر عليه. وحتى الجيش الذى واجهه الشيوعيون فى روسيا القيصرية كان جيشا مهزوما وضائعا, فقد تسعة أعشار سلاحه أمام الالمان قبل أن يفقد العشر الباقى منه أمام الثوار.

كانت الثورة الإيرانية – على هذا النحو – شيئا يختلف عن كل ما رأيناه وعرفناه على طول المسافة الممتدة من سنة 1917 إلى سنة 1977 – ستون سنة كاملة.

ثورة شعبية, ثورة جماهير عزلاء, تواجه جيشا فى عنفوان قوته.

جيش جرى بناؤه وإعداده وتسليحه بواسطة نظام بالغ القسوة والشدة, حمل نفسه بمسؤولية حفظ الأمن فى منطقة هى أكثر مناطق عالم اليوم قلقا وتوترا وتعرضا للخطر.

ثم هو إلى جانب ذلك جيش ترعاه وتسانده واحدة من أعتى القوى الدولية فى العالم وفى التاريخ لأنها تعتبره – فى البحر والجو والأرض – شرطيها الحارس وديدبانها الذى لا تغمض له عين!

ثم هو – أخيرا – جيش تهابه وتخشاه وتحسب له ألف حساب كل تلك الدول – والدويلات – القابعة فى خوف أو استكانة على شطآن الخليج والمحيط الهندي.

الثورة – بعد ذلك كله – ذات طابع يختلف كثيرا عن المألوف فى العصر الحديث... الثورة دينية. على وجه التحديد إسلامية.

............

الثورة – فوق ذلك – يقودها رجل لا تربطه بالشباب – وهو حافز الثورات عادة – أى صلة. على العكس. هو رجل جاوز الثمانين, فإذا خطا فقدم على الأرض وقدم إلى القبر. وبصرف النظر عن عدد السنين فإن الرجل الذى يقود الثورة – بعد الثمانين – رجل لا علاقة له بزماننا ولا بالأفكار المؤثرة والفاعلة فيه. قلت عنه فى مقال كتبته "للصنداى تيمس" وقتها أنه يبدو رصاصة انطلقت من القرن السابع واستقرت فى قلب القرن العشرين. بدا لى وقتها فى باريس وكأنه فعلا – شكلا وموضوعا – شخصية من شخصيات الفتنة الكبرى فى الإسلام – عادت إلى الحياة بمعجزة لتقود معسكر (علي) بعد انتصار الأمويين وبعد مصارع الشهداء من آل البيت – وبعد ثلاثة عشر قرنا من الزمان أوصلتنا – بعد مسيرة تاريخية طويلة وشاقة – إلى عصر الصراع بين الشيوعية والرأسمالية, والسباق على الأسلحة النووية, والمنافسة للسيطرة على الفضاء, وفض أسرار الخلايا (الجينات), والتحكم فى الاليكترونات!

هكذا وجدتنى "مدهوشا" بـ "دراما" الثورة الإيرانية.

إننى لم أجد بديلا لتعبير "الدهشة" فى وصف موقفى مما كان يجرى على الساحة الإيرانية.

فـ "الدهشة" ليست هى بالضبط "الانبهار" وليست هى بالضبط "الفضور"! "الدهشة" شعور يفاجأ فيه الإنسان بما لم يكن يتوقع, ثم يقوده هذا الشعور إلى محاولة البحث والتقصى والمتابعة عله يصل إلى سد الفجوة بين ما كان يتوقع, وبين ما وقع فعلا.

وهذا ما حدث لي..

وتلك المحاولة هى موضوع هذا الكتاب!

ومنذ ذاع أمر اهتمامى بـ "الدراما" الإيرانية إثر ما نشر لى عنها فى الصحف العربية والعالمية – سئلت كثيرا, وفى مراحل متعددة ومتتابعة:

- ما هو رأيى فيما يحدث على الساحة الإيرانية اليوم؟ هل الثورة مازالت فى طريقها, أو هل ضاع منها الطريق؟ هل هى ثورة أكلت أبناءها كما تفعل بعض الثورات, أو هى ثورة أكلها أبناؤها كما قال بعضهم عن الثورة الإيرانية بالذات؟

- وكان ردى دائما أن هناك أسئلة يصعب – بل يستحيل – الرد عليها بـ "لا" أو "نعم".

- إن "الثورة" – الثورة عموما – قضية معقدة.

- إن "الثورة" أشبه ما تكون بعملية انفجار هائلة, تجئ, بعد أن يكون شعب من الشعوب أو أمة من الأمم, قد تحملوا بأكثر مما تحتمله طاقتهم اقتصاديا وسياسيا وفكريا, وهم فى عملية الانفجار يحطمون ليس قيودهم وسلاسلهم فقط ولكن كل الحدود والسدود, ثم يحاولون وضع أساس مختلف لمجتمع جديد سيد وحر. لكن "من" الذى يضع الأساس الجديد؟ و "متي"؟ و "كيف"؟

 

- أسئلة عويصة, ظلت على طوال التاريخ – برغم كل ما قيل ويقال عن "قوانين الثورة" – بغير جواب.

وحتى الثورات "العلمية التى اتخذت لنفسها هذا الوصف، أو أسبغة عليها المتحمسون لها، تلك الثورات التى كانت تقودها طلائع حزبية منظمة، وتهديها عقائد اجتماعية محددة – لم تستطع أن تقدم أجوبة مقنعة، أو كافية لقضية الثورة وتعقيداتها. والثورة الشيوعية الكبرى نفسها شاهد، فالاتحاد السوفيتى لم يستطع حتى الآن أن يقدم حلاً لمسألة الحرية السياسية. كما أن الحزب الشيوعى القائد فى الصين ذاب كتمثال من الملح أمام سطوة البيروقراطية ممثلة فى الجهاز التنفيذى أو فى القوات المسلحة بعد غياب مؤسسه "ماوتسى تونغ" ونفوذه الأسطورى الشخصى. والاتحاد السوفيى والصين الشعبية هما أضخم التجارب الثورية فى القرن العشرين. وليست هناك حاجة – بعد ذلك – للإشارة إلى "تشيكوسلوفاكيا" حيث خضع حزب شيوعى حاكم بالقوة للغزو العسكرى، ولا إلى "بولندا" حيث تتصادم الآن بروليتاريا العمال مع حزب البروليتاريا!

إننى بالطبع لا أريد أن أقلل من أهمية ظاهرة "الثورة"، ولكنى فقط أريد أن ألفت النظر إلى "إنسانية" هذه الظاهرة. فمهما قيل عن "قوانين الثورة" وعن "علمية الثورة" – فإن الموضوع الأساسى لها – كما هو فى التاريخ كله – هو موضوع الإنسان على القمم وعند السفوح وفوق القاع. الإنسان بكل مواريثه وبكل نزعاته، وبكل طموحاته، وبكل غرائزه. ثم إيقاع الزمن اللازم والضرورى لإنضاج تجاربه وتمهيد الطرق الوعرة غلى مطالبه الحقة والعادلة.

وربما استطعت القول بأن الثورة تختصر المراحل، لكنه لا الثورة ولا أى شئ آخر فى مقدوره أن يلغى الزمان وأن ينقل شعباً أو أمة من التخلف إلى التقدم، وأن يخلق الموارد البشرية والطبيعية من الهواء، وأن يحتكم للتنظيم والتخطيط والعلم والتكنولوجيا، وأن يعطى السيادة لقيم الحرية والعدل السياسى والاجتماعى – كل ذلك ـ فى طرفة عين، أو فى عدد من السنين هى بحساب التاريخ طرفة عين!

من هنا – هكذا كنت اقول لسائلى – فإن الوقت مازال مبكراً للحكم على الثورة الإيرانية. وربما كان أكثر ما نحتاجه فى شأن الثورة الإيرانية اليوم، هو محاولة الفهم أكثر من محاولة الحكم. وأتذكر أننى قلت فى مؤتمر عام لاتحاد الصحفيين العالمى فى دورته السابقة فى مدينة "فلورانس" فى إيطاليا:

-إننا نتعلم لغة شعب من الشعوب لكى نستطيع أن نتكلم معه، ولكن علينا أن نتعلم تاريخه إذا كنا نريد أن نفهمه.

هكذا تصبح أمامنا بدل القضية قضيتان:

•قضية الثورة فى حد ذاتها كظاهرة إنسانية عامة.

•وقضية الشعب الثائر ذاته كتجربة تاريخية خاصة.

وبدون ذلك تصبح محاولاتنا رحلات إلى بحار الظلمات.

............

لكن محاولة "الفهم" ليس معناها السقوط فى مهاوى "التبرير".

والحقيقة – فيما أظن – أن الثورة الإيرانية لم تستطع مواجهة بعض التناقضات الطبيعية التى اعترضت طريقها بأسلوب مستنير. وكان التخوف من ذلك بادياً منذ أول لحظة، وذلك بسبب الطبيعة الخاصة للعملية الثورية فى إيران، ونوعية القيادة التاريخية التى تولت قيادتها.

ولعلى أزعم أننى ناقشت هذا مع "آية الله الخمينى" فى أول مرة لقيته فيها فى فرنسا فى شهر ديسمبر 1978، وقبل أن يتحقق انتصار الثورة على أعدائها وينهار نظام الشاه، وقبل أن يعود هو إلى إيران بثلاثة أشهر كاملة.

إن مناقشاتى معه فى ذلك الوقت نشرت فى جريدة "الوطن" وغيرها من الجرائد العربية التى تنشر معها مقالاتى باللغة العربية، وكان ذلك فى شهر فبراير 1979 – أى نفس الشهر الذى عاد فيه "الخمينى" إلى طهران.

قلت له، ونشر ما قلته فى حينه:

- إذا استعملت تعبيراً عسكريا لتصوير الوضع الآن، فإننى أظن أنك بسلاح الدين تستطيع أن تقوم بدور المدفعية البعيدة المدى وأن تهدم نظام الشاه فوق رؤوس أصحابه. لكن ذلك لا يحقق النصر.

تحقيق النصر فى الثورة كما فى الحرب يحقق بالمشاة الذين يحتلون المواقع ويتولون تطهيرها ويتحملون مسئولية المحافظة عليها.

إننى أسمع دوى مدافعك، ولكنى حتى الآن لا أرى أثراً لمشاتك إن المشاة فى الثورة هم الكوادر السياسية، وهم جماعات الفنيين والخبراء القادرون على تنفيذ مهام الثورة وبرامجها.

ولم تكن لدى "الخمينى" – كما أوردت فى ذلك الوقت – إجابة مقنعة على هذا السؤال. وعلى أية حال فقد كان هدير المدافع، وبروقها ورعودها، يغطى فى ذلك الوقت كل الأسئلة والإجابات.

ومنذ ذلك الوقت المبكر، وعند الفجر من العملية الثورية، كانت هناك تناقضات ظاهرة للعيان لا تنتظر غير انتصار الثورة لكى تفرض نفسها:

1-التناقض بين رجال الدين ورجال السياسة، وتصورات ومفاهيم كلا الطرفين.

2- التناقض بين الذين قاوموا من الخارج ضد نظام الشاه وبين الذين تحملوا من الداخل جبروت "الطاغوت" وسطوته، وأيهما له الحق الأول وأيهما تكون له الكلمة النافذة.

3-التناقض بين فكرة الدين – وهى شاملة – وبين فكرة الوطنية – وهى محدودة.

4-التناقض – أو التناقضات – بين الواقع الجديد فى إيران وبين الواقع فى المنطقة من حوله.

5-التناقض بين الأحلام والحقائق فى العلاقات الدولية والإقليمية وحتى المحلية، وبالذات مشاكل الأقليات العنصرية فى إيران.

6-التناقض بين الجماعات الثورية وبين المؤسسات الدائمة فى إيران، وفى مقدمتها الجهاز الحكومى وجهاز القوات المسلحة.

وهكذا، وهكذا.

مجموعة متشابكة من التناقضات ربما يجملها العنوان الذى اختاره "لينين" لأطروحته الشهيرة عن "الثورة والدولة". ولم يكن مؤكداً لى أن "الخمينى" قد قرأ أطروحة "لينين"، وعلى فرض أنه كان قد قرأها فما أظن أنها كانت تفيده فى كثير!

............

وقد كانت حركة هذه التناقضات على أشدها طوال الشهور الثلاثين – حتى الآن – للثورة.

فى التناقض بين رجال الدين ورجال السياسة – مثلاً – اختفى مجلس الوزراء الأول الذى تولى الحكم كله بعد الثورة – "بازربيجان"، "سنجابى"، "يزدى"، إلى آخره.

فى التناقض بين الخارج والداخل – مثلاً – عاد "أبو الحسن بنى صدر" – أول رئيس للجمهورية الإسلامية فى إيران – إلى المنفى فى باريس، وذهب "آية الله بهشتى" – أول رئيس للحزب الجمهورى الإسلامى – إلى لحد فى حديقة الزهراء، مثوى الشهداء قرب طهران!

فى التناقض بين فكرة الدين وفكرة الوطنية – مثلاً – وجدت الثورة الإيرانية نفسها تتحول من ظاهرة إنسانية إلى ظاهرة شيعية محاصرة فى إيران.

فى التناقض بين الواقع الجديد فى إيران وبين الواقع الإقليمى – مثلاً – وجدت إيران نفسها فى حرب مسلحة مع العراق.

فى التناقض بين الأحلام والحقائق – مثلاً – ضيعت الثورة الإيرانية سنة كاملة فى مشكلة الرهائن تحت شعار "إذلال الولايات المتحدة أعدى أعدائها، ووجدت الثورة نفسها فى معارك مع "الأكراد" و "الأذربيجانيين" و "البالوش" – وهم من مواطنيها.

وفى التناقض بين الجماعات الثورية وبين المؤسسات الدائمة وجدت الثورة نفسها عاجزة حتى عن حماية قادتها.

لقد تصورت – مثلاً – أنها تستطيع أن تحل جهاز الأمن السياسى وتحرق ملفاته، ولكنها عندما بدأت تواجه أعداءها وجدت نفسها بغير معلومات... بغير ذاكرة. وتصورت – مثلاً – أنها ليست فى حاجة إلى إدارة، ولكنها اكتشفت أنها غير قادرة على التخطيط – فضلا عن التنفيذ – فى أى مجال من المجالات.

............

برغم ذلك كله مازلت أقول إن الوقت مبكر بعد لإصدار الأحكام. فكل ما واجهته الثورة الإيرانية حتى الآن، هو ما واجهته وتواجهه أى ثورة تستحق هذا الوصف. فكل ثورة تواجه فى العادة سلسلة مراحل متعاقبة.

فهى – أولاً – تعيش مرحلة الاندفاع: الحماسة شلالات هادرة، والأحلام سحب طائرة... والسماء هى الحدود، هذا إذا كانت هناك حدود. فى هذه المرحلة تكون الثورة شعارات ومبادئ لا يملك أحد أن يختلف معها، وهكذا تتجمع من حول الثورة قوى أوسع من قياداتها الحقيقية، ويكون لدى قيادات الثورة من سعة الصدر والتسامح والرغبة فى طلب الإجماع وتحقيقه ما يدعوها على الاستعانة بهؤلاء الذين جاءوا إليها من غير طريقها.

تجىء بعد ذلك – ثانيا – مرحلة الحقيقة، رؤيتها أو الارتطام بها، ويكون ذلك حين تظهر مصاعب التغيير وأحياناً مستحيلاته، وحين يجىء مأزق التناقض بين الثورة والدولة. فى هذه الحالة يكون أول الضحايا هم الأصدقاء الذين جاءوا إلى الثورة من خارج صفوفها، يقع الخلاف بينهم وبين قيادات الثورة الحقيقية، وتلقى عليهم مسؤولية التعثر ليس لأن القوى الثورية تبحث عن كبش فداء ولكن لأن هذه القوى تكون مازالت بعد تحت تأثير أحلامها، غير قادرة على تصور أنه ليس كل الأحلام قابلة للتحقيق، فضلا عن مشكلة الإيقاع الزمنى اللازم للتحقيق، وهى مشكلة لا يكفى لحلها هدير الشلالات أو ارتفاع السحب أو اتساع السماء إلى غير ما حدود!

 

إن الثورات تواجه هذه المرحلة بواحدة من اثنتين:

 

•إما أن تنظر إلى الحقيقة فى عينها وتبدأ فى مواجهة مشاكل التغيير وقضاياه بتعبئة كاملة للموارد والناس والظروف.

 

•وإما أن تهرب من الحقيقة، تجرى وهى تتصور أنها تطارد أحلامها وهى فى الواقع تطردها، فإذا هى توسع فى الداخل مواقع أعدائها، وإذا هى فى الخارج تستعدى على نفسها خصومات أكبر وأعمق مما تسمح به ضرورات تعبئة الموارد والناس والظروف، خصومات كان ممكناً حلها أو كان واجباً تأجيلها.

 

لكن القيادات الثورية تتصور – خطأ فى الغالب – أن عداواتها الداخلية والخارجية تعطيها الفرصة لبناء قاعدة قوية، لكن مشكلة هذا النوع من القواعد أن رقعته تضيق مع كل يوم، خصوصاً إذا التقت خصومات الخارج مع خصومات الداخل واشتدت الضغوط وساعدتها مصاعب التغيير.

 

إن الانزلاق إلى حالة الهرب من الحقيقة يقود الثورة إلى المرحلة الثالثة، وهى مرحلة التراجع، وربما مرحلة الهزيمة.

 

ولقد شهد التاريخ من قبل ثورات تراجعت أو انهزمت قياداتها، ولكن مبادئها وأفكارها انتصرت وسادت. وعلى سبيل المثال فلقد هوت المقاصل على رؤوس كل قادة الثورة الفرنسية. وحتى روبسبير زعيم مرحلة الإرهاب الثورى فى وجه الإرهاب المضادة للثورة فقد رأسه حين جاء الدور عليه – لكن مبادئ الثورة الفرنسية وأفكارها استطاعت أن تتجاوز عصر الإرهاب الثورى والإرهاب المضاد، وأن تتجاوز ظاهرة "بونابرت"، وأن تتجاوز ظاهرة عودة "البوربون" إلى عرش فرنسا – لتؤكد بعد هذه العصور جميعاً سيادة الحرية والإخاء والمساواة وتفيض بها على أوروبا كلها والعالم بأسره – وليس فرنسا فقط!

 

لكن المأساة المروعة لدول العالم الثالث فى العصر الحديث أنها جميعاً بنايا هشة فى مواجهة رياح عاتية. وتراجع الثورة أو انهزامها يؤدى فى الغالب إلى اندحار مبادئها وأفكارها أيضا، لأن الأقوياء الرافضين لهذه المبادئ والقيم يشددون ضغوطهم ولا يرفعون أيديهم إلا بعد أن يتأكدوا أن المثال الثورى قد أصبح أمثولة ثورية... عادت بها الأمور بعد الثورة إلى أسوأ مما كانت قبلها..

 

والسؤال الآن هو: أين تقف الثورة الإيرانية الآن؟

 

أكاد أقول إنها تقف عند مفترق الطرق فى المرحلة الثانية – مرحلة مواجهة الحقيقة.

 

ثلاثون شهراً من عمرها لم تأخذها بعد إلى ما وراء هذه النقطة، وإن كانت هناك شواهد تدعو إلى القلق.

 

بقيت لى ملاحظة لابد منها قبل أن أترك الكتاب يروى قصة الثورة الإيرانية كما تابعتها.

 

هذه الملاحظة هى أننى أعتذر عن كتاب لى يقدم لقراء العربية بغير أسلوبى. ذلك أننى كتبته أصلاً باللغة الإنجليزية، ولم يكن فى استطاعتى – مع رغبتى فى ذلك – أن أقوم بترجمته بنفسى إلى اللغة العربية وإلا كان معنى ذك أننى أكتب كتابين... ذلك أن لكل لغة روحها وأسلوبها.

 

وأنا أعرف من تجارب سابقة لى أن تقديم كتاب مترجم لكاتب عربى له أسلوبه الذى عرفه الناس عنه تجربة غريبة، أشبه ما تكون برجل يقدم نفسه للناس بغير زيه المألوف... عمامة فوق بذلة، أو عقال فوق مايوه استحمام – مثلاً – لكن هذه التجربة الغريبة بدت لا مفر منها – مع الأسف – إلا إذا حمَّلت نفسى فوق ما أطيق وكتبت فى نفس الموضوع كتابين وليس كتاباً واحداً!

 

والحقيقة أننى رفعت الحمل الذى كان يمكن أن أحتمله ووضعته على عاتق الأساتذة الذين تولوا ترجمة الكتاب من الإنجليزية إلى العربية وهما :الدكتور "عبدالوهاب المسيرى" أستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة عين شمس، والأستاذ "الشريف خاطر" مدير عام الدراما والتخطيط بالشبكة الثقافية بالإذاعة المصرية – واثقاً فى غير مراجعة أنهما سيقومان معاً بجهد مشكور يقدم حلاً معقولاً للمشكلة.

ينبغى أن أنوه أيضا أننى عدت فى الطبعة العربية لهذا الكتاب إلى العنوان الأصلى الذى عملت تحته طوال فترة إعداده، وهو عنوان "مدافع آية الله". وقد رأى الناشرون فى بريطانيا وأمريكا أن يعدلوا عنه فى اللحظة الأخيرة إلى عنوان تقليدى آخر هو "عودة آية الله"، وكان رأيهم أن العنوان الأول يعطى للقارئ انطباعاً عن الكتاب لا يتفق مع حقيقته، فقد يتصوره البعض على أنه عرض صحفى سريع لوقائع الثورة الإيرانية من نوع ما يصدر عادة عن بعض الأحداث الكبرى وكأنه من حبوب البلع السريع التى تمتلئ بها الصيدليات الآن. فالقارئ الإنجليزى أو الأمريكى – فى رأيهم – لا يعرف أن اهتمامى بإيران – وكتابى الأول عن الثورة الإيرانية الأولى أيام الدكتور "محمد مصدق" – يعود إلى قرابة ثلاثين سنة مضت. ولقد تصورت أن القارئ العربى يعرف الحقيقة، وهكذا رجحت أن أعود فى الطبعة المقدمة إليه لعنوانى الأصلى الذى عشت معه سنتين فى الإعداد لهذا الكتاب.

ثم أترك الكتاب لهؤلاء الذين دفعتهم النوايا الحسنة إلى طلبه... راجيا وداعياً!

عن الاهرام

اخر الأخبار