
رسالة مفتوحة إلى مواطن ليبي..من متساكني-درنة الجريحة-*

محمد المحسن
أمد/ ".يفتَقَد البدر في الليلة الظلماء..ومهما الأعاصير تقطف رقابا..يظلّ على شفاه الليبيين الغناء.."
اقتادتك-درنة-من يد روحك إلى فردوس الطمأنينة،بل ربّما إلى النقيض..وما عليك-بعد كل هذا الألم،إلا أن تتأمل وتنتظر.
جرح مفتوح،وعدالة شائخة،وضمير إنسانيّ كسول وضرير..لا يفعل غير أن يعدّ حصيلة الخراب ويتأفّف من وفرة الجثث المتناثرة هنا..وهاك!..وأيضا : ينتظر.
ضجرت ذاكرة التاريخ.ضجر الشهود.ضجرت الأسلحة والقوانين والمذاهب..ضجرت الطبيعة..ضاقت الأرض بما رحبت والسماوات أيضا،وضجرت أرواح الموتى..لكن-وحدها-شهوة الموت-إلى مزيد من الضحايا..لم تضجر! الموت يشحذ شهية الموت.
أنتَ الآن وحدك في عراء الخليقة الدّامي،تقذفك الرّياح الكونية من بيت متهدّم..إلى هواء يتهدّم..إلى أرض تنتفض..إلى عدالة عمياء..إلى إعصار أخرس..إلى ضمير أعزل وكفيف..وإلى أمل يضيق ولا يتهدّم..وعلى شاشة الملأ الكوني،تترقرق الدّمعة الأكثر إيلاما وسطوعا في تاريخ صناعة الألم،وتعلو صيحة الضمير الأعزل المعطوب،دون أن تُسمَع..!
ودائما:ثمة أبرياء يسقطون..ودائما بين تموجات الأعاصير في مدها القاتل،ثمة أثمان باهضة تدفَع..ضحايا يجرفهم التيار الهادر..وخلف الضحية..العماء والصّمت..وخلف العماء والصّمت..شعب منكوب يكفكف دموعه-بصبر الأنبياء-على حواف المقابر..
لكن..يا ابن درنة..
ثمة أمل ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت..أمل يتمطى عبر التخوم.
وإذن؟
إذن،وحدك بإمكانك أن تحمل بين ضلوعك أملا وضّاء ينير عتمات الدروب أمامك..ووحدك بإمكانك أن تقايض سخط الطبيعة بكلمة الأمل الساطع..فقد علّمنا التاريخ-يا إبن درنة-أنّه في أحيان كثيرة يمكن للأمل الأعزل أن ينتصر على جنون الطبيعة في رقصاتها الدرامية..وجنونها السافر..
ونحن!
نحن الذين نخبئ في عيوننا عتمات الأحزان..نحن من المحيط إلى الخليج أمام البحر المتوسط،تنتصب أمامنا حاجبات الوميض،نقرأ أوجاعنا ونردّد كلمات لم نعد نعرف أن نكتبها.
وأنتَ..يا ابن درنة الصابر-هل بوسعك منحنا قليلا من صبرك الرباني،فالرّوح محض عذاب؟..
لكن من أين سيجد الصّبر طريقه إلى قلوب الحزانى والمعطوبين؟! ومن أين سيسلك-المريد-دربه إلى "محراب" درنة الكئيبة؟
ياإبن درنة:أنت تشيخ وليس الزمن.الزمن يشيخ وليس أنت.ولكن الأرضَ تدور كما تعلّمت في الطفولة.وإذا بك تدور معها وأنت تدري.ظللت ترفض وترفض وترفض سنوات طوالا،كان حزنك أثناءها يتلوّن أحيانا بألوان الطيف أو ألوان الورد.
رأسك يدور،ولكن لا تتعب،قد تنسى قليلا ما يجري أمام عينيك لكنّك لن ترتجف..
أيها الشامخ في حزنك المضمخ بالدموع:أنا-كاتب هذه السطور-المقيم في الشمال الإفريقي،أنا الملتحف بمخمل الليل الجريح..أنا المتورّط بوجودي في زمن ملتهب..أعرف أنّ الوجعَ في درنة الليبية ربانيّ،كما أعرف أيضا أنّ الصبر هناك رسوليّ،لكنّي لا أملك سوى الحبر،وما من حبر يرقى إلى منصة الدّم.
وحتى حين يمور الدّم في جسدي باحثا عن مخرج،فإنّي لا أجد سوى الكتابة.
الكتابة عن الشيء تعادل حضوره في الزمن،ووجوده واستمراره في الحياة.ولأنّ الأمر كذلك فإنّي أصوغ هذه الكلمات علّها تصلك عبر الأنقاض،أو لعلّها تصل إلى كل أرملة تلتحف السواد،وإلى كل يتيم تلألأ في عينيه دموع بحجم هذا الألم..
*حطام ودمار وأحياء كاملة سوّيت بالأرض، هكذا يبدو المشهد في مدينة درنة الليبية المنكوبة عقب أيام قليلة من العاصفة المتوسطية "دانيال" التي ضربت البلاد مؤخرا وتسببت بسيول مدمرة.