قراءة في رسائل القائد صلاح خلف (أبوإياد)

تابعنا على:   15:08 2023-06-07

بكر ابو بكر

أمد/ في المهمة التي كلّفني بها الأخ العزيز والكريم موسى الصفدي لكتابة كلمة حول هذا الكتاب الجميل لقائدنا الفذّ أبوإياد، رحمه الله وكل شهداء فلسطين والأمة، (كتاب: رسائل من المحب الى الأحب من إعداد منير صلاح خلف) وبدلًا من أقدم لمواقفي القليلة ولكنها المؤثرة بي معه،قررت أن أقرأ قليلًا في فكر ونفس الرجل من مضمون رسائله الخاصة هذه. لعلي أنشط في تبيان حجم المعاناة والأمل والتنازع وحالة التجاذب المريرة التي يعيشها المناضل الانسان،

والقائد بين حياته العامة وشعبه وقضيته التي تستغرق جلّ وقته، وبين وقته المفترض أن يكون لعائلته في توازن غالبًا ما يكون مختلًا لصالح الأول.

عبّر الأخ صلاح خلف بتقديري عن معانتين كبيرتين في رسائله المتوفرة، الأولى عن المعاناة السياسية والتنظيمية والفكرية القيمية في إطار خوضه للنضال الوطني ووجوده في قيادة الثورة الفلسطينية، وتلك المعاناة النفسية والعاطفية لابتعاد عائلته عنه أو اضطراره للابتعاد عنها. وهي التي رأى فيها-أي عائلته- حِصنه وحائطه الداعم ممثلًا بزوجته وأولاده الذين لم يستطع أن يُغدق عليهم الحب بالطريقة المكتملة، وهو الحبُ الذي كان بالفعل يشعّ من عينيه على كل مَن التقاهُ، فكأن شمولية الحب لديه قد خلّفت تقصيرًا أحسّه هو بالخاص، وغمرًا بالعام.
لا يتورع أبوإياد الانسان والمناضل الاعلان عن انحيازه الواضح للنضال والقضية من جهة، وبذات الوقت لقيم الحُب الجامعة.

وفي سياق آخر يعبّر عن احترامه وإجلاله للمرأة ضد الأفكار المجتمعية السلبية ما تقرأه برسائله القصيرة هذه. وهو أيضًا لا يخجل، ولمَ الخجل! حينما يكرر إعلان حبّه لزوجته أم أولاده، ولأولاده واحدًا واحدًا.

إن مخزون المحبّة الهائل الذي يملًا قلبه المتيّم بقضيته وبشعبه ومنه أسرته بات يفيض حتى يغطي كل من التقاه، أو قابله فلِمَ لا يتدفق لأسرته الخاصة، والتي لربما لم يكن من السهل عليه أن يعبر عنها شفاهةً، فكانت الكلمات على الورق بقوة اللقاء.

أبو إياد الثائر والقائد من خلال رسائله الورقية القليلة يُظهِر نبض الثائر الشامخ بشحنات دفع وتحفيز قوية للأمام تتدفق مع كل كلمة ينطقها أو يكتبها فتحيل الانسان مقابله الى شعلة نشاط وهمة عالية.

أبوإياد الانسان الفخور بشعبه وأولاده، والمناضل راسخ الايمان بالله وبحقه وقضيته، يظهر الثقة بكل الشعب، وبالأسرة باعتبارها جزء من هذا الشعب. ولكنه رغم ذلك يحس أحيانًا بالتقصير فلا يتورع وهو القائد الكبير أن يعتذر ويطلب الصفح وهذه لعمري من صفات القائد الفذ.

-تراهُ لا يخجل عندما يعبّر لزوجته –وكأنما يكلم نفسه-عن حزنه وبقوله أنه:"يغرس أنيابه في كرامتي وحريتي"، وحين يعبّر عن خيبة أمله. ولكن الى ذلك تراه معتزًا شديد الاعتزاز ب"المُثُل التي عاهدت ربي ونفسي عليها".

-وفي تعبيره عن الحب الصافي والكامن في قلبه لزوجه وأولاده يقول لها:"تعرفين أنك عندي أكبر من كل الدنيا وأعز".

-وبصوت الانسان العاشق حين يقول لها: "لقد أصبحتِ جزء لا يتجزأ من كياني، أنني أحبك، أحبك بكل ما تحمل كلمة الحب من معاني الشوق واللهفة والمودة".

- وحين يتخذ مقعد الحكمة والرجاء يقول:" كنتِ أنت دائما وفي كل الأزمات النور الذي يضئ لي الطريق مطمئنا أن الله قد منحني إنسانة فيها الوفاء وروح الجهاد والتضحية".

-وهو على هيبته كقائد مُهاب لا يشعر بالنقص حين يعتذر لزوجته كما يفعلها أيضًا في حياته النضالية فيقول: "يظل قلبك كبيرا فلا يكون فيه حقد عليّ أو غضب مني وأرجو أن تسامحيني على قسوتي عليك في بعض الأحيان".

- وهو عندما يعاتب فإنه ينتقي كلماته بدقة كي لا يجرح، ويمزج عتابه بالحب وحلو الكلمة والرجاء حين يقول لزوجته "أرجو ألا تكتبي لي بقسوة وانفعال، لأنني بشر وأتألم من الكلمة إذا كانت قاسية كما أتأثر من الكلمة الحلوة التي تخرج من الإنسانة التي احبها واحترمها و أقدسها"

-فهي –أي زوجته-التي يشعر "براحة غريبة" وهو يكتب لها كما قال ما يؤدي الى أن: "تنسيني كل آلامي وسهري وتعبي ومعاناتي وتفتح أمامي أبواب الأمل"

-وحين يتحدث عن أولاده الأعزاء تجد منه كإنسان ووالد أيضا عمق المحبة، وألم الفراق فهم "حفظهم الله لي... في حياتي لم أعرف الدمعة على فراق عزيز أو لأي سبب من الأسباب ولكن رسائلكم لي هزتني من الأعماق"

-ويضيف: "وأنا أبٌ مثل كل الآباء لي قلب ولي عاطفة تحب أن تكون في العيد ومن حولها كل الأولاد والأهل ولكن أريد أن أسألكم سؤال بسيط.......

-وهنا يظهر الصراع الكبير في روحه ونفسه بين العام والخاص، بين دور القائد والقدوة لشعبه، وبين دور الأب في أسرته، فيمزج بينهما حيث يقول لأولاده مذكرًا "هناك آلاف الأطفال لا يرون آباءهم في العيد ... هؤلاء الأطفال فقدوا أعز ما لديهم في معارك الوطن، فالحبُ يظهر بالدراسة والاجتهاد حتى يكون افتخاري بكم كاملا"

-وحين تلوح في ذهنه ضرورة تقديم العقل على العاطفة في محاولة لتفسير ما يمر به من حزن أو ألم فراق أو صراع، أو مبررًا عدم إغداقه العاطفي الشفوي عبر التواصل الدائم فإنه يقول: "أحاول أن أتسمر بعواطفي وأجمّدها حتى لا أضعف أو أسترخي".

-لكنه في حالة ضعف إنساني أو وجْد يقول:" كنت أكتم الدمعة في عيوني حتى لا أظهر ضعفي أمامك، وأمام الأحباء ولكن لم أعد احتمل أنني أحبكم ...أحبكم.. وأشتاق لكم وكأنني عاشق صغير يعيش أيام الطفولة".

- في موضع آخر حين يشتد إحساسه بالفراق أو التقصير يقول كقائد لأبنائه موضحًا السبب بالإشارة الى ما هو أكبر ممثلًا بعِظِم الرسالة التي يحملها ويوصيهم بها من بعده حين يقول لزوجه: "أنني أتركهم لما هو أكبر منهم وأكبر مني أتركهم من أجل وطني من أجل بلادي من أجل الشعب الذي أحببته أكثر من أولادي."

أبوإياد القائد القدوة والنموذج رحمه الله وغفر لنا وله في رسائله هذه ينثر بعضًا من مبادئه وأفكاره وقِيَمه العروبية الاسلامية الواضحة ذات الطبيعة الإيجابية التحفيزية التي تحمل البشرى والأمل والثقة الأكيدة بالنصر فيقول:

-"أن الحق مهما طال الزمن سيكون هو المنتصر". وكأنه يتمثل القول العربي المأثور أن للباطل جولة وللحق صولة، ولم لا يفعل واكثر وهو الخطيب المفوه والمتحدث الجذاب.

- ويؤكد أن القوة له وللشعب تأتي قطعًا من ثلاثية الإيمان "بالله والوطن والثورة". وفي موضع آخر يضيف الإيمان بالأمة أيضًا، وهي القوة التي تمنع الهزيمة وتحقق النصر.
-وأن" الإنسان في هذه الحياة لا يخلّده ولد أو بنت، إنما يخلّده عمله وذكراهُ الطيبة"، ولأن حركة فتح بنيت على فكرة العمل أولًا، وعلى العطاء اللامحدود، وعلى المبادرة أصبح الشعار بالتطبيق العملي حقيقة رسّخها هو وياسر عرفات وأبوجهاد وأبوالسعيد وصحبهم ومازالت فينا.
-" ولن يثنينا عن الكفاح والنضال إلا النصر أو الاستشهاد في سبيل الله والوطن"، ما هو شعار الثورة الفلسطينية منذ الشهيد عزالدين القسام، وصولًا للانطلاقة الحديثة عام 1965م بقيادة حركة فتح. إنه الشعار الذي ساهم هو شخصيًا في نحته وتكريسه في القلوب والعقول كلها الى اليوم، وكان في استشهاده نموذجًا لذلك.

-"سيظل إيماني الذي لا يهزه انحراف عن الواجب يدفعني للصمود وسيظل لساني ينطق بالحق الذي في قلبي غير عابئ بكل المنافقين".

- "كل ذلك من أجل المُثُل التي عاهدت ربي ونفسي عليها".

-يقول أبوإياد إننا "الفئة من أبناء فلسطين التي رفضت الهزيمة، وماتت وهي ترفض الهزيمة، وستعيش إذا عاش منها نفر وهو معتز بنفسه معتز بإخوانه معتز برسالته".

استشهد رجل المُثُل العليا والقيم الكريمة، استشهد صاحب القلب الكبير بحجم فلسطين، الانسان المحب لكل من أطلّ عليه أو سمعه لاحقًا فشعر في تعابير وجهه ورنّة صوته مقدار الثقة والقوة والنداء.

استشهد القائد الصادق المؤمن صائنًا لعهده مع الله سبحانه وتعالى محافظًا على نقاء الراية، والى جنة الخلد بإذن الله مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وحسُن أولئك رفيقا.

كلمات دلالية

اخر الأخبار