
الحلواني في بيت المعمار

د.أسامه الفرا
أمد/ بين سور قلعة صلاح الدين ومدرسة السلطان حسن سرت في شارع ضيق خلف رجل تطوع أن يدلني على بيت المعمار المصري، البيت قديم حال الكثير من البيوت في درب اللبانة التي كانت شاهدة على حقب زمنية تغيرت وتبدلت فيها الدولة ورجالها مراراً، ما أن تطأ قدماك عتبته حتى يحملك التاريخ لحقبة ما زالت الأماكن المحيطة به تنطق بأحداثها، البيت من العصر العثماني غلبت عليه العمارة المملوكية، والمفارقة أن البيت عُرف بحارسه "علي لبيب" أكثر مما عرف بمالكيه الأخوين عمر وإبراهيم الملاطيلي، كان مزاراً للفنانين والمستشرقين الأجانب وسكنه الكثير من الفنانين ومن بينهم المعماري الكبير حسن فتحي، قبل أن يتحول إلى بيت العمارة التابع لوزارة الثقافة ليكون منبراً ثقافياً يختص بفن العمارة، العمارة التي ترصد بجانب فن البناء تطور المجتمع وتحديد هويته وإنعكاسها على سلوكه الجمعي.
رغم أن ردهة البيت غير مصممة البتة لإستقبال ندوات ثقافية ومساحتها الضيقة لا تسمح لها ولا لأركان البيت المختلفة بهذه الوظيفة، إلا أنها إمتلأت بالحضور الذي جاء يستمع إلى الروائية المبدعة د ريم بسيوني رئيس قسم اللغويات بالجامعة الأمريكية وهي تتحدث عن روايتها "الحلواني .. ثلاثية الفاطميين"، سيما ما يتعلق بفن العمارة في الرواية تناقشها في ذلك إستاذة الهندسة المعمارية والتصميم الحضري د هبة صفي الدين، الكاتبة تناولت في روايتها الدولة الفاطمية عبر ثلاث شخصيات الأولي لجوهر الصقلي، حفيد القائد جوهر الصقلي الذي شيد القاهرة وجعل منها روضة ما أن وصلها المعز لدين الله الفاطمي حتى جعل منها مركز حكم الدولة الفاطمية، وبنى جامع الأزهر وحظي بحب العامة له، ومن يستحوذ على حب العامة يحل عليه غضب الخليفة، وإن كان القائد جوهر الصقلي دفع مستقبله السياسي ثمناً لحب العامة له حيث مات دون أن يكون له فرس بعد أن أقصاه الخليفة، فإن إبنه الأمير الحسين دفع حياته ثمناً لهذا الحب، وحفيده أمضى حياته يرتعد من حب العامة، لكن ما يدعو للدهشة أن القائد جوهر الصقلي وأسرته من بعده التي كان لها الفضل في تثبيت دعائم الدولة الفاطمية وما شهدته تلك الحقبة من أحداث جسام إلا أن إسم الحلواني ظل مرتبطاً بالقائد وأسرته، حيث يقال بأن من بنى القاهرة حلواني وسواء تعلق الأمر بالقائد جوهر الذي عمل في صناعة الحلوى قبل أن يلتحق بالجيش ويصبح قائد جيوش الدولة الفاطمية والقول محل شك أم أن أسرته من بعده هي من إهتمت بصناعة الحلوى، لكن الكاتبة أبدعت حين جعلت من صناعة الحلوى قواعد أسست عليه بنية روايتها، فتارة تأخذ القاريء بيده إلى المطبخ لتصنع أمامه أطابق الحلوى المختلفة بمكوناتها وطريقة عملها، ثم لا تلبث أن تدفع بالحلوى إلى جادة الحكم والسياسة وتفاصيل الحياة بتجليات صوفية تنتشل فيه القاريء من عالم الماديات الضيق إلي فضاء الروحانيات الرحب.
أما الشخصية الثانية فهي لبدر الجمالي "والي عكا" الذي إستعان به الخليفة المستنصر حين عانت مصر من سبع سنين عجاف عمت فيها الفوضى والفساد والفقر والمجاعة، وكان له الفضل في إعادة الأمن والأمان لربوع مصر ومعه حل الازدهار وتبدلت أحوال الناس وعم الرخاء أطنابها، ورغم الجدل التاريخي الذي أحاط بشخصية الجمالي بين إنجازاته المهمة من جهة حيث إنتشل مصر من مستنقع الفقر والفساد وأعاد للدولة الفاطمية قوتها ومجدها، وفي الجانب الآخر بطشه وجبروته والقضاء على معارضيه والذي وضعه في صورة مصغرة للحجاج بن يوسف الثقفي، إلا أن الكاتبة تقدم الجمالي للقاريء بصورة من زاوية أخرى كأنها تغوص في أعماقها لتخلق حالة من الإتزان بين القيم الأخلاقية والإنسانية من جهة وضرورات الحكم من جهة ثانية.
فيما الشخصية الثالثة كانت للقائد صلاح الدين الأيوبي، حيث نهاية الدولة الفاطمية وبداية الدولة الأيوبية، الملفت للإنتباه أن أبطال الرواية هم من غير العرب " صقلي ، أرمني، كردي" لكنهم أحبوا مصر وكتبوا صفحات ناصعة من تاريخها، والكاتبة أبدعت في توصيف العلاقة بين أبطال روايتها ومصر حين قالت "هذه بلاد تربكك وتفقدك السيطرة على أهوائك فتهيم كالمجذوب وتدافع عنها كالأسد آه يا مصر.. كل من جاء وقع في الغواية، هي حلوى تذوب في الفم ولا تبقى كما الدنيا".
ليس من السهل أن يطرق الروائي أبواب التاريخ، فهو بحاجة أن يسبر أروقته ويمشي في دهاليزه ويتفحص بيئته ويفك الكثير من طلاسمه كي يستخلص الحقيقة قبل أن يعيد سردها على القاريء، وكم أبدعت الكاتبة د ريم بسيوني في سرد تاريخ الدولة الفاطمية بإسلوب أدبي بمذاق الحلوى، وسبق لها أن فعلت الشيء ذاته في رواية "أولاد الناس.. ثلاثية المماليك"، ورواية "القطائع .. ثلاثية إبن طولون".