الشاعر التونسي القدير جلال باباي: (قصيدة رحيل أنموذجا )

تابعنا على:   14:55 2023-04-14

محمد المحسن

أمد/ الشاعر التونسي القدير جلال باباي : شاعرٌ يشبه شعاع الشمس الذي يخترق الزجاج..دون أن يلطخه أو يخدشه..وموجة عابرة على سطح المحيط الإبداعي التونسي.

(قصيدة رحيل أنموذجا )

-الإبداع ليس تاريخ المباركة،وإنما هو تاريخ التجاوز والانعتاق من المعنى الذي تفرضه القوة إلى قوة المعنى المنبثق بفعل الكتابة بوصفها عيداً لا يتوقف عن اقتراف البدايات. -(الناقد)

رحيل

أفرغني الرحيل من المعنى

ولم يبق إلا الغبار في الثنايا

لا بدٌ من نثر إذن

لأنتصر على الغزاة

يلزمني لغة القدامى

لأقتسم الارض طولا وعرضا

وافترش قوافيها بالذبذات

قد طال بي الطريق

ولم أعثر على الأوٌلين

يلبسني رداء اللغة الأمٌ

فأنطوي على سحرها

بتٌ لوحدي

أنا المسافر..أنا السبيل

وليس لي رفيق إلاٌ عزلتي

لا أرى إلاٌ سواي

وامتطي السراب

بنصف خطاي

لعلٌني ألتحق بالصدى

يقرع مآثرهم الباقية

بما ملكت يداي

سينكسر هذا الرحيل

أخيرا ....

... سآوي إلى مقامات السابقين

وتصبح كل السماء مداي.

(جلال باباي)

(٩يناير/جانفي 2023)

يمثل الشاعر التونسي الألمعي جلال باباي أحد رجالات الثقافة في تونس،وقد أبانت تجربته الشعرية عن تفوّق مبكّر ومقدرة فائقة،في الإبداع الأدبي. إنه بدون أدنى شك-وجه طبع بحضوره المتميز النشاط الثقافي والأدبي لسنوات خلت في بلدنا.وهو يشكّل برأيي-إسماً أدبيا مهماً في تاريخ الإبداع في تونس.

إنه شاعرٌ يشبه شعاع الشمس الذي يخترق الزجاج دون أن يلطخه أو يخدشه،وموجة عابرة على سطح المحيط الإبداعي التونسي،ونسمةٌ دافئة،وبسمةٌ حزينةٌ،وفي شعره عبق التاريخ والملح والماء والرعاة،وروائح أعشاب برية عانقت الشمس والهواء.

ويعلّمنا تاريخ الإبداع البشري أن الكتابة الحقيقية لا تنبجس من فراغ،ولا تنسلخ من الجاهز ومن رماد السائد وإنّما تقف على أرضية المشكلات الكبرى التي تطرحها الثقافة وهي تستقبل فجر المعنى المرتبط بتاريخيتها الخاصة،في محاولة لتجاوز مآزقها الخاصة واحتضان زمنها وإيقاع لحظتها.

وجلال باباي (وهذا الرأي يخصني) واحدٌ من ألمع شعراء القصيدة الجديدة في تونس.فقد كانت بداياته الأولى مبهرة سواءٌ في مضامينها أو في اكتمال بنيتها الفنية.

لقد جاءت قصائد -جلال-الأولى منذ البداية مكتملةً ناضجة،سليمة النطق مستوية البناء مغلفة بغيوم شفافة من الرمز اللغوي والفني..

وقد ظلّ -جلال-عبر مسيرته الإبداعية الخصببة وفيّاً لهذه التجربة الشعرية الشاهقة،ولم يتبرأ منها أبداً.

ولم يكن-جلال باباي يتعاطى مع الشعر بوصفه الوسيلة الوحيدة للتعبير وهندسة التلقي،وبوتقةً لاختبار إمكانيات اللغة،ومنصةً لجدل الأفكار،ووعاءً لتأمل الوجود،بل يتعامل مع النص بوصفه غاية في ذاته وليس جسراً هشّاً يقود إلى الارتماء في أحضان الجاهز المؤسّسي.بل إنني أجزم من خلال معرفتي الوثيقة الصلة به وبتجربته الشعرية أنه كان يؤمن أن للإبداع قيمة في ذاته بوصفه كشفاً وفتحاً لأقاليم جديدة تثري رصيد الحساسية الإنسانية وتغني مغامرة الإنسان الباحث دوماً عن ألفةٍ مع العالم والأشياء خارج نظام القمع والرقابة؛وكان يدرك،أيضاً،بحسه الشاعري المرهف،أن الإبداع ليس تاريخ المباركة وإنما هو تاريخ التجاوز والانعتاق من المعنى الذي تفرضه القوة إلى قوة المعنى المنبثق بفعل الكتابة بوصفها عيداً لا يتوقف عن اقتراف البدايات.

لقد كان -جلال-مثقفاً استثنائياً لا يبارك العالم كما ورثه في صيغته السياسية والإيديولوجية.

هذا ما يفسّر،ربما،عدم ركون كتاباته الشعرية إلى القول المباشر الذي لا ينفذ إلى جوهر العالم ولا يسافر إليه عبر اختراق القراءات المطروحة عنه ومساءلتها،وإنما كان يرفض أيضاً قراءات العالم التي تحددها الجهات المأذونة وتصادق عليها عائلة الثقافة المقدّسة.

وعليه،فإن قراءة التجربة الشعرية عند هذا الشاعر القدير تتطلب الذهاب الى منهج متوازي يقارب بين المناخات الفنية للقصيدة والمناخات الثقافية والفكرية المحيطة.

ويجد المتأمل لأعمال جلال باباي نفسه أمام تجربة شعرية جديدة،مملوءة بالتميز والفرادة..وهذا يدلُّ دلالة واضحةً وقاطعةً على أَّن الشاعر يمتلك ثقافةً متنوعةً..ورصيداً فكرياً وأنثروبولوجياً واسعاً..مما أفرز لنا تجربة شعرية متراكمة عبر مراحل عدة من حياة ومواقف الشاعر الثقافية والفكرية..

كل هذا الكم المعرفي والثقافي والأدبي ساعده أن يخطو بالقصيدة خطوات متسارعة ومتطورة الى الأمام..فجاءت قصائده ذات مسافات متوترة..وفجوات متباينة..وفضاءات متعددة..مرةً صاخبة..ومرةً هادئة..حتى وصل بالقصيدة الى مرحلة النضج..وتفكيك العبارات..وتأجيج الالفاظ...وتفجير المعاني.

ما أريد أن أقول ؟

أردت أن أقول من خلال هذا إن الشاعر التونسي جلال باباي شاعر وطني أقام في فضاءات الكتابة بوصفها وطناً لازوردياً ينفخ في قصب الكلمات أسرار الخلق والمعنى الذي يعتق فينيق الذات المبدعة من رماد المؤسسة الثقافية،ومارس الصعلكة الثقافية ورفض عبر مسيرته الإبداعية أن يكون مثقفاً يفكّر من داخل المؤسسة الرسمية،ولهذا ظلّ أدبه منخرطاً في الهم العام بوصفه همّاً مقدّساً.وكان -جلال المترَع بالجلال-مثقفاً ثورياً نقدياً،سمح لنفسه بأن يعيد النظر في كل شيء.

الشعر،بهذا المعنى،لغة مغايرة ومناهضة للثقافة التي هيمن عليها الخطاب الإيديولوجي الأحادي.

ومن هنا،فإنني أعتقد أن المتأمل الحصيف في ما يبدعه هذا الشاعر المتميز (جلال باباي) يستطيع -دون كبير عناء -أن يقف بنفسه على ما أقوله الآن.

أردت أن أقول كل ذلك كي تكون دراستي عن الشاعر جلال باباي شهادةً للتاريخ ومدخلاً إلى قراءة ظاهرة المثقف الاستثنائي في تونس المعاصرة،مشيراً إلى أن جلال قد أدرك مبكراً أن جوهر الإبداع يكمن في الانحياز إلى الكتابة الصادقة الجريئة بوصفها سؤالاً وبحثاً ووعداً بإنتاج معادل موضوعي للعالم في أفق الكشف المضيء من أجل قول الإنسان والأشياء.

نخلص مما سبق إلى ما أكدناه أكثر من مرة في هذه لقراءة-المقتضبة-وهو أن«جلال باباي »يمتلك رؤية واضحة تجاه العالم والأشياء،ويغلب على شعره الطابع الرومانسي الملحمي الواقعي،وهو يمتلك مميزات وخصائص تجعل له ملامح مختلفة وتكسب صوته نكهة مميزة بالنسبة إلى الآخرين.

وهنا أضيف :

قد لا نتجاوز الصواب إن قلنا أن الشاعر التونسي الفذ جلال باباي من أبرز الذين أثروا المکتبة التونسية والعربية عموما بقصائد-عذبة-تکشف عن الوعي الشعري الشديد والحس الرهيف وبلاغة الرؤية وانتمائه الشديد إلي الواقع.

ما قبل الخاتمة :

لاشكَّ في أنَّ الشعر فنّ مثير كباقي الفنون،وفن الشعر لا يعتمد فقط إيقاع التشكيل الجمالي،وإنما إيقاع الشعور الحسي التأمليّ في صناعة ذلك الدفق الروحاني،أو الومضة الروحيّة التي تعتصر مكنون الذات،وتبث ألقها بشرارة الإبداع،والشاعر المبدع ليس خلاّقاً للغة فقط،وإنما خلاّق لعالم آخر يسعى إلى الدخول في أتونه ألا وهو (عالم الرؤية) أو( عالم الحلم)..

وقصائد الشاعر التونسي السامق جلال باباي هي قصائد الألم..والأمل أو قصيدة الولادة الجديدة،بحس جديد،وشعور جديد،ومن لا يملك هذا الشعور المتجدّد لن يصل في شعره إلى مرتبة الفنّ،وإننا-في مطالعتنا لإبداعات جلال باباي في المجال الشعري نجزم بأنَّ -جلال- فنَّان تشكيلي،وفنّان روحيّ،وفنّان في ترسيم شعوره بألق اللحظة العاطفية الصوفية المحمومة التي تسعى إلى حيِّز المطلق والانفتاح التأملي،فحدود الرؤية-لديه-مطلقة مفتوحة،تجوب فضاء الآخر دون قيود اللحظة الزمنية أو الآنية الضيقة..

إنَّ حدود قصائده تجوب الحاضر،وتفتح آفاق المستقبل،تولد كل لحظة،لتبعث أمل جديد،وحلم جديد،وعالم جديد،لذلك،فالفنّ-في شعره-يكمن في طريقة تشعير الكلمة في فضاء السياق،فالكلمة تحسّ أنها تصنعك،والجملة تتدفق من ومض روحك،والقصيدة تترك بصمتها في قلبك وتجوب حلمك، لتتربع على عرش فؤادك،وتتلون ببريق عينيك.لترى ما لا تراه من سابق..وتحلم أحلاماً كانت في حلمك الأزلي..تفتقت أمامك من جديد..وعاودت إليك هدهدة الأحلام وضحكة الطفولة،التي أذبلتها جهامة الأيام،وجففت ينابيعها جراح السنين.

ختاما أقول :

الشاعر التونسي القدير جلال باباي" شاعر تـفـجر الشعـر في قـلبـه كما تفـجرت الصخرة بالماء لقوم موسى دون سابق عهد ,فتعهده بالشكر والجهد فما انبجس كما انبجست،ومد يديه إلى السماء,ورنا ببصره إلى العلياء،واستسقى من الله،وطلب منه العطاء فأعطاه،و اشترط عليه الجهد فاجتهد،فكان .

شعره ليس نظما كالناظمين،بل سيل جارف من الألم والأمل،وحنان قلب مفعم بالحب والخير..وقصائد مترعة بالجمال..رغم الألم والوجَع "

أُهنيء اخي الشاعر على هذه القصيدة،ولازلت عند موقفي بل ربما عند إصراري أن المتابع لن يلحظ ماهو أدنى في شعر -جلال-بين قصيدة وأخرى،وهذا التصاعد هو شارة النجاح..

فبارك الله بهذا الشاعر (الأستاذ جلال باباي) وبأمثاله ممن يجاهدون بألسنتهم وأقلامهم،ولا نملك إلا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت الأنصاري :

" أيدك الله بروح القدس "

كلمات دلالية

اخر الأخبار