حزب الله و"إسرائيل" ومرتكز الردع… دراسة تحليلية (1) و (2)

تابعنا على:   17:22 2023-04-13

حسن لافي

أمد/ تعد "إسرائيل" حزب الله من التهديدات الاستراتيجية على أمنها القومي، وقد تكرس هذا التصنيف الإسرائيلي للحزب على مدار تاريخ طويل من الصراع، و شهد الكثير من التحوّلات، إذ نظرت "إسرائيل" إلى حزب الله - حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي - على أنه تنظيم لبناني شيعي، ضمن منظومة المقاومة اللبنانية محدود الفاعلية، يعتمد على مجموعات عسكرية بسيطة بدائية، ولكن بدأت النظرة الإسرائيلية تختلف مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وتوقيع اتفاق الطائف عام 1989، فقد تحوّل حزب الله في النظرة الإسرائيلية إلى حركة المقاومة العسكرية الرئيسة ضدها في لبنان، والتي تعتمد على أسلوب حرب العصابات ضد القوات الإسرائيلية، و"جيش لبنان الجنوبي" الموالي لها، في منطقة جنوب لبنان المحتلة.

ارتفع تهديد حزب الله بالتصنيف الإسرائيلي درجة أعلى، مع امتلاكه سلاح صواريخ "الكاتيوشا" قصيرة المدى، التي هددت المستوطنات الإسرائيلية في الشمال منذ أواسط التسعينيات، ما أجبر "إسرائيل" على النظر بجدية أكبر إلى خطر حزب الله على أمن "إسرائيل"، خاصة بعد عمليتَي " الحساب والعقاب" عام 1993 و"عناقيد الغضب" عام 1996، التي حملت بطيّاتها جذور التغيير، في معادلة الردع الإسرائيلية تجاه حزب الله، وتجاه ما يمكن تسميته بداية معادلات الردع المتبادل، ما جعل "الجيش" الإسرائيلي يشك في كفاءة المصطلحات التقليدية للردع في العقيدة العسكرية الإسرائيلية من حيث ارتباط الردع الإسرائيلي بقدرة العمليات العسكرية الإسرائيلية، على تحقيق الحسم تجاه حزب الله، وبدأ التفكير الإسرائيلي العسكري بالتوجه إلى العمليات العسكرية الهادفة إلى إحداث تأثيرات محدودة، ينتج منها احتواء سلوك حزب الله الاستراتيجي تجاه "إسرائيل" وتقييده، كأسلوب ردعي جديد. 

يعدّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، مرحلة تاريخية مهمة في الصراع بين حزب الله و "إسرائيل"، باعتبارها المرة الأولى التي تنسحب فيها "إسرائيل" من أرض عربية، تحت وطأة ضربات المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله، وبعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، بدأت استراتيجية إسرائيلية جديدة في التعامل مع تهديدات الحزب، اتسمت بالاحتواء، وعدم الاندفاع بالرد العسكري المكثف على عملياته، ما دام لم تتخط تلك العمليات السقف المقبول إسرائيلياً من جهة، والامتناع عن ردود الفعل الإسرائيلية التي من الممكن أن تؤدي إلى حرب مفتوحة، والاقتصار على عمل عسكري عقابي محدود، معتمد على النيران الموجهة، من جهة أخرى

وقد ارتكزت سياسة الاحتواء على عوامل عدة، أهمها ما ذكره الباحث الإسرائيلي، يائير عفرون: "التهديد العسكري العقابي المتبادل من جهة، والعوامل السياسية الاجتماعية من جهة أخرى"، وسعت الحكومة الإسرائيلية، إلى عدم تعطيل الحياة في الشمال، والعمل على استعادة نسيج الحياة المدنية، وازدهار الاقتصاد للمستوطنات هناك، بعد فترة طويلة من الاضطراب (قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان)، وبناءً على هذه الخلفية، لم تجد "إسرائيل" أي جدوى من الرد المكثف ضد حزب الله وتصعيد الموقف، علاوة على ذلك، كانت هناك تلميحات أولية في عام 2005، أن النظام السياسي في لبنان سيتغير للأفضل، من وجهة نظر المصلحة الإسرائيلية مع خروج القوات السورية من لبنان، وفقاً لقرار مجلس الأمن (1559)، الذي منح "إسرائيل" بارقة أمل بتشكل ضغط لبناني داخلي، لسحب سلاح حزب الله، ناهيك بالخوف الإسرائيلي من فتح جبهة قتال ثانية، في الوقت الذي كان "الجيش" الإسرائيلي منخرطاً، في الجبهة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة ( انتفاضة الأقصى).

الأمر الذي أنتج توازناً شبه ردعي، بين حزب الله و"إسرائيل"، تعتمد معادلته على ردع "إسرائيل" حزب الله، من الاستمرار في استنزاف المستوطنات الإسرائيلية، في المقابل، استطاع حزب الله ردع "إسرائيل"، من مغبّة القيام بعملية هجوم عسكري شامل، بهدف هزيمة الحزب وسحقه، مع الاستمرار في تعزيز قوته العسكرية خلال الفترة من 2000-2006، وعلى مستويات متعددة، ناهيك بتنفيذه عدة عمليات عسكرية ضد "الجيش" الإسرائيلي، وصلت إلى أكثر من عشرين هجوماً عسكرياً حتى يوم 12 تموز/يوليو 2006، لكن ردة الفعل الإسرائيلية حافظت على سياسة الاحتواء تجاه حزب الله، الأمر الذي ولّد لدى الحزب قناعة، كما كتب الباحث الإسرائيلي عمير دوستري " أنه لن تجرؤ أي حكومة إسرائيلية على وضع أكثر من مليون من مستوطني إسرائيل في الملاجئ يعيشون في شمال البلاد، وكل ذلك بسبب جندي أو حتى جنديين مختطفين".

من الممكن أن نخلص إلى أن حرب لبنان الثانية، كانت نتيجة تأكّل طويل الأمد، في الردع الإسرائيلي تجاه حزب الله من جهة، وعدم قدرة "إسرائيل" على توصيل رسائل واضحة إلى الحزب عن عدم رغبتها في الاستمرار في سياسة الاحتواء تجاهه، خاصة مع انتهاء انتفاضة الأقصى في الجبهة الفلسطينية، والتغير السياسي في الحكومة الإسرائيلية، وصعود رئيس الوزراء، إيهود أولمرت، الذي لا يعاني من عقدة لبنان، كما كان يعاني منها رئيس الوزراء السابق آرييل شارون، من جهة أخرى.

في نهاية المطاف، فشلت سياسة الردع الإسرائيلية السابقة في حرب لبنان الثانية، في أن يدرك حزب الله بأنه لا يمكنه الاستمرار في توسيع حدود مناورته، من دون كسر قواعد اللعبة من الجهة الإسرائيلية.

حزب الله و"إسرائيل" ومرتكز الردع.. دراسة تحليلية (2)

اندلعت "حرب لبنان الثانية" (حرب تموز) في 12 تموز/يوليو 2006، إثر عملية نفذها حزب الله على الحدود اللبنانية أسفرت عن مقتل 3 جنود وأسر جنديين إسرائيليين.

ومن الجدير بالذكر أنَّ القيادة العسكرية الإسرائيلية لم ترَ في البداية أنها تخوض حرباً مفتوحة، بل تعاملت معها على أنها عملية عسكرية "عقابية" ضد حزب الله، الأمر الذي تدلّ عليه التسمية التي أطلقها قسم العمليات في "الجيش" الإسرائيلي على تلك العملية، وهي "تغيير اتجاه". ولم تقرّ الحكومة الإسرائيلية بأن الحملة العسكرية في لبنان، من تموز/يوليو إلى آب/أغسطس 2006، هي "حرب لبنان الثانية" إلا في آذار/مارس 2007.

ركّزت الخطة الإسرائيلية الإستراتيجية في حرب تموز - على مدار 33 يوماً - على المساس بقدرة حزب الله، وقبل كل شيء تدمير نظام إطلاق الصواريخ الطويلة المدى والمتوسطة المدى، بالاعتماد على المعلومات الاستخباراتية النوعية وقدرات سلاح الجو الإسرائيلي الهجومية الدقيقة.

وقد اعتمدت "إسرائيل" في تعزيز قوة ردعها أثناء الحرب على كثافة قوة النيران من سلاح الجو في قصفها البنى التحتية اللبنانية والمناطق السكنية في بيئة حزب الله، وهو ما أطلق عليه "عقيدة الضاحية".

في المقابل، اعتمد حزب الله في قتاله على المزاوجة بين أسلوب حرب العصابات القتالي وإمكانياته العسكرية التقليدية، مستفيداً من شبكة الأنفاق والمحميات الطبيعية والكمائن التي أنشأها بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، إضافةً إلى منظومته الصاروخية، وخصوصاً القصيرة منها، ما جعله قادراً على رفع مستوى التهديد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي كانت تتلقى للمرة الأولى في تاريخ "إسرائيل" هذا الكمّ من الصواريخ.

وضعت حرب تموز "إسرائيل" أمام حقيقة أنها لم تستطع على مدار 33 يوماً من القتال أن تحقّق الحسم العسكري، كما تنص عليه عقيدتها العسكرية ويتوقّعه المستوطنون من "الجيش"، وهو ما عبر عنه الجنرال المتقاعد موشيه كبلينسكي، نائب رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي، بقوله: "لم يفعل الجيش خيراً في الحرب، ولم نقم بالمهمّة. كل ما فعلناه لم نفعله بشكل صحيح وجيد".

لم تنتهِ تداعيات الحرب مع وقف إطلاق النار، بل أنتجت تأثيرات مهمة على مستويات متعددة في المشهد الإسرائيلي الرسمي والشعبي، وزادت تلك التداعيات حالة السخط والانتقاد الواسع لأداء المستوى السياسي والعسكري خلالها، ما زاد أهمية تداعياتها الإستراتيجية بشكل كبير، من أهمها:

أولاً: أدرك الجميع في "إسرائيل" أنّ القيادة السياسية والعسكرية لم تكن مستعدة بشكل مناسب للحرب ضد حزب الله في صيف 2006، إذ اعتمدت السياسة الإسرائيلية التي تم تبنيها بعد الانسحاب من جنوب لبنان على أنَّ الردع الإسرائيلي قادر على منع اندلاع حرب مع الحزب.

هذا الأمر أدى إلى آثار سلبية مهمة في جاهزية "الجيش" الإسرائيلي، الذي لم يعتقد بأنّ هناك حاجة إلى شنّ حملة عسكرية واسعة النطاق في لبنان. وقد أشار الباحث الإسرائيلي الإستراتيجي أفرايم عنفر، في شرحه أسباب الفشل الإسرائيلي في "حرب لبنان الثانية"، إلى أن "الافتراض السائد في ذلك الوقت هو أن حرباً تقليدية واسعة النطاق على طول حدود إسرائيل غير متوقع، وأن إسرائيل في المستقبل ستشن حروباً صغيرة بشكل أساسي".

برزت عدم جاهزية "الجيش" الإسرائيلي في عدم قدرته على إيقاف صواريخ حزب الله في أي مرحلة من مراحل الحرب، وكانت تطلق بمعدل 200 صاروخ على الجبهة الداخلية الإسرائيلية يومياً، رغم تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إيهود أولمرت، في بداية الحرب بأنّ "إسرائيل لن توافق على العيش في ظل تهديد الصواريخ لسكانها... ولن يُسمح بأن تكون رهينة لتلك الصواريخ".

ثانياً: تمثلت خصوصية "حرب لبنان الثانية" في إزالة الحدود بين ميدان المعركة والجبهة الداخلية الإسرائيلية، الأمر الَّذي كانت العقيدة العسكرية الإسرائيلية تحرص على عدم حدوثه، من خلال مبدأ نقل المعركة إلى أرض العدو.

وبذلك، استطاع حزب الله إدخال الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى ميدان المعركة من خلال صواريخه، إذ أطلق 4000 قذيفة صاروخية على الجبهة الداخلية الإسرائيلية خلال فترة الحرب، سقط منها 901 في أماكن مأهولة. وقد تلقت مستوطنة "كريات شمونة" أكبر عدد منها، بما يقارب 520 صاروخاً.

أخفقت القيادة الإسرائيلية في إدراك الأهمية الإستراتيجية للسلاح الصاروخي لدى حزب الله، وقدرته على إحداث تأثيرات حقيقية أثناء سير المعركة، وتداعيات ذلك على معادلات الردع بعد انتهاء المعركة، إذ كانت رؤية "الجيش" الإسرائيلي للصواريخ، وخصوصاً قصيرة المدى (الكاتيوشا)، أنها أسلحة منخفضة التأثير، وليست سلاحاً حاسماً، بسبب عدم دقتها وصغر حجم رؤوسها المتفجّرة نسبياً.

في المقابل، اعتمدت خطّة حزب الله في "حرب لبنان الثانية" على إحداث نوع من أنواع معادلات الردع مع "إسرائيل"، من خلال إدارة ذكية لإمكانياته الصاروخية في الضغط على الخاصرة الرخوة الإسرائيلية (الجبهة الداخلية).

هذا الأمر ساهم في خلق حالة من حرب استنزاف ضد الجبهة الداخلية الإسرائيلية (مستوطنات الشمال بالذات)، بهدف المسّ بنظام حياة المستوطنين في تلك المناطق، من خلال إثارة الرعب وعرقلة نظام الحياة الاعتيادي للمستوطنين الإسرائيليين، ما يجعل هناك حالة من التوازن الردعي النسبي بين استهداف "إسرائيل" للسكان المدنيين اللبنانيين واستهداف حزب الله للجبهة الداخلية الإسرائيلية.

في المحصّلة، أنتجت حرب تموز معادلات ردع جديدة، إذ أثبتت استعداد "إسرائيل" لتدمير البنية التحتية في لبنان، وزرع الدمار الكبير بين السكان المدنيين، وطرد سكان الجنوب من قراهم باتجاه الشمال، في محاولة لزعزعة النسيج الاجتماعي الحساس في لبنان، الأمر الذي اعتقدت أنه نجاح لـ"عقيدة الضاحية" في ردع حزب الله إلى حد كبير، وخصوصاً في ضوء الضغوطات الداخلية اللبنانية والإقليمية عليه، لكن هذا الردع جزئي، والأهم أنه بات متبادلاً من الطرفين، بمعنى أنه منع الحزب من مهاجمة "إسرائيل"، ولكنه لم يمنعه من تثبيت قواعد اشتباك معها، ناهيك بسعي حزب الله لتطوير قدراته العسكرية على مرأى الاستخبارات الإسرائيلية ومسمعها، من دون أن يقدم "الجيش" الإسرائيلي على مهاجمته في الداخل اللبناني.

إنّ عدم جاهزية "الجيش" الإسرائيلي في "حرب لبنان الثانية" يعدّ سبباً في ردع "إسرائيل" عن مهاجمة حزب الله قبل الانتهاء من عملية إتمام الجاهزية والاستعداد التي تضمن تحقيق النصر الحاسم.

وباتت هناك حاجة إسرائيلية إلى البحث عن إستراتيجية جديدة تجاه إدارة الصراع مع حزب الله تتعامل مع معادلة الردع المتبادل الناشئة بعد "حرب لبنان الثانية"، بحيث تحقّق استمرار حالة الهدوء من أجل منح المؤسسة العسكرية والسياسية الوقت اللازم لاستكمال عملية الجاهزية والاستعداد للمعركة المقبلة مع حزب الله من جهة. ومن جهة أخرى، العمل على إعاقة تعاظم قدرات حزب الله العسكرية أثناء تلك الفترة، كي لا يتكرّر خطأ المفاجأة الإسرائيلية الذي حدث آنذاك.

من هنا، نبعت الحاجة الإسرائيلية إلى إستراتيجية "المعركة بين الحربين" كإستراتيجية تدير "إسرائيل" من خلالها توازنات الردع الجديدة بينها وبين حزب الله بعد تلك الحرب.

كلمات دلالية

اخر الأخبار