الإسراء.. هكذا أصبحت فلسطين المفتاح والتتويج

تابعنا على:   12:15 2023-03-31

صالح عوض

أمد/ لقد كانت مكة هي ما يليق من الأرض للنزول من السماء، أما القدس فكانت ما يليق من الأرض للصعود إلى السماء.. فجاء الإسراء ليكمل حلقة التوحد بين الأرض والسماء، وتتوحد رحلة الإنسان عليها.. وليكون إعلانا عن عالمية الرسالة، وليكون الإسراء هو الربط المصيري بين الإسلام وفلسطين لا تعز إلا به ولا يكمل عزته إلا بها.. وليربط أبديا بين مكة والقدس، كما أنه الربط الأبدي لضمائر كل المسلمين فلم تعد بعده فلسطين قضية جغرافية محدودة ولا قضية شعب معزول إنما هي مسنودة بمدد متجدد لا ينضب.. فهي عنوان منهج وخلاصة الكرامة والبركة انتصارها انتصار لمنهجها، وانكسارها انكسار لمنهج الخير والكرامة في الدنيا كلها.
اللحظة التاريخية الفارقة:

يبحث الرسول لفكرته عن مساحات جديدة بعد أن تشابكت عليه أساليب قادة قريش بقسوتها وأغلقت قلوبهم وعقولهم، ووصل تحركه الى أقصاه، بعث أصحابه الى الحبشة ليكسب ود ملكها ويؤمن أصحابه الى لحظة قادمة، وأرسل رسله الى القبائل والى يثرب ينشرون الفكرة ويجمعون الناس عليها، وقد مات عمه وخديجة فكان عام الحزن، ليزداد طغيان قادة قريش وتعلو وتيرة عدوانهم، لكن لاشيء يقعد الرسول عن التفكير المستمر والعمل الدءوب الرشيد لصنع الوقائع الجديدة فيخرج الى الطائف وهناك يكون المشهد المأساوي عندما يفقد الناس أي حس من قيم الانسانية في مواجهة رجل أعزل لا يملك الا كلمات يريد أن يعرضها عليهم بسلام ومحبة ترفع كرامتهم وليتآخي جمعهم ويبتعدوا عن المظالم وتعزز فيهم مكارم الاخلاق والقيم فلا تنابز ولا استعباد.. ارسلوا اليه صبيتهم يرموه بالحجارة.. كانت الطائف أقسى المصاعب التي لاقاها رسول الله في رحلته.. فعاد الى مكة وجراحه في قدميه وبعض جسمه وهو يدعو لاهل الطائف بالهداية والخير ويخاطب ربه بيقين المؤمن برسالته والملتزم بها فيقول: "لك العتبى حتى ترضى"..

فالعملية ليست نزهة ولا ثرثرة افكار ولا منحة تهبها الظروف..بل تمسك بالرسالة رغم الفقد العظيم للسند"ابوطالب وخديجة" والمواجهة العنيفة من الأشرار في الطائف..
قادة قريش يراكمون حنقهم وغيظهم فيما حركة الرسول لا تتوقف في طرق أبواب كل الاحتمالات إلا احتمال التنازل عن الحق كاملا، فكان يراكم الى انجازاته الواقعية الميدانية الانجاز الأهم وهو استمرار الثبات واليقين و فيزداد أصحابه تعلقا به وحبا له، وهو يقضى وقته كله في العمل والتخطيط للخروج من هذه الضائقة الخانقة بأقل الخسائر وبأنجع السبل..
فماذا كان بعد إغلاق الطائف أبوابها أمام الرسول؟ وبعد أن بلغت قسوة قادة قريش ذروتها؟ كان الاختراق على جبهتين: الجبهة الأولى التحرر من حيز المكان المغلق الموغل في التعنت.. هنا تجددت الرسالة التي كانت ربطا من السماء بالأرض كما كان نزول ادم الى الأرض وكما كانت كل رسالات الأنبياء والرسل، تكشفت الرسالة عن معناها المكمل وهو ربط الارض بالسماء لتكتمل حلقة النور والسعي الإنساني في أرقى هيئته انه يليق بمحمد الذي لم يترك جهدا الا بذله ولم يتزحزح عن يقينه لحظة، والباذل بوعي وإدراك وصوابية التفكير والتخطيط والتنفيذ كأرقى ما يكون.. يليق به أن تنهار أمامه الحواجز والضبابات.. وأن يكون الاسراء الى بيت المقدس من المسجد الحرام..
أي إكرام هذا للرسول وكأن الله يقول له إن ضاقت أزقة مكة وأغلقت أبواب الطائف فأنت من تفتح له أبواب الكون كله وأشرفها واسماها فمثلك أيها الإنسان المتكامل نبلا وعزيمة وشرفا وطهارة ورجولة وبذلا ووعيا وإدراكا ويقينا وتخطيطا فلمثلك تفتح الأبواب وأنت قد بلغت درجة عليا إماما للأنبياء والمرسلين.
وأي إكرام هذا للقدس ومسجدها الأقصى أن تكون المستقبل الكريم لهذا الإنسان الأكمل ولتكون محل التكريم مرة بإمامته لجمع الأنبياء وتكون شاهدة على ذلك لتصبح فيما بعد تتنفس بدعوته ورسالته قوة او انحسارا.. ولتكون منطلقه نحو التكريم الأعظم في المعراج.
جاء الإسراء رجب 12 للبعثة في لحظة تاريخية بالغة القسوة ولكنه لم يكن فقط تسرية للرسول المحاصر والمدمي بل إيذانا بانطلاق رحلة جديدة رحلة كلها انتصارات.
الاختراق الثاني عرض رسالته على القبائل المتوافدة في حجها للبيت الحرام في حج 12 للبعثة ولقيت دعوته استحسانا لدى 12 من سادة أهل يثرب: الأوس والخزرج.. ناقشهم وحاورهم واتفق معهم ووقع معهم اتفاقية وهنا تتجلي قدرات القائد المسئول الذي يضع كل شيء في مكانه وكما ينبغي فهو لا يتحرك بحس المطارد بل بحس المؤسس الباني فهو ليس في عجلة من أمره بل على يقين من دربه.. نعم إنهم استجابوا لدعوته لكنه لم يتركهم لمجرد استجابة قد تكون عاطفية وقتية بل ذهب معهم لعقد بيعة بشروط وبنود.. وليكون العام القادم ببيعة أوسع وأشمل وأكثر تفصيلا مع 73 من أهل يثرب.
لقد كان عام الفتوحات الكبيرة الروحية والمادية لحركة الرسول.. والكافية لبدأ المرحلة الكبيرة التالية مرحلة الهجرة.

قراءة حول الإسراء:
حضور القدس وفلسطين في أشد اللحظات انتباها وشفافية وتكثيفا في تاريخ الرسالة وفي حياة الرسول منحها مكانة خاصة مقدسة مباركة في رحلة الرسالة وعقل الرسول ووجدانه ووجدان كل أتباعها.. ولعل دور فلسطين والقدس استقبالا للرسول وتكريما له بالإمامة وانطلاق معراجه هي الرمز والمعنى الأوفى لسيادة الرسالة وعزتها في تتويجها في القدس الشريف.. هذا ما فهمته الأجيال المتلاحقة من أمة الإسلام.

لقد كان الإسراء القفزة الضرورية خارج معطيات الواقع لتطوير المسار الرسالي في المكان وتجاوز شروط المواجهة مع قادة قريش الجاهليين .. وفرض معطيات جديدة خارج حسابات قادة قريش.. صحيح إنها معطيات تفحص عقيدة المؤمنين ولكنها كذلك تربطهم بطبيعة رسالتهم رسالة توحيد الغيب بالشهادة دونما انفصام.

الإسراء في المسيرة الإسلامية وكما هو واضح من سياقها كانت بداية مرحلة أعمق وأكثر طموحا وتفاؤلا وبحثا عن مواقع جديدة لتثبيت الرسالة، فمباشرة بعدها كان البحث عن موطن جديد للرسالة والبحث عن الطرق وتوفير الأسباب.. لترجمة عالمية الرسالة الموقعة في بيت المقدس

كما ان الإسراء هو سبب إعطاء المكان- القدس- السيطرة على ضمائر المسلمين فلا راحة الا بالقدس وهذا ما جعل للقدس حماية مكفولة رغم عنف ما تتعرض له من هجمات فالقدس ليست الأندلس رغم أهميتها وفداحة الخسارة بها.. لقد أصبحت القدس جزءا من العقيدة والرسالة والحركة والمشروع والمنهج والبرنامج.. وهذا رصيد عظيم استراتيجي لفلسطين ومصدر قوة كبير لا يحظى به مكان آخر.. وكأن تعزيز مكانة القدس وتحصينها كان هو المنجز الأوضح فيما بفعل الاسراء..

كما أن جعل القدس مهد الرسالات والنبوات ومجمع الرسل والأنبياء في صميم الرحلة الإسلامية وكأهم حدث يحصل مع الرسول ثم إمامته بالأنبياء والرسل فان هذا يعني ضرورة أن تكون الرسالة للإنسان كل الإنسان رحمة وسلاما لان في القدس يعيش الإنسان بكل انتماءاته فالقدس ليست مكة المكرمة إنما القدس هي مدينة السلام ومدينة الأنبياء فهنا كنيسة القيامة بجوار المسجد الأقصى.. وان هذا التنوع امتحان كبير للرسالة التي نجحت من خلال حملتها في تكريس واقع التعايش والتجانس والتواد بين كل أهل القدس.

ثم لنا أن نسأل لو لم يكن القدس في ذلك الموقع من رحلة الرسالة والرسول هل كان سيسجل التاريخ تلك اللوحة البهيجة للخليفة عمر وهو يسعى إليها ماشيا على قدميه حسب إشارة الإمام علي بن أبي طالب لكي يدخلها بسلام حيث لا يليق بها إلا السلام، ثم يعطي فيها أهم وثيقة إنسانية لأصحاب الديانات -العهدة العمرية- فتكون مفخرة للرسالة وأهلها .. ثم لولا تلك الرحلة الاستثنائية الإسراء هل كان سيظهر لنا عماد الدين زنكي و صلاح الدين وقطز والقادة الكبار من المجاهدين والعارفين عبر التاريخ..

أما في الواقع اليوم فمن تلك القضية التي يمكن أن تجمع أرواح المسلمين سوى القدس التي جعل الإسراء منها أيقونة رفعة الإسلام وكرامته..؟ فقضايا العرب والمسلمين جميعا مرتبطة بالقدس التي لم تصبح فقط عبارة عن مدينة مباركة مقدسة تعانق القلوب بل أصبحت مفتاحا لوعي الصراع الكوني وصاحبة قنديل كاشف لطبيعة التحالفات الدولية وحقيقة المشاريع الاستعمارية.. فالقدس اليوم هي عنوان لكل قضية في أي بلد عربي وإسلامي.. فالنهضة لم يكن عنوانها القدس فهي تيه وفراغ والتحرر في أي بلد عربي وإسلامي ان لم يجعل من القدس قنديله فانه سيعود الى إسطبل العبودية من جديد.. وان أي مشروع للوحدة لا يجعل القدس الاسمنت المسلح له سيتفسخ ولن تقوم له قائمة.. وهكذا يمكننا القول ان الإسراء منح فلسطين القيمة الخاصة في الكرة الأرضية.
لقد كان الإسراء جسر الربط بين كل تلك المعاني: بين القدس ومكة، وبين الأرض والسماء، وبين الواقع والمستقبل.. ثم بين كل هم تعيشه الأمة ومستقبلها، وبين مصير الإسلام ومصير القدس..

لقد زودت رحلة الإسراء حامل الرسالة- كما جعلت في صلب رسالته- ضرورة الانتباه والعمل لرفع الجور عن بيت المقدس ولقد تواترت أحاديثه عليه الصلاة والسلام في ربط المسلمين بها وتشويقهم ليوم فتحها وتكريمها فهي عشق النبي وشاهدة إمامته كما أن فتحها هو تتويج انتصار رسالة الإسلام بكل المعاني.. ومن هنا كان توجيهه في آخر أيام عمره المبارك لجيش أسامة: أن طأ بخيلك أرض فلسطين.

كلمات دلالية

اخر الأخبار