التحول التاريخي في المسيرة البشرية ملامح أساسية لإستراتيجية الرسول

تابعنا على:   12:02 2023-03-26

صالح عوض

أمد/ من المنطقي والطبيعي في مواجهة تحديات تكاد تعصف بالبشرية ومن الطبيعي لأمة تعيش التخلف والضياع والتمزق أن تبحث الإنسانية كما الأمة في وجدانها وذاكرتها المتواترة الجمعية عن رموز الانتصار ليس فقط للاعتداد النفسي والشعور بعدم النقص والقلق الوجودي، وهذا أمر مهم ولكن أيضا لدراسة تجارب النهوض والانتصار ليس على صعيد الامة بل على صعيد البشرية.. ومن هنا يحق للعرب ان يفتخروا بمحمد فهو إبنهم الأبر صانع مجدهم، كما يحق تماما للإنسانية ان تفتخر بمحمد فهو هاديها لحقوقها وكرامتها ونصيرها ضد ظالميها والمحطم أصنامها و محررها من الحواجز العنصرية بين أبنائها فلا تفاضل إلا بالأنفع للناس، فكانت مهمته بحق كرامة الإنسان كل الإنسان في الأرض كل الارض، وحق للتاريخ أن يعلن تماما أنه أصبح منذ انطلاقة منهج محمد صلى الله عليه وسلم بمعنى وقيمة فلقد أصبح الصراع بين حق وباطل وليس بين الأشباه..

كيف يقرؤون الرسول:
مما لاشك فيه أن شخص محمد كقائد عالمي إنساني مثار إعجاب واسع -لم يحظ به سواه- تداوله كبار المفكرين والمثقفين العالميين على اعتبار انه صاحب مشروع عملي منتصر وصاحب رؤية حضارية للإنسان وانه امتلك الفرصة كاملة ليوضح عناصر رسالته وليبني كيانا ماديا يحمي الرسالة ويترك زخما معنويا في حياة الناس.. ولكن نوعية هذا الفهم تضاءلت لدى المسلمين وانحصرت في أنماط مختلفة تماما وعلى هامش هذا الفهم تضخمت افهام عقيمة عدمية مائعة تسببت بشكل حقيقي في أحكام التخلف وإطباق الجهل..

يؤلمني تصدي نفر من شيوخ المساجد وعلماء الدين وقيادات وكوادر الجماعات الدينية دون مؤهلات في السياسة والإدارة والوعي الاجتماعي والتاريخي للحديث عن رسول الله وكأن وظيفته توزيع جملة مواعظ :نصائح ونواه متناثرة بدون منهجية ولا ترتيب، ويؤذيني ان يتحول رجل عظيم بمثل محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان من أثار منهجيته وبنائه الفذ للمجموعة البشرية أن نقل العرب الى قيادة العالم في مرحلة ما ثم اذا بهم ينتهون الى هذا التسطيح، والشكلي في التوصيف للسلوك والملبس والهيئة، ويؤلمني إنشغال الكثيرين من المهتمين بالإسلام بالانصراف بعيدا الى جدل الكلام و فساده.. والبحث في اختلاف تفاصيل الاجتهادات البشرية على هامش حركة النبي او في سبيل الاقتداء بها تاركين المنهج والرؤية والمسيرة دونما تأمل.

لماذا يقدم الرسول هذا الرجل العظيم صانع اكبر تحول بشري في مسيرة الإنسانية الى هذا الكاريكاتور الذي يبدو عليه شيخ لديه بعض الوصايا والترانيم والبركات.. ويتم المبالغة في كل الشكليات ولم يقترب الا القليل من الكتاب النابهين الى جوهر هذا الرجل العظيم.
ان ما يتم تقديم الرسول به الى وعي الشباب بل والى العالمين يقود الى افات خطيرة كلها في خانة السلبية فاما الى العنف والتنطع واما الى الدروشة والاجترار للقصص والحكايا والخوارق واما الى التذمر والبحث عن النقيض في الحاد او نقد غير منهجي يزيد الامور تعقيدا وارباكا.

ولكن هذا الالم هو الوجه الاخر ليقيني انه متى تجلت شخصية هذا الرجل العظيم في وعي فئة مستنيرة راشدة مسكونة بالرحمة للعالمين ولاهلها الاقربين بعيدة كل البعد عن حسابات الثأر والانتقام وحظوظ النفس والجماعة، عندما يصل الوعي المنهجي الى القيادات السياسية والفكرية والميدانية فاننا نكون حقا عند نقطة الانطلاق الصحيحة القوية لنهضة حضارية عظيمة تعيد القيمة العليا للإنسان وكرامته وسعادته في الدارين.

انطلاقة في مناخ معقد:
الوضع المحلي محكوم لقوانين وأعراف مستبدة اجتماعيا وروحيا وسياسيا حيث الأصنام ومفاهيم السادة والعبيد وقيم التطفيف والتفاخر والتنابز وواقع الهامشية في ظل صراع اقليمي ودولي بين الروم والفرس وتطاحن للفوز بارض العرب واخضاع شعوبهم في العراق والشام.. وفي ظل هامشية القبائل العربية وتوزع بعضها على الفرس والروم او انزواء الاخرين منها في الاقتتالات القبلية والتناحرات المتتابعة من حين الى اخر..
في هذا الوضع المحلي والاقليمي والعالمي كان الضمير الانساني الشفاف لدى كبار المتاملين والمتدبرين في حركة التاريخ والمجتمعات يتهيأون لاستقبال مخلص ينقذ البشرية بمهج مختلف نقيض لمناهج السياسة والاقتصاد والحكم والعلاقات بين الناس..
في مكة التي تحتل من العرب مكانة القلب الروحي وكذلك الاقتصادي والثقافي كان انطلاق البعثة.. وكان واضحا ان صناعة طليعة مؤمنة بالفكرة هنا يعني بوضوح ان الرسالة سوف تمتلك قوة نفاذية في المحيط العربي والذي كان لابد ان تتحقق ليتم فيما بعد تحقيق انتصارات متتالية وبمنهجية علمية تراكمية تفاعلية..
كانت الفكرة لدى رجل هو الاصدق والاكثر نبلا وامانة والاكثر نقاء وطهرا والاحكم والانبه وهذا تقييم متعارف عليه لدى كل قريش التي تتقن فهم الاشخاص وزودتها تجاراتها واسواق الحجيج اليها بتدبر الناس والفراسة في صفاتهم.. وهذا الرجل بكل هذه الصفات لم تختلط عليه علوم الثقافات المحيطة ولا الاديان السابقة ويجمع الرواة انه لم يكن له علم بذلك و كان هذا دافعا قويا لاختلائه فترات طويلة بنفسه النابهة وقلبه الصافي وروحه اليقظة يتدبر كل شيء، الكون والاجرام والحياة والموت والناس والعبيد والاسياد والروم والفرس واستبداد الاصنام وجاهلية قريش كل تلك الاسئلة جاءته من كل صوب فأدرك بحسه ووعيه وقناعاته ان البشرية تسير في مهالك وان العرب حولوا بيت التوحيد الى شرك فاحش وان صيرورة الحياة هكذا انما هي ظلم وعدوان.. وعندما اكتمل وعيه واستعداده ونضجت مستقبلاته نزل اليه الوحي برسالة تبدأ بالعلم وباول ادوات العلم وهي القراءة..
المواجهة الناجحة:
اذن في مواجهة كل تلك الطبقات المظلمة من أحوال الناس ومعاشهم وتشابك مصالحهم المستبدة تبدأ عملية النهضة والحرية والسمو بالقراءة.. بالوعي الموجهة الهادف صاحب الرسالة.. فاصبحت الفكرة دين والدين يقظ نابه يحرك في شخص الرسول صلى الله عليه واله وسلم الاحساس بمسئولية التحرك لانقاذ البشرية بدءا بقومه.. وهنا أعطى قومه فترة طويلة من الزمن 13 سنة لعله يحدث داخليهم ما يكفي لنقل الفكرة الى واقع ملء السمع والبصر.
واجه الوضع القائم في قريش ليهز اركانه من الاعماق.. الركن الروحي حيث كان لابد من تحرير اعتقاد الناس من التعبد لاصنام لا تنفع ولا تضر فشن عليها حربا لا مساومة فيها والركن الاجتماعي حيث نشر مباديء رسالته بوضوح انه ضد استعباد الناس لبعضهم البعض وان الناس سواسية وللعبيد كما للاحرار حق حرية الاعتقاد والتخلص من العبودية وفي الركن الاقتصادي شن حربا واضحة ضد المطففين واساليبهم في اكل مال الغير وحقوقه.
كانت المعركة صعبة بلا شك فهي ليست عملية ترقيعية انما عملية ثورة جذرية الا ان تكوين قريش النفسي وحرصها على سمعتها و التزامها بمعايير الشورى وقوانين الندوة ولكون الرسول من اشرف بطونها نسبا لهذا جميعه ولاسباب موضوعية كثيرة جعل ردود قادة قريش رغم رفضها عقيدة التحرر من الاصنام في مستوى لم يخرج عن المعقول الا في بعض الحالات..
كان لابد من المؤمنين بهذا الدين الجديد المنفتح على الانسان في مكة والملتفت الى الصراع بين الفرس والروم والمنتبه الى مكانة قريش التجارية في صيفها وشتائها والمقدر لقيمة البيت الحرام .. لم يكن الرسول مكتفيا بان يعتقد ويؤمن بما شاء فلو كان كذلك لسهل الامر على قريش ولربما قبلته كما قبلت شخصيات دينية معتكفة اخرى.. انما كان ايمانه في حالة حركة وتحريض ودعوة متواصلة للتحرر.. واجتمعت الاسباب للرسول صلى الله عليه واله وسلم ليكون لكلامه اثرا في قلوب الناس لاسيما من فئات الشباب والعبيد والنساء وبدأت المجموعة المؤمنة تتزايد في قلب مكة قلب العرب.. هنا كان لابد ان يثبت الرسول استراتيجية دعوته التحررية اولها انه يسلك منهجا سلميا دعويا ولكن بجدية فائقة وانه كان يزود اصحابه بروح السلام نحو المجتمع رافضا أي ردة فعل ضد جرائم طغاة قريش وعندما يقتل احد اصحابه يقف حزينا ولكنه يصر على ان تظل حركته سلمية لا تستزلق الى براتن حرب اهلية تفقد فيها الفكرة رسالتها وتتحول الى مشاعر الثأر والانتقام والعنف والعنف المضاد.
كان لابد ان يجتمع حول الفكرة الجديدة دين التوحيد مجموعة يمتحن ايمانها ووعيها بضغوط اجتماعية وسياسية خانقة في بعض الاحيان فيتميز اشخاص في المجموعة رساليون تتجلى فيهم كل معاني الرسالة الجديدة وفي كل هذا لايتوقف عن ارسال الرسل والمرشدين الى قبائل وحكام وملوك يدعوهم الى التحرر من الاصنام والعبودية لما يصنع البشر من الهة..
وفي هذه المرحلة الصعبة والتأسيسية انتبه الرسول صلى الله عليه وسلم الى مسألتين في غاية الاهمية انه لابد من التحرك لمكان آمن خارج مكة ليدول قضيته ويوسع التعاطف معها ويكسر اطار الحصار على جماعته ويحاصر قادة قريش اقليميا ولابد من التمدد خارج مكة بالبحث عن مواقع استقبال جديدة ونشر للفكرة رغم ان رحلته الى الطائف كانت مليئة بالمعاناة.. فكانت الهجرة الى الحبشة وكانت بيعة العقبة الاولى والثانية ففي الاولى كسب ملك الحبشة الى صفه وفي الثانية ارسل سفراءه الى يثرب لتعليم الناس معالم الدين الجديد واصبح رجال الدين الجديد كل منهم قادر ان ينبعث بتعاليم الدين الجديد في كل اتجاه بحركة دءوبة يكسب للدين انصارا جددا.. ويهيء مواقعا بديلة في حال اغلقت عليه قيادة قريش كل الابواب.
13 عاما ملحمة من اعظم ملاحم صراع عقيدة ضد واقع مغلق مستبد يرى في هذا الدين تحطيم لسلطة الاسياد على العبيد و لسلطان الاصنام التي تجمع العرب في مواسمهم في مكة وتؤثر بالحتم على تجارتهم ومصالحهم المادية والمعنوية.. لقد كان قادة قريش الذين تصدوا للدين الجديد انما يدافعون عن ما توارثوا من مصالح ظالمة تكرست بالاستبداد الجاهل وهم لهذا بلغوا غاية حنقهم لاسيما بعد ان حقق بدعوته تفوقا على دعواتهم وعلاقاتهم بالدول وحقق تمددا في محيطهم حيث يثرب..
13 عاما من التثقيف المركز حول رؤية الكون والحياة والانسان.. 13 عشر عاما لمناقشة ادق تفاصيل الاعتقاد والفكر في هذا الدين الجديد بحيث تتم عملية التحرير والتطهير من توابع حالة عبادة الاصنام والتمايز القبلي والعرقي و وقوانين العلاقة البينية في المجتمع.
13 عاما انشئت شبكة علاقات جديدة فيما بين المؤمنين بالدين الجديد قائمة على الصدق والنبل والطهارة والوعي والحرية.. لقد تجسدت فيهم كل معاني الاخلاق السامية كما كانوا يتحلون بوعي تام في الحقائق الاساسية للكون والحياة والانسان.. وكان السلام المجتمعي التزاما عمليا اخلاقيا نافذا في سلوكهم نحو الاخرين بل اكثر من ذلك كانت دعواتهم في خارج مكة تسير في اتجاه المصالحات بين الكتل المتناحرة كالاوس والخزرج.. كل هذا وهو لايزال في مكة مما يرسم معالم الرسالة التي حولها الى ممارسة ممكنة وحقيقية ومثمرة.. فكان يدرك صلى الله عليه وسلم انه بصدد تكوين امة على قيم جديدة ومنهج جديد ولن يكون ذلك بدون التصالح والتآخي فيما بين مكوناتها القبلية والجهوية.. ولقد كان افشاء السلام في اوساط المجتمع من اكثر سمات منهجه رغم ان التحديات المحيطة كانت من شانها ان تستفز المؤمنين الى ردات فعل غير منهجية.
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم جذريا في التعامل مع التصور الجاهلي للحياة بكل تفصيلاته فكان لابد ان يكون الاعلان عن الايمان بان لا اله الا الله هو اعلان في الوقت نفسه عن التحرر من كل تفصيلات التصور الجاهلي للحياة والكون والانسان.
طبيعة المرحلة وما تحتاجه:
وفي هذه المرحلة لم تفرض فروض الاسلام التعبدية بل كان يتم الاقتراب منها بتحفيز الا الصلاة التي اقرت بشكلها مضامينها في الفترة الاخية من هذه المرحلة وهذا يشير الى معنى كبير ومهم في طبيعة منهج الرسول انه يتم التوجه في الاساس للانسان لتطهير مشاعره من العبودية وضميره من الغش وروحه من التشتت وجعله منسجما مع حركة الكون والحياة كعنصر ايجابي فاعل على ارضية وعيه بذاته ودوره في ذلك كله وهكذا تتشكل الرسالة لديه بما يتحمل من مسؤولية تجاه الاخرين.
انها رسالة كرامة انسانية وروح حرة شجاعة تعلي شان القيم والمباديء والطهارة ورسول يتحرك بوعي ومنهجية لتوسيع جبهته وكسب محطات متتالية على طريق الظهور والانتصار .. هنا تحتشد السنن والقوانين التي كان فيها الرسول قدوة لكل منتصر ولكل عظيم.. صلى الله عليه وسلم وسلم تسليما كثيرا الا يحق لنا ان نفتخر بان الانسانية ذات يوم وجدت ضالتها فيه فيما اصبح ارثه اليوم موزعا على جهلة او مسعوذين او متنطعين او عبيد النصوص والاجتهادات.. وما احوجنا الى منهجية كانت على صعيد الانجاز معجزة استطاعت اثارها فيما بعد تغيير خريطة الكون السياسية لقرون عديدة حتى ضعف اليقين والعزم في الامة فحصل السقوط الذريع ولكن امة تكتنز كل هذه الطاقة الروحية قادرة ان تنبعث من جديد لتكون الرقم الصعب في التصارع الحضاري.

اخر الأخبار