هل كانت قريش مجرد قبيلة ومكة مجرد مدينة؟

تابعنا على:   13:26 2023-03-23

صالح عوض

أمد/ ماذا لو نزلت الرسالة في غير قريش وغير مكة؟ ترى هل كان يمكن لها ان تظهر وتنتصر!!؟ والسؤال هنا يمكن طرحه بأشكال عدة فمثلا يمكن القول لماذا لم تظهر الرسالات السابقة على واقعها ولم تحقق نصرا بل ان بعض روادها تعرضوا للشنق والنشر والمطاردات وكتبها تعرضت للتحريف والتشويه.. وفي المقابل لماذا حافظت هذه الرسالة على سماتها الأساسية ومكانها الاصلي ولم يصل كتابها أي تحريف؟

وهنا نضع عدة مقولات تحت المجهر مثلا: ان العرب قبل الاسلام كانوا قبائلا متناحرة عبارة عن قطاع طرق في أرض جرداء قاحلة خلقهم الغزو والتشتت وهم ليسوا على شيء، والاسلام هو من جعل منهم قوة و قيمة.. ولقد ذهب في هذا الرأي عديد من الاتجاهات الفكرية لاسيما الاسلامية والشعوبية المعادية للعرب وقد أوغلوا في تتفيه العرب قبل الاسلام وأصبحت الاتهامات الموجهة حرفة لبعض الكتاب ومضرب الامثال لكثير من المتحدثين اليوم وجاءت اعمال فنية كالافلام والكتابات والمسلسلات لتصنع مخيالا عربيا عن قريش ومكة وعلاقتهما بالرسول والرسالة وعلاقة العرب بهما أقل ما يمكن قوله أنه تتفيه وغير علمي ولا يلتزم بشروط القراءة الموضوعية.

وفي محاولة الاجابة عما يتبادر للذهن من أسئلة جدلية حول مكانة العرب و ام القرى بالذات في الانتصار القاعدي للرسالة ومكانتها فانه لابد من قراءة ما حصل في المسيرة الإسلامية لاسيما خلال الخمسين سنة الأولى وفي عمرها الاول والتي حددت تماما في النهاية وجهة العالم ورسمت خرائطه.. وان كانت مكة قد تحصنت من السب والشتم الشعوبي الى حد ما كونها مشرفة بالكعبة فان قريش نالها من الطعن والتجريح والانقاص ما يخرج عن سياق الحديث الموضوعي والعلمي ومن هنا تأتي القراءة والكتابة عن قريش في مكة..

الدول المعاصرة للبعثة:
لقد كانت الامبراطورية الفارسية والرومانية تتقاسمان النفوذ في الشرق وكان صراعهما الدائم يفرض حالة عدم الاستقرار الامني في المنطقة ومؤشرا على قوة توازن بينهما كما ان كلا منهما تمتع بقوة ضبط على الاشخاص والتابعين والالزام على معتقدات وتصورات ليس من غرض لها الا التحكم في الاشخاص وهي لا تقدم اجابات على التحديات المطروحة ولا على احتياجات العامة وامالهم.. وكان الاشخاص في ظل الامبراطوريتين يعيشون حالة عبودية.. وفي ظل استعباد الناس تولدت مفاسد الامبراطوريتين وسرت في اوصالهما في شتى المجالات.. وبالجملة لاتحمل أي منهما رسالة للانسان انما هي مشاريع قومية موغلة في التسلط.

وفي ذيل كل واحدة من الامبراطوريتين يلتصق عرب قريبون: الغساسنة للروم والمناذرة للفرس وهم قبائل عربية كبيرة لكنها اختارت ان تكون جزءا خدماتيا لاحد الامبراطوريتين القاهرتين واحيانا تخوض المعارك بالنيابة ضد الطرف التقليدي الاخر الذي يلجأ كذلك الى الدفع باتباعه العرب في المعركة.

صحيح ان العرب ثاروا لعرضهم وتوحدت قبائلهم ضد كسرى وواجهوه في معركة فاجاته وادهشته في ذي قار حيث حققت نصرا كبيرا للعرب كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم الا ان تلك الواقعة ليست الا عملا منفردا لانه لم يكن ضمن سياق عام برؤية واهداف.

قريش ومكة قراءة جديدة:
من هنا لابد من الاجابة على السؤال هل كانت قريش مجرد قبيلة ومكة مجرد مدينة؟ وهنا يمكننا الاستعانة بنظرية العبقري جمال حمدان في عبقرية المكان والمهمات المنتخبة لنرى اننا حقا ازاء وضعية مختلفة تماما متميزة لا تخضع لمعايير من غير طبيعتها وهي وحدها المؤهل لهذه المهمة التاريخية الانسانية..

نحتاج تقديم قراءة خاضعة لمنهج علمي بحثي.. قراءة سياسية استراتيجية بحثا عن السنن والنواميس والاقتراب من اسباب الانتصار الذاتية والموضوعية وذلك لفهم السيرة والتاريخ بمنطق أدق علميا وأصح منهجيا للتخلص من التناقض الحاصل اليوم في حياتنا الفكرية والثقافية وستكون الحلقة الاولى التي يجب الكشف عنها هي قريش.. قريش بكل ما تعنيه كسكان، ومكة بكل ما تعنيه من مكان عبقري.. فقريش حاملة السر ومكة مستودع الانطلاقة.. ولابد من تدبرهما قبيل البعثة المحمدية بيقظة واحاطة.. واكاد اجزم ان من لم يفهمهما لن يستطيع فهم منظومة القوانين والسنن التي حكمت حركة الرسول صلى الله عليه وسلم والتي ادت الى انتصاره..

مكة وقريش... ليس فقط منذ هزيمة اصحاب الفيل ولا حتى من جهود العبقري قصي بن كلاب التي حولت البلد الى حالة فريدة متميزة باشعاعها الروحي والقيمي.. انما هي قريش التي تعانقت مع المكان لتتوحد به منذ قديم الزمن..

فمنذ رفع ابراهيم واسماعيل قواعد البيت بدأت مكة تأخذ مكانتها بين العرب والذي تحول شيئا فشيئا بيتا للعرب واصبح هذا احد اهم ما يميز مكانة قريش وتوسطها للعرب ولقد أصبح هذا العامل في غاية الاهمية حيث تجتمع وفود القبائل العربية في كل عام لتحج للبيب وتمكث اياما حوله في ضيافة قريش مما قد جعل هذا المكان الروحي مكانا لالتقاء القبائل والتواصل بينها في مناخ من التعزيز والاحترام.

ولايقف حضور قريش عند هذا الامر بل انه يمتد في عناصر اساسية، الاول: التطور الثقافي واللغوي للعرب حيث أصبح سوق عكاظ على هامش حجيجهم السنوي للبيت العتيق ميدانا للتنافس الشعري بين فحول الشعراء العرب من شتى القبائل يتبارون بلسان قريش ومن تفوز قصيدته بعد استماع نقدي بالغ الدقة يكون ممن حظي بان تعلق قصيدته على أستار الكعبة ولم يبغ الاعتزاز بلغة كما بلغ اعتزاز العرب بلغتهم وادابها.. وكان هذا مفخرة للقبائل كما انه اطلق الحرص على الاستزادة منها وتطويرها في اوساط القبائل العربية كما كان له الفضل على توحيد لهجات العرب وصقلها بلسان قريش.

العنصر الثاني: التجارة التي تميزت بها قريش على مدار السنة صيفا الى الشام وشتاء الى اليمن وما تحمله هذه التجارة من انفتاح على الاقليم وتبادل المنافع والتعارف على المكونات الاجتماعية في مساحة هي حدود الجزيرة العربية وما يتصل بها من اسيا والروم..

كان لهذا العنصر اهمية قصوى في رفع مستوى المعيشة في مكة بحيث خضعت التجارة الى اشراف عال من قيادة قريش في مسيرة القوافل وحمايتها وانفتاح الامر امام الجميع للتحرك ضمن القوافل التي كانت بمثابة راس المال المتنامي في قريش والذي حقق وفر الاشياء في بلد لا زرع فيه..

العنصر الثالث: النظام السياسي الاجتماعي في قريش والذي يمكن اعتباره نواة متقدمة لنظام سياسي شوري ضد الملكية .. نظام اصبح للندوة فيه موقعا اساسيا لا يقضى امر دون المشورة واخذ القرار بما يشبه الاجماع.. واستدعى وجود الندوة التي تشمل قيادات قريش ان تتوزع المهمات الكبيرة على القبائل من الرفادة والحج والفروسية وسوى ذلك وكانت هذه مهمات يتم انجاحها بدقة لانها هي عنوان قريش.. وفي ظل حضور الندوة اختفت المظالم الاجتماعية واختفى العوز والحاجة وتنامى الحس بالحرص على وحدة قريش وتجنيبها الازمات التي تقع فيها كثير من القبائل العربية.

العنصر الرابع: لسبب أو أخر خلت مكة من تواجدات دينية او فلسفات قد يكون لبعضها حضور في مناطق عربية اخرى.. ولم يتسبب اختلاط تجار قريش باهل الشام او اليمن والهند بان جلبوا معهم ثقافة او دينا لقريش.. وظلت عقيدة قريش ايمانها بالبيت الحرام وتقديمها القرابين للاصنام التي تقربها زلفة من الله رب ابراهيم واسماعيل..

هذه قريش وهذه مكة باشرف الانساب واكثرها وضوحا وجلاء وبروز معالم نواة مجتمع مستقر منفتح على تجارب الاقليم السياسية والثقافية ولكن دون أي لوثة فكرية او سياسية خارجية..

مواجهة قريش للرسالة المحمدية:
في قراءة قصص الانبياء مع اقوامهم نكاد نقول انها المرة الوحيدة التي كان قوم النبي أٌقل عدوانية واكثر انفتاحا وذلك بسبب كل الشروط التي سبق ان اوردناها.. ولعل قصص الانبياء والرسل جميعا كما شرح القران الكريم هي قصص ملحمية تنتهي في غالب الاحيان الى قتل النبي او تكذبيه ومحاصرته وقتل رفاقه وهكذا يتم تصفية الرسالة وتشويه معالمها.. لكنا هنا نرى مشهدا آخر .. نرى نبيا يقف في الناس يقول لهم انا رسول ربكم اليكم بالقران فيتعاملون مع بالتقليل من شأنه ولكن النبي يجذب الى ساحته رجالا ونساء من سادة قريش ومن قبائلها العديدة من بني زهرة ومن بني امية ومن بني تميم وهكذا.. فماذا تفعل قريش تحاول مساومة الرسول بان تسلمه مقاليد امر قريش او تجمع له من المال ما يريد..

وعندما بلغت المواجهة حدتها اجمعت قريش امرها بمعزل عن ابي طالب زعيم الهاشميين الذين فرض عليهم حصار في شعب ابي طالب ولكن سقط الحصار وما يمكن تسجيله هنا ان العذاب البدني لم يطل الاشخاص الذين ينتمون الى عائلات قرشية انما اولئك الذين كانوا عبيدا عند قادة قريش..

وبعد 13 سنة من الزلزال الكبير الذي احدثه الاسلام في مكة قررت قيادة الندوة تصفية الرسول فهي اصبحت مهددة في كل شيء في تجاراتها الى الشام او اليمن.. وفي شبكة علاقاتها الاجتماعية حيث تضمن الرسالة فيما تضمن حرية العبيد ومساواتهم بالاسياد على قدم المساواة وكان هذا احد اعتراضات قادة الندوة..

13 سنة في مكة يمكن رصد حالات قليلة ونادرة تعرض لها الرسول واصحابه الى عدوان من قبل قادة قريش وهذا لا ينفي ما قامت به ضد من كانوا تحت الاسياد من العبيد كسمية وياسر وعمار وبلال وهكذا وقد صمد هؤلاء الابطال دفاعا عن حريتهم وقد سقط منهم شهداء وارتقى اخرون بعد ان دفعوا ثمن حريتهم فاصبحوا من المقربين للرسول.

رأت قريش في دعوة محمد عملية جذرية خطيرة في اعادة ترتيب المجتمع من جديد وتكسير قانون التمايز بين السادة والعبيد وتحطيم هيمنة الرموز الدينية التي يتم استخدامها في جمع القبائل والتوحد حول زعامة قادة قريش..

لم تصمد قريش كثيرا بحيث أصبح العديد من شباب العائلات المتحكمة في كتيبة الاسلام يحملون افكارا جديدة تماما واهتز وجدانها ولاكثر من مرة يقع الجدال في اوساطها لولا وجود شخصيات متشنجة تخشى على مكانتها من نتائج سياق الحركة التي يقودها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.

بعد 13 سنة من محاولات قريش لثني محمد او محاضرته او تشويه دعوته قررت قريش قتل محمد وذلك بعمل جماعي من قبل عديد الاشخاص التابعين لقبائل متنوعة لتوزيع دم الرسول على القبائل.

ترى هل كان يقبل الفرس او الروم ببروز رجل يخاصم الهتهم وينشر افكاره الثورة ويجمع صفوف اتباعه هكذا دونما رد من الدولة؟

وبعد ان هاجر رسول الله الى المدينة ومعه خيرة ابناء قريش اخي بينهم والانصار بحيث تم تشكيل شبكة علاقات اجتماعية على اسس جديدة انشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤسسات المدينة ووضع لها دستورا وثيقة الموادعة وانخرط المسلمون في بناء البلد على اسس جديدة في الاقتصاد والاجتماع والثقافة..

كانت المواجهات مع قريش توحي بانها فقدت السيطرة على الواقع وفقدت ادراك ما يحصل وبعد مواجهات في بدر واحد والخندق انطلق عديد الوسطاء من قريش يطلبون الصلح اكثر من مرة وانتهت الصراع بمشهد انساني حميم.. ترى ماذا ترون اني فاعل بكم؟.. يارسول الله انت اخ كريم وابن اخ كريم.. وتدخل قريش كتلة واحدة في حركية الاسلام بابداع وقوة بتجربة رجالها وخبرتهم في معرفة الشعوب والقبائل ووعيهم الاداري ودربتهم على ابداء الراي والمشورة.
هذه اشارة الى قريش التي منعتها شروطها ان تكون مثل غيرها من تلك القوى التي كانت تتصدى للرسالات بعنف قاهر.. فاعطى تاريخ الامة لقريش مكانة عظيمة فرجالها هم القادة الكبار ومجتمعها انزاح كلية في دائرة حركية الاسلام.

كلمات دلالية

اخر الأخبار