
الأرجنتين ونحن

منجد صالح
أمد/ قبل شهرين زارنا، ضيفا على الاتحاد العام للكتّاب والادباء الفلسطينيين، في رام الله، الكاتب الشاعر الرسّام اليساري التقدّمي الارجنتيني ليوناردو هيرمان.
استمرّت زيارته واقامته في ربوع بلادنا زهاء اسبوعين حافلين ببرنامج أدبي وثقافي مُكثّف وبديع.
خلال مدّة وجوده بيننا استطعنا انجاز فيلم وثائقي ناطق باللغتين العربية والاسبانية حول أدباء فلسطينيين، شعراء وكُتّاب، كانوا معتقلين في معتقلات وباستيلات الاحتلال بسبب نشاطاتهم النضاليّة. وقد عكسوا في هذا الفيلم الوثائقي تجربتهم الادبية والنضاليّة، وكيف أثّرت الواحدة في الاخرى. وكان من بينهم وضمنهم: الاديبة المناضلة العريقة والعتيقة عائشة عودة، والمناصلة السياسية والكاتبة خالدة جرّار، والشاعر المتوكّل طه والكاتب وليد الهودلي والشاعر جمعة الرفاعي والكاتب عبد دولة والكاتب محمد عيّاد والكاتب وليد الشرفا والشاعر مراد السوداني، الامين العام للاتحاد العام للكتاب والادباء الفلسطينيين.
وقد وضعنا عنوانا للعمل، للفيلم الوثائقي، "بالدم نكتب لفلسطين"، لأن الادباء في كافة دول العالم يكتبون بالحبر "البارد" إلا في فلسطين فيكتب أدباؤها "بحبرٍ ساخن" لونه أحمر قاني. و"من يكتب يُقاوم ومن يُقاوم ينتصر".
من أظرف وأبلغ ما حصل في زيارة ليوناردوالارجنتيني، أننا كنّا قد حضّرنا له "واتخمنا" برنامج لقاءاته ونشاطاته وزياراته، بشكل خاص زيارة لبيت لحم،إلى كنيسة المهد، وحقل الرعاة في بيت ساحور،، وإلى القدس، كنيسة القيامة، والمسجد الاقصى، لكن ليوناردو فاجأنا ونحن نسير في شوارع القدس العتيقة المليئة بعبق التاريخ والدين والتوابل الشرقية والكعك بالسمسم، متوجّهين إلى المسجد الاقصى وقبّة الصخرة، بأنّه يُريد أن يُسلم، أن يُشهر اسلامه، أن يتحوّل إلى الديانة الاسلامية في رحاب المسجد الاقصى. وأنّه يقوم بذلك عن قناعة كما قال وبعد دراسة وتفكير وتامّل عميق، وأضاف بأن زوجته ارجنتينيّة مسلمة اسمها "زينب"، وأنّ لديه ابنة منها مسلمة أيضا.
يا الهي يا للمفاجأة!!!!
دخلنا من احدى ابواب المسجد الاقصى المزدحم بجنود وشرطة الاحتلال المدججين برشّاشاتهم، واصبحنا في ساحة المسجد الاقصى الواسعة الفسيحة التي تبدو مشوبة ببعض التوتّتر بسبب اقتحام المستوطنين للباحة.
توقّفوا توقّفوا، اعترض طريقنا أحد حرّاس المسجد الاقصى الفلسطينيين وهو يُحدّق في ليوناردو مكتنز الجسم بشعره الاشقر الطويل وملامحه الاجنبيّة، وأضاف الحارس مُشيرا إلى ليوناردو، هذا لا يدخل، ورفع صوته.
عرّفته على نفسي وخاطبته بلطافة لكن بصوت حازم:
هذا ضيفنا من الارجنتين وقد جاء ليدخل في الاسلام، وأنا السفير.....
لكن يبدو أن "الكلام" لم يُقنع كثيرا الحارس الفلسطيني، فهزّ رأسه رافضا ومستغربا، وبدأ بيننا جدال خفيف لم نرغب به، لا في المكان ولا في الزمان، حتى سألت عن مسؤول الحرس، فجاء شابٌ طويل لطيف تفهّم الوضع ودعانا للدخول، ليس هذا فقط ولكن اصطحبنا أيضا إلى مكتبهم داخل حرم الاقصى وقدّم لنا الماء البارد والقهوة الساخنة، قهوة أهلا وسهلا، وبدأ اتصالاته بالهاتف بحثا عن الشيخ الذي سيسلم ليوناردو على يديه.
وصل الشيخ بهمّة ونشاط وبوجه مشرق وبشوش، انّه الشيخ مُرسي، الذي احتضن ليوناردو وقبّله في جبينه بعد نطقه الشهادتين، واقترح عليه اسما اسلاميّا "أحمد".
وهكذا جاء ضيفنا من الارجنتين باسم لوناردو ويعود من فلسطين إليها باسم أحمد.
مع أنّنا نحن في فلسطين، مسلمين ومسيحيين عائلة واحدة موحّدة متحابّة متراصّة، يذهب بعض افرادها إلى قدّاس يوم الاحد بعد سماع اجراس الكنائس، والبعض الآخر يسري فجرا إلى المسجد لصلاة الفجر بعد سماع آذان "الله أكبر".
الزيارة الثانية التي حضرت فيها الارجنتين الينا كانت زيارة الارجنتيني من أصل فلسطيني، الصديق، "غوستافو روحانا".
قبل ذلك بثلاثة اسابيع، اتصل بي الشاعر الصديق جمعة الرفاعي، عضو الامانة العامة والمدير التنفيذي لاتحاد الكتاب الفلسطينيين واخبرني بأن كاتبا ارجنتينيا اسمه غوستافو روحانا سيزور فلسطين قريبا.
يا لمحاسن الصدف!!!، تربطني به صداقة منذ سنوات خلال زياراتي المُتكرّرة لدول أمريكا اللاتينية وللارجنتين، فتواصلت معه.
وصل غوستافو إلى فلسطين، إلى بيت لحم، يوم 2 نوفمبر الجاري، وعائلته "روحانا" متواجدة في بلدة عسفيا وفي بيت لحم. "أهلا وسهلا ومرحبا".
التقينا جمعة وأنا مع غوستافو على فنجان قهوة في رام الله ودردشنا مُطوّلا.
غوستافة شخصية دمثة الاخلاق، يحب فلسطين ويأتي إليها كلّما سنحت له الظروف بذلك.
كتب عدة كتب عن فلسطين بالاسبانية والانجليزية، وكتب كتابا عن جدّه الذي هاجر من فلسطين إلى العالم الجديد، إلى الارجنتين.
"فايز" اسم جدّ غوستافو وهو الاخ الاكبر بين اخوته، هاجر الى الارجنتين عام 1905 وتوفّي فيها عام 91959
عاش طوال حياته وهو يحلم ويأمل بالعودة إلى عسفيا، بلدته الاصلية في فلسطين، وكانت أمّه واخوته يحدوهم الامل ذاته برؤية فايز يوما عائدا من الارجنتين.
كان عندما يُذكر اسمه في البيت "فايز" في "عسفيا"،كانت تسري شحنة كهربائية عاطفية تغمر ارجاء البيت وساكنيه.
بين الزيارتين من الارجنتين إلى فلسطين، كانت مُبرمجة زيارة أخرى معاكسة، أي من فلسطين إلى الارجنتين، لكنّها لم تتحقّق، انها زيارة الشاعر جمعة الرفاعي "المُفترضة"إلى "بوينوس أيريس"، للمشاركة في مهرجان بوينوس ايريس الدولي للشعر.
لكن "سفينة" جمعة الرفاعي التي ستمخر عباب المحيط الاطلسي من فلسطين إلى الارجنتين "اصطدمت"بصخرة عاتية، صخرة ارجنتينيّة كامنة في الخفاء، حطّمتها، كما حطّمت الصخرة سفينة تايتانيك العملاقة الشهيرة، وتحطّمت معها آمال الشاعر المرهف المبدع المُتلهّف للمشاركة وتمثيل فلسطين في هذا المهرجان الشعري الدولي السنوي الهام، "لا حول ولا قوّة إلا بالله".
من أجل منحه فيزا دخول إلى الارجنتين، كما هو العرف الدبلوماسي والقنصلي الدولي المعهود، بالغت ممثليّة الارجنتين في رام الله في طلباتها ومتطلّباتها وشروطها وذرائعها لمنحه الفيزا المُنتظرة!!!!
ومع أنّ الشاعر زوّدها بكافة الوثائق المطلوبة "وزيادة" ، حيث "تسلّح بكتابين هامّين من منظمة التحرير تنصّ على أنّه موظّف في اتحاد الكتّاب، والكتاب الثاني من وزارة الخارجية دعما وضمانا لطلبه الفيزا وأن سفارتنا في بوينوس ايريس ستتكفّل باحتضانه وتسهيل مهمّته الشعرية الشاعرية الادبية الثقافية المُبجلّة.
ولكن ومع كل هذا الاستعداد من طرفه فقد قابلته "سفارة" الارجنتين في رام الله والتي يقودها السفير الارجنتيني ريكاردو"بموّال آخر"، لم تشاطره رغبته وفرحته للمشاركة في المهرجان الشعري، بل تلكّكت اسبوعا وراء اسبوع في ردّها على طلب الفيزا، حتى ازف موعد السفر.
قبل يومين من سفره يأتيه الجواب القاطع الباتع بأن "الارجنتين لا تمنح فيز دخول اليها للفلسطينيينّ!!!! يا للهول يا للعجب؟؟؟!!! هل هو عذرٌ اقبح من ذنب؟؟؟ّ!!! أم أنّ وراء الاكمّة ما وراءها؟؟!!
في هذا الصدد والمقام كتبت الاديبة الارجنتينية التقدّمية "أمايتيه سومار" مقالا بالاسبانية نشر في الارجنتين تنتقد فيه ما جرى لجمعة الرفاعي، عنونت المقال ب"غياب فلسطين عن مهرجان الشعر الدولي في بوينوس ايريس والتشقّقات في الاداء الدبلوماسي الارجنتيني".