الواقع السياسي التونسي المأزوم.. في ظل اعتزال المثقف للسياسة أو عزله عنها

تابعنا على:   08:19 2022-11-26

محمد المحسن

أمد/ -هناك حقيقة واحدة في الوقت الحالي،وهي أننا لا نعرف الكثير عما حدث،ولا نعرف ما يخبئه المستقبل القريب،والبعيد.-(الكاتب)

قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أن لا خيار أمام التونسيين اليوم،إلا تجنّب إضاعة آخر فرص الإنقاذ المتاحة،فالفشل يعني إنهيار المسار الديموقراطي بأكمله والعودة إلى مربع الفوضى والإنفلات وغياب سلطة ونفوذ الدولة.

قد تكون الإختلافات عميقة جدا،والهوة بين الأحزاب والتيارات السياسية والمنظمات الإجتماعية واسعة،لكن الواجب الوطني يحتّم على الجميع تجاوز هذه الخلافات وتجسير الهوة للخروج من المآزق وانقاذ ما يمكن انقاذه قبل فوات الآوان،وكفانا مناكفات ومزايدات سياسوية لا طائل من ورائها سوى تغليب الفتق على الرتق..والنقل على العقل..

أقول هذا، وأنا على يقين بأنّ العديد من الملفات الشائكة تستدعي-منا جميعا-وعي عميق بجسامتها ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب وتستخلص النتائج عبر رؤية ثاقبة،وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة،إذا أرادت-حكومة المشيشي-أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة شؤون البلاد..

والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع :

في ظل هذا الواقع السياسي المأزوم الذي يئن تحت وطأته المجتمع التونسي من تفشي الفساد وضعف الرقابة وغياب للمساءلة وانتشار الفقر والبطالة وانسداد الأفق..من المنطقي أن نتساءل عن أهل التخصص من العلماء والكفاءات العلمية والفكرية وأساتذة الجامعات،تلك القامات العلمية التي لطالما نظر لها المجتمع نظرة تقدير واحترام وبنى عليها أملاً مستقبلياً كبيراً،وكان لحضورها معنى ولغيابها معانٍ،فهم مسؤولون فكريون،مسؤوليتهم تتضاعف في اللحظات الحرجة التي يمر بها مجتمعهم،تفوق بأضعاف المرات على مسؤوليات العامة من الناس..

نتساءل : هؤلاء الذين تخصصوا في علومهم،حملة الشهادات العلمية العليا،أصحاب البحث العلمي ورواد المعارف والعلوم،أولئك الذين يملكون مفاتيح المعرفة والقدرة على التعريف والتأهيل والفك والتركيب والتوجيه والتحليل،ما هو دورهم الحقيقي في هذا الواقع الذي تتعالى فيه أصوات الاحتجاجات على سياسات الحكومة والمطالبة بالإصلاحات وتحقيق العدالة ومحاربة الفساد؟

تُرى هل اتخذ هؤلاء ما ينبغي من خطوات عملية وفكرية للقيام بدورهم في هذه المرحلة الحرجة؟!

المثقفون الحقيقيون مَنْ يُستَشعَر وجودهم في الأزمات،وكما يقال: “في الليلة الظلماء يفتقد البدرُ”وفي صدارة المثقفين أساتذة الجامعات حيث مطلوب منهم فهم أبعاد الأزمة ليلعبوا دوراً توعوياً ومؤثراً في تحريك عواطف الناس وتوجيهها بعقلانية من دون ضجيج يربك المشهد..

يتابع-التونسيون-اليوم مثقفي مجتمعهم بحرص سيما-كما أسلفت-في ظل هذه الوضع المعقد، وتشرئب أعناقهم لمن يثقون بهم من الرموز الثقافية الواعية،وهذه مسؤولية كبرى وفرصة عظيمة لمن يحسن توظيفها من المثقفين المؤثرين..

-التونسيون-ترنو نفوسهم الى دور توعوي يسهم في توضيح حقيقة الأوضاع التي يمر بها مجتمعهم وما يترتب عليها وكيفية الاستعداد لها ومواجهتها أو التأقلم معها،تهفو افئدتهم الى رمز له جمهور يؤمن بفكره ويحب أن يستضيء برأيه لاسيما عندما يختلط الحابل بالنابل..

وإذن؟

المرحلة تستدعي إذا،من الأكاديميين مواقف حاسمة،حيث إن الأمانة العلمية التي يحملها الأكاديميون أمانة عظيمة،وحمل ثقيل،تُملي عليهم تقديم الحلول والمشورة وإضاءة الطريق أمام أبناء مجتمعهم للوصول بهم إلى الحقيقة أو ما هو قريب منها؟

على هذه النخب الأكاديمية أن تكون مستعدة للتلاحم مع مجتمعها والوقوف معه في السراء والضراء وشدة الكروب،ولا أن تقف موقف المتفرج على ما يجري في الوطن بانتظار أن ينقشع الضباب..وتضَاح الرؤية..

إن غياب الأكاديميين والمثقفين اليوم عن المشهد الضبابي في مجتمعهم غياب قاتل مؤلم، وتقوقعهم داخل مكاتبهم واكتفائهم بالكتابة في مجلة أو صحيفة إلكترونية محدودة الأثر،أو الاعتماد على كتاب يؤلف أو بحث علمي لا يخدم الواقع المرير الذي يمر به الوطن. هو من باب الفلسفة التي لا طائل منها في ظل الأزمات وترف فكري لا جدوى منه،وهو لا يعفي الأكاديمي من مسؤوليته،ولا يعذره المجتمع في حال غيابه،بل سيكون عليه الاستعداد لمواجهة محكمة التاريخ بعد نظرات مجتمعه التي لطالما حدقت فيه بانتظار حراكه المنشود!

الوطن قضية ساخنة تمسنا جميعاً،وصمت النخبة المثقفة في حال تعرض الوطن للأزمات بدعوى عدم الرغبة في الولوج في السياسة ليس من الوطنية في شيء فالوطن يعني كياناً يضمنا جميعاً،وكما ننافح عن سمعة بيوتنا ننافح عنه..

ختاما أقول :

مازالت حالة المخاض التي تعرفها تونس في انتقالها الديمقراطي وإعادة هيكلة البنية السياسية للدولة مستمرة للخروج من البنية الإستبدادية المتوارثة والتي هيمنت على البلاد طيلة عقود من سيطرة حكم الحزب الواحد والزعيم المطلق.

وإذا كان من الممكن تثمين الخطوات التي قطعتها البلاد بتنظيم محطات انتخابية تعددية وإقرار دستور يحفظ الحقوق والحريات،فإن مطبات كثيرة مازالت تعطل مسيرة الإصلاح وتضع عراقيل كثيرة أمام خلق البيئة السياسية المناسبة التي تضمن استمرارية الوضع الديمقراطي الناشئ إثر ثورة 2011.

وإذا كانت المشكلات الاقتصادية والأمنية هي من قبيل القضايا المعتادة بالنسبة لدولة نامية هي جزء من محيط دولي وإقليمي متوتر ومضطرب فإن أزمة الوعي السياسي إن صح التعبير تظل المشكلة الأكثر خطورة وتأثيرا على مستقبل المسار السياسي بتونس.

فالممارسة الديمقراطية تستلزم حضور نخبة سياسية-متسلحة بالعلم والمعرفة والثقافة-واعية ومؤمنة بأهمية التحولات السياسية مع ما يفترضه الأمر من مراجعة كثير من المسلمات الفكرية التي تحكم النخبة السياسية في تونس وتشكل البنية العميقة التي تنجم عنها كل الأعراض المختلة في المشهد الحزبي والحكومي التونسي.

لقد آن الأوان لأن تدخل الديمقراطية التشاركية مرحلة جديدة في تصورها للعلاقة مع المثقف من علاقة تشاورية إلى علاقة ندية وظيفية،إذ لا يمكن أن نرتقي بالسياسة بطوابير من المثقفين الإستشاريين داخل الأحزاب أو الدولة الذين لا يحملون أية صفة تنفيذية.

ومن هنا،لا بد للمثقف أن يدافع عن مصيره السياسي ولا بد للثقافة أن تعود القلب النابض للمجتمع،وإلا فلن تحدث لعبة السياسة التحزبية أي تغيير جذري داخل مجتمعاتنا نحو تحرير إراداتها وطاقاتها الإبداعية والتنافسية.بل “ستتكرر مشاهد الحوارات الوضيعة تحت قبة مجلس الشعب والقرارات المرتجلة والهدامة في صالونات القرار إن استمر اعتزال المثقف للسياسة أو عزله عنها.”

وأرجو..أن تصلَ رسالتي”البريئة” إلى عنوانها الصحيح..

اخر الأخبار