إعادة الإعمار في قطاع غزة بعد عام على العدوان الإسرائيلي: الخيارات والسياسات

تابعنا على:   19:39 2022-06-28

د.مازن العجلة

أمد/ على الرغم من مُضي عام بأكمله على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 10 أيار 2021، فإن عملية إعادة إعمار ما دمرته القوات الإسرائيلية لا تزال تراوح مكانها، ولم تحقق إلا إنجازات محدودة، لا تتناسب مع أهمية مثل هذا الملف اقتصاديًا واجتماعيًا.

ويبدو أن السياق السياسي لعملية إعادة الإعمار ومحورية الدور الذي تلعبه دولة الاحتلال والقوى الدولية والإقليمية الفاعلة فيه، قد أثر بشكل واضح على بطء عملية إعادة الإعمار، ناهيك عن عدم توفر بيئة صالحة خالية من الحصار والانقسام السياسي والتجاذبات السياسية اللازمة للوصول إلى عملية إعادة إعمار ناجحة تُحقّق تعافيًا اقتصاديًا مستدامًا ومتوازنًا وطويل الأمد، الأمر الذي منح الأطراف الفاعلة الخارجية هامشًا أكبر للتأثير في مسار هذه العملية، وقد اتضح ذلك خلال العمليات السابقة لإعادة الإعمار في القطاع.

ولا يخفى، كيف أن هذه الأطراف، وأبرزها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، وضعت، ومنذ البداية، شروطًا سياسية تتعلق بالطبيعة السياسية لعملية إعادة الإعمار، مثل التوصل إلى هدنة طويلة، وإبعاد حماس عن عملية إعادة الإعمار، وضرورة موافقتها على شروط الرباعية، ... وغيرها. ويبدو أن الاشتراطات السياسية التي تتبلور أثناء الحديث عن إعادة إعمار قطاع غزة الآن، تتماهى مع سابقاتها التي وُضعت لتنفيذ عمليات إعادة الإعمار السابقة.

وقد أكدت الولايات المتحدة أن تقديم المساعدة والتمويل سيتم من خلال الأمم المتحدة، وبالشراكة مع السلطة الفلسطينية، مع ضمان عدم وصول هذه المساعدات إلى حماس، مع توفر دور رئيسي لكل من مصر وقطر، والمبعوث الأممي إلى الشرق الأوسط، والاتحاد الأوروبي.

وتمثل إسرائيل، التي تسيطر على المعابر والموارد، اللاعب الرئيسي، فقد أكدت أن إعادة إعمار قطاع غزة ستكون مشروطةً بعودة جثث جنود الجيش الإسرائيلي، فضلًا عن ضرورة توفير الهدوء طويل الأمد.

ولّد هذا السياق السياسي المعقّد مجموعة من السياسيات المحدِدَة لمسار إعادة الإعمار، على رأسها ربط السياسي بالاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي أفضى إلى عدم توفر التمويل اللازم والكافي لإعادة الإعمار، إضافة إلى تأخر وصول التمويل من جهات ومؤسسات أبدت التزامها بالمساعدة في هذا المجال.

تناقش هذه الورقة تطورات عملية إعادة الإعمار بعد مضي عام على بدئها، مع قياس حجم الإنجاز والفجوات والمعوقات، كما تناقش السياسات التي حكمت مسار العملية والخيارات المتاحة.

الأضرار والخسائر

وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، فقد قُتل خلال العدوان الإسرائيلي الأخير 260 فلسطينيًا، من بينهم 66 طفلًا، و41 امرأة، وأصيب أكثر من 2,200 فلسطيني بجروح، من بينهم 685 طفلًا، و480 امرأة، بعضهم قد يعاني من إعاقة طويلة الأمد تستدعي إعادة التأهيل.[1]

بلغ عدد المباني المدمرة كليًا 331 مبنى، فيما بلغ عدد الوحدات السكنية المتضررة كليًا وجزئيًا 27,346 وحدة سكنية، منها 1,019 وحدة مدمرة كليًا، و706 وحدات أضرار جسيمة وغير صالحة للسكن، و25,621 وحدة أضرار جزئية.[2]

وفقًا لآخر تحديث صدر عن الأشغال في غزة، فإن عدد الوحدات المدمرة كليًا بلغ 1,688 وحدة سكنية (لا تختلف التقديرات أعلاه مع هذا الرقم، فالمباني المدمرة عددها 331، ولو قيست بالوحدات السكنية سيكون المجموع متقاربًا إلى حد كبير)، بينما بلغ عدد الوحدات المتضررة جزئيًا 60,383 وحدة سكنية، وبإضافة الوحدات السكنية التي لم تُعوّض جراء الاعتداءات السابقة (2008/2009، 2014)، والتي يبلغ عددها 1,575 وحدة، فإن العدد الإجمالي يبلغ 2,990 وحدة سكنية.[3] وقدرت السلطات المحلية الخسائر المباشرة في قطاع غزة خلال الحرب بنحو 479 مليون دولار.[4] وبلغت قيمة الأضرار الجسيمة وفقًا لتقرير البنك الدولي 570 مليون دولار.[5] ويتضمن كلا التقديرين تفاصيل الأضرار موزعة على القطاعات المتضررة، وبخاصة الإسكان والبنى التحتية والقطاعات الاقتصادية الإنتاجية والقطاعات الاجتماعية. وأبرزت التقارير أن قطاع التنمية الاجتماعية شاملًا الإسكان والبنى الاجتماعية الرئيسة، كالتعليم والصحة، يستحوذ على النسبة الأكبر من الأضرار، التي تتراوح بين 50-60% من المجموع الكلي.

جهود إعادة الإعمار خلال عام: الإنجاز والفجوة والمعوقات

تشير التقارير ذات العلاقة إلى إحراز تقدم بطيء على صعيد الوحدات السكنية المهدمة كليًا، وتقدم أفضل على صعيد الوحدات المتضررة جزئيًا.

ويقدر تقرير لقطاع المأوى[6] (Shelter cluster Palestine) أنه تم تقديم المساعدة لإصلاح أكثر من 44,000 أسرة تعرضت وحداتها السكنية لأضرار جزئية خلال التصعيد في أيار/مايو 2021، من خلال المنح النقدية المقدمة من العديد من الجهات الفاعلة في مجال المأوى، في حين أن 2636 أسرة لا تزال قيد التقدم (مرشح)، ما يترك فجوة في إصلاح 3085 وحدة سكنية، وحوالي 10000 أسرة لم يتم تعويضها عن إصلاح أضرار طفيفة.

كذلك، تم تقديم المساعدة النقدية للمأوى الانتقالي للأسر النازحة حتى آذار/مارس 2022، ومع ذلك، يلزم توفير تمويل إضافي كمساعدة نقدية للمأوى، لحوالي 1,000 عائلة لا تزال نازحة داخليًا.

غطت الأونروا حوالي 47% من التعويضات المقدمة للمتضررين، يليها تجمع المؤسسات وبنسبة 30%، ثم اللجنة القطرية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بنسبة 3% لكل منهما، و16% من مؤسسات أخرى.[7]

لا تزال عملية إعادة إعمار الوحدات السكنية المدمرة بالكامل تسير ببطء شديد، حيث يوجد 95 وحدة سكنية فقط في المراحل الأولى من إعادة البناء بتمويل من اللجنة القطرية لإعادة الإعمار، على الرغم من أن التمويل يكاد يكون مضمونًا لإعادة بناء حوالي 250 وحدة سكنية، وتم التعهد به في البداية[8] (42% الأونروا، 12% اللجنة القطرية، 5% UNOPS، 4% مجلس الإسكان، 37% غير مرشح).[9]

هذا يعني أن عدد الوحدات المهدمة كليًا التي لم تحظَ بالتمويل؛ سواء مرشحة أو غير مرشحة، يبلغ الآن 1,593 وحدة، وبنسبة 94.4%، مع العلم أن الباقي هو قيد الإنشاء، أو في مرحلة الإجراءات. ويزيد من صعوبة الواقع أن الأونروا، وهي مسؤولة عن 700 وحدة سكنية مهدمة كليًا، وبنسبة 41.5%، لم تحرز أي تقدم في هذا المجال، ولم يحصل أي متضرر (هدمًا كليًا) على أية دفعات مالية لبدء عملية إعادة البناء.

وتبين، من خلال مقابلة مع مدير عام الإعمار في أشغال غزة، أن هناك العديد من المعوقات التي تواجه ملف إعادة الإعمار، أهمها:[10]

لم يتم حتى الآن رصد أية مبالغ من أية جهة لإعادة إعمار الأبراج التي تحتوي على 450 وحدة سكنية، حيث لا توجد أية تعهدات من أية دولة.

لا توجد، كذلك، تعهدات من أية دولة أو جهة أو مؤسسة لتمويل الأضرار القديمة؛ سواء الهدم الكلي أو الجزئي (أضرار 2008/2009، أو أضرار 2014، أو غيرهما)

لم يتم صرف أية مبالغ من التعهدات التي تمت بخصوص تمويل إعادة الإعمار، وما تم تعميره حتى الآن يصل إلى 10% فقط. كذلك صرفت الوكالة لحوالي 75% من الأضرار الجزئية فقط، وقريبًا سيتم تمويل 84 حالة من حالات الهدم الكلي التي تديرها الوكالة، ويبلغ عددها 700 وحدة، أي بنسبة 12%.

لا يوجد التزام واضح بالتعهدات مثل مبلغ المنحة وآلية الصرف، على سبيل المثال ما تم صرفه من قطر مصدره المنحة الشهرية القطرية، وليس ما تعهدت به قطر للإعمار، والمنحة المصرية تحولت للتطوير وليس لإعمار ما تم تدميره.

معنى ذلك، أن هناك تحولًا في طبيعة ووقت المنحة القطرية التي لم يُصرف منها شيء حتى الآن، ولا توجد أية تصريحات بهذا الخصوص، وما يتم صرفه هو من المنحة الشهرية، وفقًا لمسؤول ملف الإعمار في أشغال غزة، الأمر الذي يدفع باتجاه الأسباب السياسية التي قد تكون ذات علاقة بالشروط الإسرائيلية الأميركية لإعادة الإعمار، والتي أشرنا إليها سابقًا.

أضف إلى ذلك أن المنحة المصرية لإعمار غزة التي أعلن عنها الرئيس المصري في 18 أيار/مايو غداة انتهاء العدوان على غزة، ليس لها علاقة بإعادة إعمار ما تم تدميره، باستثناء المرحلة الأولى من هذه المنحة التي تمثلت في المشاركة المصرية في إزالة ركام الأبراج المدمرة، حيث حددت اللجنة المصرية لإعمار قطاع غزة (تابعة للحكومة المصرية)، أن "المرحلة الثانية من المنحة تتكون من 6 مشاريع (إنشاء 3 تجمعات سكنية بمدينة الزهراء (وسط)، وبلدة جباليا (شمال)، ومدينة بيت لاهيا (شمال)، وتطوير شارع الكورنيش (شمال)، إضافة إلى تطوير ميدانين رئيسيين (تقاطع طرق) بإنشاء جسرين).[11] ويبدو أن مسارات المنحة المصرية تتعارض مع أولويات أشغال غزة، كما ذكر مسؤول الأشغال بغزة، الذي أوضح أن الأولويات التي تضعها مصر لإعمار غزة، تختلف عن أولويات اللجنة الحكومية لإعمار غزة، والمتمثلة في "إعادة إعمار المنازل، والأبراج السكنية، والمنشآت الصناعية والتجارية"، التي دمّرتها إسرائيل خلال العدوان الأخير.[12]

وتمثل كل من المنحة المصرية والمنحة القطرية أكبر تعهدين تم إطلاقهما للمساهمة في إعمار غزة غداة عدوان أيار الأخير. وكما اتضح من السرد أعلاه، فإن أهداف وطبيعة كلتا المنحتين، لا تنسجم مع الحاجة الملحة لتمويل ما دمرته الآلة العسكرية الإسرائيلية، على الرغم من أهمية مساهمة كل منهما على أرض الواقع. لقد أدّى ذلك إلى إرباك في عملية توفير التمويل المطلوب لتفعيل ملف إعادة الإعمار وتعويض المتضررين وبدء عملية إعادة الإعمار.

إعادة الإعمار والسياسات الحالية

تشير تجارب الإعمار السابقة، وشواهد الواقع السياسي الحالي إلى أن قضية إعادة الإعمار ليست قضية فلسطينية خالصة، فهناك مجموعة من اللاعبين الإقليميين والدوليين، على رأسهم إسرائيل، التي تحكم حصارها على قطاع غزة، وتقرر طبيعة وحجم التعاملات التجارية معه ومن خلاله، إضافة إلى الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وبعض الدول العربية المؤثرة مثل مصر وقطر.

لقد أثّر النفوذ الأميركي والإسرائيلي ورؤيتهم لإعادة الإعمار وربطها بالشروط السياسية (وأهمها التوصل لهدنة طويلة المدى، وإنهاء ملف تبادل الأسرى)، على الأطراف المختلفة، الأمر الذي أفضى إلى سياسات متعارضة وغامضة، واحيانًا كان هناك عجز عن وضع السياسات الملائمة واللازمة لتفعيل إعادة الإعمار في ظل عدم توفير التمويل المطلوب للعملية، الذي بات واضحًا تأثره بالسياق السياسي والشروط الأميركية الإسرائيلية.

وقد ساهم الانقسام الفلسطيني والتنافس على إدارة ملف الإعمار في تعقيد المشهد والتأثير على طبيعة السياسات المتعلقة بالإعمار.

في سياق تداعيات هذا المشهد، نجد أن أولويات وسياسات المنحة المصرية قد تغيرت، حيث تضمنت المنحة غداة الإعلان عنها، كمرحلة أولى، إعادة بناء الأبراج، والمقرات الحكومية، إضافة إلى المشاريع الجديدة المتمثلة في إنشاء ثلاث مدن وجسرين. فقد أفاد  ناجي سرحان، مسؤول أشغال غزة، الذي توجه مع وفد من رجال الأعمال إلى مصر في حزيران/يونيو 2021، بأن هناك تفاهمات مع المصريين على العديد من قضايا إعادة الإعمار، حيث ناقش الطرفان خلال اللقاء، بحسب سرحان، احتياجات قطاع غزة لإعادة الإعمار، وكيفية صرف المنحة المالية المصرية، كذلك اتفقنا مع المصريين أن نبدأ كمرحلة أولى بإعادة بناء الأبراج ضمن المنحة المصرية، على أن يتم إعادة بناء 10 أبراج مرة واحدة، ومن ثم تستمر عملية بناء الأبراج والعمارات الكبيرة حتّى الانتهاء منها، والانتقال للمنازل الصغيرة والوحدات السكنية.[13]

وتبين لاحقًا أن المنحة مخصصة فقط لإنشاء المدن الجديدة، والجسرين، وتطوير الشارع الساحلي في الشمال فقط، الأمر الذي ساهم في إرباك السياسات الخاصة بالإعمار على صعيد أشغال غزة، التي تعاملت مع المنحة المصرية بناء على تفاهمات حزيران/يونيو 2021.

استهدفت المنحة القطرية منذ الإعلان عنها، المساهمة في إعادة إعمار المرافق الخدمية في القطاع، لا سيما في قطاعات الصحة والتعليم والكهرباء، إضافة إلى المنازل التي دمرت بسبب الاعتداءات.[14]

ومع ذلك، لم يتم الاتفاق على بدء الصرف الفعلي للمنحة القطرية حتى تاريخه، وأشرنا مسبقًا، إلى أن ما تم إنجازه في موضوع الإعمار بتمويل قطري، جرى الإنفاق عليه من المنحة القطرية الشهرية فقط.[15]

وبذلك حدث اضطراب واضح في أكبر التعهدات حجمًا لتمويل إعادة الإعمار في غزة، المنحة القطرية والمنحة المصرية.

تركزت سياسات أشغال غزة، المسؤولة عن ملف الإعمار، وفقًا لمدير عام الإعمار فيها،[16] في اتّخاذ ما يلزم للضغط على الجهات المانحة، وتوصيل رسائل للجهات الشريكة والمعنية بحجم المعوقات وبطء عملية التنفيذ، وممارسة نوع من الضغط الإعلامي والسياسي.

مع أن السلطة الوطنية الفلسطينية أكدت على لسان رئيسها أنها المسؤولة حصرًا عن الإعمار في قطاع غزة، ووضعت رؤيتها وخطتها لذلك، وشكلت الفريق الوطني لإعادة الإعمار، فإنها لم تستطع، من خلال هذا الفريق، التعامل مع ملف الإعمار ميدانيًا، في ظل عدم اعتراف سلطة غزة به، وتم استبعاده عن التنسيق والتدخل. وتمحور عمل الفريق في المساهمة في تطوير البنى التحتية المدمرة بمنحة كويتية، ومتابعتها.[17]

لم تستطع الأونروا كذلك، تجاوز عقبة تنفيذ التعهدات وتوفير التمويل المطلوب لتغطية التعويضات المسؤولة عنها للمتضررين، حيث لم تصرف أية تعويضات حتى تاريخه لأصحاب الوحدات السكنية المهدمة كليًا، والبالغ عددها 700 وحدة.

ولم تنتهِ كذلك من صرف التعويضات كافة للأضرار الجزئية. وعلى الرغم من مكانتها الدولية، فإن الأونروا لم تستطع توفير المبالغ المطلوبة للبدء الفعلي لإعادة الإعمار، فضلًا عن استمرار الأزمة المالية الخانقة التي تعصف بها منذ سنوات.

من الواضح أن السياسات التي وُضعت لمعالجة ملف الإعمار، تضمنت العديد من جوانب الضعف التي جاءت في سياق الشروط السياسية للأطراف الرئيسية (وبخاصة إسرائيل والولايات المتحدة) وبيئة سياسية محلية غير مواتية وتعاني من التشرذم وعدم التنسيق وعدم التوافق، الأمر الذي انعكس في عجز هذه الأطراف عن تلمس السياسات المناسبة.

سيناريوهات المشهد المتوقعة

لما كان السيناريو يمثل أداة تجريبية لتحديد السياسات البديلة، بهدف استكشاف كل الاحتمالات التي يمكن أن يتضمنها المستقبل في إطار النسق الكلي للمجتمع (ديناميكية النسق والقوى المحركة له)، فإن استمرار قوة الأطراف الرئيسية الفاعلة في ملف الإعمار، يدفع باتجاه السيناريو المتشائم، أو على الأقل، سيناريو استمرار الوضع الراهن. في كل الأحوال، قد يكون من الأجدى استعراض السيناريوهات الثلاثة المعروفة (الوضع الحالي، المتفائل، المتشائم).

سيناريو استمرار الوضع الراهن

يستند هذا السيناريو إلى استقرار وضع الإعمار على ما هو عليه، والاستمرار في التقدم البطيء جدًا لهذا الملف، نتيجة التوقع باستمرار المعوقات التي تحول دون تفعيله للوصول إلى الانتهاء الكامل لهذه القضية.

يفترض هذا السيناريو بقاء الوضع السياسي كما هو، أي عدم التوصل لهدنة دائمة وعدم حل قضية تبادل الأسرى، واستمرار حدوث مناوشات تقتضي، في بعض الأحيان، تدخلًا فاعلًا من الجانب المصري أو القطري، ومن ثم عدم الوفاء بالتعهدات من قبل المانحين أو الوفاء المتقطع والبطيء الذي يعزز المشكلة ويعمل على إطالة أمدها. ويفترض السيناريو بقاء المنحة القطرية الشهرية في سياق خطة إسرائيل القائمة على السلام الاقتصادي، التي تتركز على تحسين الوضع المعيشي للفلسطينيين في غزة، طالما توفر الهدوء.

سيترتب على هذا السيناريو مزيد من التسويف والتأجيل لتعويض المتضررين، وبخاصة أصحاب البيوت المهدمة كليًا، والمنشآت الاقتصادية، والمؤسسات الصحية والتعليمية، وذلك نتيجة استمرار مشكلة عدم توفر التمويل اللازم لعملية الإعمار، كما أشرنا، الأمر الذي قد يؤدي إلى استمرار معاناة المتضررين وانتظارهم لاستلام التعويضات لسنوات عديدة. كما أن هذا التأخير سيعمل على ضعف التأثير الاقتصادي لإعادة الإعمار، بهذا الشكل البطيء والمتقطع، ومن المتوقع ألا يتأثر النمو الاقتصادي نتيجة عدم تزايد الطلب الاستهلاكي جراء الإنفاق على إعادة الإعمار.

سيناريو تذليل العقبات والبدء في إعادة الإعمار

يستند هذا السيناريو إلى أن الوضع السياسي سيكون مواتيًا لتفعيل عملية إعادة الإعمار، وبافتراض أن يكون هناك انفراج في ملف تبادل الأسرى، والتوصل إلى هدنة طويلة، من المتوقع أن يبدأ تدفق الأموال لتمويل إعادة الإعمار.

بل من الممكن، لأسباب سياسية تتعلق بالرؤية الإسرائيلية لاستمرار الانقسام، أن تسمح إسرائيل بإزالة معوقات الإعمار، ويتم تفعيل التعهدات الصادرة عن الدول المانحة بخصوص إعادة الإعمار. وبصورة أوسع، وأكثر تفاؤلًا، من الممكن أن تُستأنف خطوات المصالحة الفلسطينية، ويتم التوافق على ملف الإعمار، والتوصل إلى حلول سريعة لتوفير التمويل المطلوب.

سيترتب على السيناريو المتفائل الانتهاء من قضية إعادة الإعمار خلال فترة وجيزة لا تتجاوز العامين. وبناء على حجم التمويل المتوفر قد يتسنى حل مشكلة الوحدات السكنية والاقتصادية المتضررة من اعتداءات عسكرية سابقة، التي يُقدر عددها بحوالي 1300 وحدة.

اقتصاديًا، سيتأثر النشاط الاقتصادي بشكل إيجابي، حيث من المتوقع أن يزيد الطلب الكلي جراء تزايد الأنشطة الاقتصادية المصاحبة لإعادة الإعمار، وبخاصة في قطاع الإنشاءات، ومن ثم يتزايد النمو الاقتصادي معوضًا معدلاته المتواضعة سابقًا.

سيناريو التوقف الكلي لعملية إعادة الإعمار

يتحقق هذا السيناريو عند التوقف الكامل لأنشطة إعادة الإعمار، ويستند هذا السيناريو لتطورات سياسية وعسكرية نتيجة أحداث ميدانية داخل قطاع غزة، يترتب عليها إغلاق المعابر، وتوقف حركة الأفراد والبضائع، وقد يأخذ هذا التطور شكل اعتداء عسكري شامل، يضيف المزيد من الدمار والأضرار إلى ما هو قائم حاليًا. يفترض السيناريو توقف ما يتوفر من منح لتمويل إعادة الإعمار في سياق التطورات التي تحدث، وقد تتغير الاهتمامات لتحظى المساعدات الإنسانية بالأولوية، وقد يُعاد تخصيص الأموال المرصودة لإعادة الإعمار.

ستكون نتائج تحقق هذا السيناريو مؤلمة وقاسية، وستزداد معاناة المتضررين، بسبب تأجيل دفع التعويضات إلى إشعار آخر، وفي السياق ستتراجع المؤشرات الاقتصادية كافة، نتيجة الهشاشة والضعف اللذين يعاني منهما الاقتصاد الفلسطيني في قطاع غزة.

من الصعب ترجيح كفة السيناريو المتفائل في ظل حصار قطاع غزة، والسياسة الإسرائيلية التي تستهدف استمرار إضعاف المجتمع الفلسطيني في القطاع (السلام الاقتصادي). سيناريو الوضع الراهن هو الأقرب بناء على المعطيات الحالية، بل إن العوامل التي قد تؤدي إلى انفجار الوضع وتحقق السيناريو المتشائم موجودة بالفعل.

السياسات البديلة لتفعيل إعادة الإعمار

مع أن مشكلة إعادة الإعمار مرتبطة بظروف سياسية صعبة تتعلق بأطراف خارج السياق المحلي، فإن هذه المشكلة يمكن حلها أو تحقيق إنجازات محددة فيها من خلال تغيرات على مستوى السياسات، بل من الممكن اجتراح سياسات تخفف من تغول الاحتلال الإسرائيلي المسيطر على الكثير من أبعاد المشكلة، إذا تم التعامل مع إعادة الإعمار في سياق وطني ونضالي وبرؤية أوسع؛ سواء على صعيد المشاركة، أو على صعيد العلاقات وترتيباتها.

من الممكن النظر في السياسات المقترحة التالية كبدائل قد تكون مناسبة وأكثر فعالية من السياسات الحالية. ففي كل الأحوال، تقتضي المعوقات الماثلة أمام ملف الإعمار تغيرًا فاعلًا في السياسات، من أجل الوصول إلى بدائل أفضل، آخذين بعين الاعتبار الركائز الأربع المتعارف عليها لإعادة الإعمار، الأمن والعدالة والمصالحة والرفاه الاجتماعي والاقتصادي والحوكمة والمشاركة، حيث توفّر هذه الركائز نظامًا يعمل للتفكير في صياغة وتنفيذ وتقييم السياسات التي تم وضعها خلال مراحل إعادة الإعمار:

في ضوء السياسة الحالية لسلطة غزة، والمتمثلة بالسيطرة الكاملة على ملف الإعمار واستبعاد السلطة الوطنية الفلسطينية، لا بد من التأكيد على أهمية التنسيق مع السلطة والاستفادة من خبراتها وإمكانياتها؛ سواء على صعيد العلاقة مع الدول المانحة والمؤسسات الدولية، أو على صعيد علاقاتها الرسمية باعتبارها السلطة المعترف بها دوليًا.

وما يترتب على ذلك من قدرة السلطة على التأثير على الأطراف ذات العلاقة، واستدراج التمويل المطلوب.

من الأجدى، عمليًا، عدم التعامل مع هذا الملف المهم بمنظور حزبي ضيق، لا يساعد في تسهيل إنجازه، في هذا السياق من الصعب فهم وجود المناكفات السياسية والتسابق على إدارة الملف، على الرغم من التأثيرات المتوقعة لهذا السلوك، التي حدثت فعلًا، وهي تأخير عملية إعادة الإعمار وبطؤها الشديد.

إن سياسة الانفتاح في إدارة ملف الإعمار وإتاحة الفرصة للسلطة لممارسة دورها، ستعملان على تحريك الموقف بشكل إيجابي، وتوفير التمويل المطلوب، ومن ثم توفير الوقت والسرعة في إنجاز الملف.

التعامل مع إعادة الإعمار كمشكلة سياساتية تحتاج إلى رؤية مجتمعية موحدة ومسنودة جماهيريًا، ما يقتضي الاهتمام بغلبة الطابع الوطني والمهني، على الاعتبارات الفئوية والحزبية، ومن الأفضل الاهتمام بالأبعاد المختلفة للقضية، التي تعتبر قضية إنسانية واجتماعية فضلًا عن كونها قضية حقوقية تكفلها كافة الشرائع الدولية.

تفعيل فكرة دور الفريق الوطني للإعمار باعتباره آلية توافقية، طالبت بها معظم المؤسسات الأهلية والأطراف ذات العلاقة، وحيث إن الفريق الوطني الذي شكلته السلطة يتضمن ثلاث مجموعات تغطي الجانب الفني والإداري والمهني، ويضم في تشكيلته الأطراف كافة ذات العلاقة، فلا بد من القفز على الاعتبارات الضيفة التي دعت إلى رفض تشكيلة الفريق، وسيساعد الحوار البناء في تجاوز هذه الاعتبارات، والاتفاق على آليات تعزز البعد الوطني اللازم والمهم لإدارة الملف.

في هذا السياق، من الأهمية بمكان توسيع مهام الفريق الوطني لإعادة الإعمار، وبالتنسيق مع المؤسسات ذات العلاقة، لتشمل مراعاة تأهيل المنشآت وترميم المباني للأسس العلمية السليمة والطرق الفنية المعتمدة، واستلهام التجارب والخبرات الدولية ذات العلاقة، واستخدام الموارد المحلية والطبيعية لتعزيز التنمية المستدامة للحفاظ على الموارد البيئية، ومراعاة الطابع المحلي والحفاظ على التراث الوطني، والاستفادة من التقنيات الحديثة في مجال تكنولوجيا المعلومات في برامج ومشاريع إعادة الإعمار، وتعزيز المشاركة المجتمعية في مشاريع إعادة الإعمار.

إشراك فئات الفاعلين الرئيسيين في ملف الإعمار على المستوى المحلي كافة، سواء على الصعيد المؤسسي (المجتمع المدني، البلديات، التشكيلات الاجتماعية، ... وغيرها)، أو على صعيد الأنشطة الاقتصادية ذات العلاقة (مثل المقاولين، ومصانع الإنشاءات المختلفة، والموردين، واتحاد المقاولين)، ومن الأهمية بمكان ضمان المشاركة الفعلية للمتضررين؛ الفئة الأبرز في هذا الملف، وذلك في مراحل العمل الخاص بالإعمار كافة.

وحيث أن البلديات تعتبر عنصرًا أساسيًا في عملية إعادة الإعمار، فإن إجراء الانتخابات البلدية في قطاع غزة لتعزيز شرعية مجالسها، من المتوقع أن يوفر آفاقًا وفرصًا أفضل لحصولها على تمويل يساعد في عملية إعادة الإعمار.

هناك تقصير واضح في ترتيب وتنظيم حملات فاعلة ومؤثرة في مجال الضغط والمناصرة، وذلك نتيجة إهمال مشاركة الفئات كافة ذات العلاقة، كما ورد في البند السابق، وعلى الرغم من تنظيم حملة مناصرة وضغط واحدة أمام مقر الأونروا، فإن هذه السياسة تكون أكثر جدوى بتوسيع المشاركة وتنظيمها واستمراريتها. وقد يكون توسيع أهداف ومطالب هذه الحملات لتشمل فك الحصار الإسرائيلي، وإنهاء الانقسام، ذا دلالات سياسية ومطلبية مهمة تساعد في حل الموضوع.

من الأهمية بمكان تفعيل حملات المناصرة دوليًا لإشراك المنظمات الأهلية وحملات التضامن في بلدان العالم في الجهود الرامية لتفعيل الدعم السياسي والمادي لعملية إعادة الإعمار.

لتسهيل إنجاز ملف الإعمار، قد يكون من المناسب الفصل بين الأضرار القديمة والجديدة، على الرغم من الأهمية القصوى لإنجاز قضايا الإعمار القديمة العالقة، الأمر هنا يتعلق بترتيب الأولويات، وليس الإهمال والاستبعاد، ويحتاج إلى إقناع الجهات المانحة بهذا التوجه المهم.

تعزيز وتطوير تنسيق الأدوار بين الجهات ذات العلاقة، وبخاصة الأونروا، باعتبارها مسؤولة عن تعويضات أضرار اللاجئين، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، باعتباره مسؤولًا عن تعويضات المواطنين المتضررين، إضافة إلى أهمية توسيع دائرة التنسيق مع البلديات والمؤسسات الأهلية، الأمر الذي يعزز من إمكانية حشد أكبر تكتل ممكن لمساندة إعادة الإعمار، وضمان نجاحها.

الخاتمة

تتحمل سلطات الاحتلال الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن الخسائر المادية والمعنوية التي لحقت بالسكان المدنيين، وعليها واجب جبر ضرر الضحايا وتعويضهم، وعلى المجتمع الدولي واجب أصيل أن يجبر سلطات الاحتلال على الوفاء بهذا الالتزام، كما حدث في مناطق أخرى من العالم.

ومن ثم، فإن منهجية إعادة الإعمار خلال التجارب السابقة الثلاث، فشلت في إنجاز الأهداف المطلوبة لأنها تمت في ظل قيود إسرائيلية ودولية متعددة ومتنوعة على عملية إعادة الإعمار، ولذلك، فإن تكرار الصيغة نفسها سيؤدي حتمًا إلى تأجيج دورة التدمير وإعادة البناء المتكررة.

إن معادلة الإعمار مقابل الهدوء ليست هي الحل، هناك حاجة إلى رؤى جديدة تتجاوز هذه الآليات العقيمة إلى أخرى مبتكرة، تساعد في دعم الحق في السكن اللائق والحق في التنمية.

كذلك، يقع على عاتق القوى الفلسطينية المؤثرة، أن توحد صفوفها وجهودها، ومن ثم التعامل مع إعادة الإعمار بمنهجية نضالية تستند إلى رص الصفوف في مواجهة إجراءات الاحتلال وتعسفه.

الهوامش​

[1] Occupied Palestinian Territory (oPt): Response to the escalation in the oPt Situation Report No. 7: 2-7 July 2021: bit.ly/3HLHJ40

[2] Shelter cluster Palestine, Update: Escalation of hostilities- Gaza May 2021, dashboard 2, 17 June 2021: bit.ly/3I0HH8J

[3] مختصر تقرير جهود إعادة الإعمار، وزارة الأشغال العامة والإسكان، غزة، 6/4/2022.

[4] تقرير حصر أضرار العدوان أيار/مايو 2021، اللجنة الحكومية العليا لإعمار غزة، غزة، تموز/يوليو 2021.

[5] التقييم السريع للأضرار والاحتياجات في قطاع غزة، البنك الدولي، حزيران/يونيو 2021: bit.ly/3xPYVRc

[6] Shelter cluster Palestine, Shelter Cluster Snapshot - Gaza - February 2022, 10/3/2022: bit.ly/3QJdr6b

[7] مختصر تقرير جهود إعادة الإعمار، مصدر سابق.

[8] Shelter cluster Palestine, op. cit.

[9] مختصر تقرير جهود إعادة الإعمار، مصدر سابق.

[10] مقابلة هاتفية مع محمد عبود، مدير عام الإعمار بوزارة الأشغال، 20/4/2022.

[11] محمود علي، إعمار غزة بأيادٍ مصرية، صوت الأمة، 5/2/2022: bit.ly/3Owq0zG

[12] "حماس" تشوش على خطة القاهرة لإعادة إعمار غزة، العرب، 31/12/2021:  bit.ly/3HOEqt2

[13] وكيل "الأشغال" بغزة: توقعات ببدء إعادة الإعمار في يوليو (حوار)، الأناضول، 15/6/2021: bit.ly/3n7Xo4j

[14] Qatar says it will contribute $500 million for Gaza reconstruction, 27/5/2021: bit.ly/3ybo4Ya

[15] مقابلة هاتفية مع محمد عبود، مصدر سابق.

[16] المصدر السابق.

[17] صفحة الفيسبوك الخاصة بالفريق الوطني لإعادة إعمار المحافظات الجنوبية.

اخر الأخبار