استعادة زيزينيا في يوبيلها الفضي: الواقع والتاريخ والمستقبل

تابعنا على:   10:55 2022-06-26

تحسين يقين

أمد/ "أنا السؤال والجواب، مفتاح اللغز وحل السرّ  بشر بن عامر عبد الظاهر"، عبارة الفنان يحيى الفخراني في مقدمة المسلسل، التي فكرت فيها، فلا يمكن إلا أن يكون لها دلالة على الفكرة العامة، ورسالة المسلسل.

لم يكن اختيار أنور عكاشة لبشر، الشخصية المركزية في المسلسل، ابنا لمصري وإيطالية إلا تزاوجا بين حضارتين، حيث كان بشر هو نتيجة هذا التفاعل بين عامر عبد الظاهر وفرنشيسكا، لما يرمزان له من واقع حضاري. ولو تم عرض الجزء الثالث، ربما لأثر ذلك على افتراضي هذا.

هي الشخصية الإسكندرانية المصرية، العربية، التي كانت تتبلور في عقد الأربعينيات، بما فيها من شخصية إنسانية عادية تتنازعها النوازع، من خير وشرّ، وخلاص عام وفردي، في ظل الوجود الإنجليزي الكولينيالي. لعل هذا له علاقة بمجمل أعماله، في البحث عن الهوية والانتماء للعصر.

زيزينيا، مسلسل مصري من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج جمال عبد الحميد، عرض منه جزءان، على مدار 76 حلقة، وكان من المفترض أن يتلوهما الجزء الثالث لكن ذلك لم يتم، فحرم الملايين من العرب منه. حمل الجزء الأول عنوان "الولي والخواجة"، بينما كان عنوان الجزء الثاني "الليل والفنار" والذي حمل عنوان فرعي هو "إبحار في العاصفة" كونه الفصل الأول منه وكان من المفترض أن يحمل الجزء الثالث نفس عنوان الجزء الثاني "الليل والفنار" مع اسم فرعي آخر.

"الولي والخواجة"، و"الليل والفنار" وإبحار في العاصفة"، عناوين لها دلالات، العلاقة بين الأزمنة، وبين النور والتنوير، والصراعات، في ظل تحولات المجتمع الإسكندراني المصري العربي والإسلامي، وسط تحولات دولية.

ترى ما الذي دفعني لإعادة مشاهدة 76 حلقة؟ هل ثمة سبب ذاتي شخصي لارتباطي بالإسكندرية ومصر طالبا ذات سنوات مضت؟ أم عام قومي ووطني وإنساني لما تمثله المدينة والمسلسل من دلالات؟

تعدّ مدينة الإسكندرية أحد أهم المدن الكوزموبوليتانية، تلك الحال التي تأسست عليها المدينة من خلال اليونان والسوريين، ذلك هو المكان، أما الزمان فهو عقد الأربعينيات، في القرن العشرين، حيث الحرب العالمية، من قبل وبعد، والصراعات الدولية لملء فراغ قرب انتهاء الاحتلال-الاستعمار البريطاني لمصر، والذي تركز في أواخر عهده بمنطقة قناة السويس.

تاريخيا، وسياسيا، كان عقد الأربعينات عقدا لتطور النظام السياسي، على مستوى الأحزاب والصحافة، في ظل الحكم الملكي، فازدهرت الليبرالية في مصر، وتنوعت الأحزاب، القديمة والجديدة خاصة تلك التي ارتبطت بثورة عام 1919، وفي الوقت نفسه، لم تسلم البلاد من سوء حكم وإدارة، وصولا لما قبل ثورة يوليو 1952. وقد ظل هذا الجدل قائما حتى اليوم.

اجتماعيا واقتصاديا، وبسبب الوجود على البحر، وقربها من أوروبا الحديثة، وفد الكثيرون عربا وأجانب، وبالطبع مصريون إليها؛ فازدهرت في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، حيث عاش هذا الخليط من الجنسيات، فاستطاعت المدينة بالرغم من الاختلافات صهرهم في ثقافة مشتركة، عنوانها الإسكندرية، حيث عكس المسلسل مجتمع الإسكندرية بمختلف ‏أطيافه في تلك الفترة ‏.‏

وعكاشة هو من عشاق المدينة، واختارها كمكان للكتابة، ولا بدّ أنه ألهمته، خاصة هذا المسلسل، الذي كان مكانه حي زيزينيا،  ويمتد حي زيزنيا  في وقتنا الحالي شمالا إلى طريق الكورنيش بالإسكندرية،  ويقطع حي زيزنيا خط ترام النصر، وكذلك طريق الحرية، وينتهي حي زيزنيا جنوبا حتى آخر شارع إبراهيم العطار، و شارع رياض، وينتمي حي زيزنيا إلى حي شرق الإسكندرية.

عند البحث عن هذا الحيّ، تعرفنا على استيفان زيزينيا، وهو يوناني الصل، كان له علاقات عمل مع حكومة الخديوي. قدر زيزينيا أهمية مدينة الإسكندرية، وقام بشراء أرض هناك، وبعد مرور فترة من الزمن باع زيزينيا جزءاً من الأرض إلى الحكومة؛ وذلك لمد خط الترام ، وبعد مد الخط بدأت المنطقة في العمران.

يعيش بشر بين ثقافتين مختلفتين، تجمعهما الإسكندرية، التي كان لها فعل الصهر الجميل، الذي ترك لكل الجاليات خصوصياتها، لكن ضمن ما هو عام يلائم المدينة بشكل عام، كمدينة مصرية وعربية.

يتنقل بشر ما بين الحي الاسكندراني الشعبي الذي عاش، حيث تربيه زوجة ابيه المصرية، وحي زيزينيا حيث تعيش والدته فرانشيسكا مع خاله جيوفاني، صاحب الكلمة لا في الأسرة، بل وفي الجالية الإيطالية، وفي الإسكندرية، كرجل أعمال مشهور وثري.

تعلق بشر قلبيا بحيه المصري، فيما تأثر في مجمل ثقافته بحي زيزينا، كأنه يذكرنا بكتاب اسعاف النشاشيبي "قلب عربي وعقل أوروبي"، فاكتسب خير ما في ثقافتي الحيّين، الذين تقاطعا فيه.

بالرغم من أن كل حيّ كان يشده لثقافته، إلا أن كل حيّ كان يدرك، دون التصريح، بأهمية تواجده في كلا الحييين، بمعنى أن الحاج عامر ينظر بعين الرضا لثقافة بشر وما يكتسبه من عالم الخواجات، كذلك، فقد كان خاله السنيور جيوفاني، يحتاج للجانب المصري من بشر، ويرى في ذلك عنصر غنى له، وهو كان يراه ابنا له، ذلك أن جيوفاني  كان أيضا متأثرا بالثقافة التعددية للمدينة، حتى لو نظر بدونية أحيانا، فقد كان أيضا يشعر أنه اسكندراني كما هو إيطالي، بل وقد تكز عمله فيها، فصار ابنا له، مندمجا فيها، بل ويحبها، وهذا ما ذكره لزوجته الثانية، حين لمح لها نه معروض عليه السفر للعمل في نيويورك، لكنه لا يتصور كيف سيعيش بعيدا عن المدينة، بل وأخبرها أنها هي كذلك، فأومأت موافقة.

بشر عامر عبد الظاهر، يعيش تلك التعددية الاجتماعية والثقافية، بل والعاطفية، يميل عاطفيا لعايدة، من نساء الطبقة المصرية المتنفذة والغنية، لكنه يجد نفسه يميل نحو عزيزة ابنة زوجة أبيه ومربيته، ففي الوعي واللاوعي، كان متعلقا بالجانب الإنساني لدى مربيته، فيتزوجها، لكنه قبل ذلك يكون قد نزوج ابنة خاله فاليرا، لما لذلك علاقة بوصية جيوفاني المالية، وربما من ناحية أخرى، وفاء تجاه خاله وهو ما لم يصرح به.

يحيا الفتي والشاب وسط هذا المجتمع، في أسرة أبيه الممتدة، وأسرة أمه الممتدة كذلك، وتظهر أثر المصالح في العلاقات، كما يظهر حال المجتمع العربي في الإسكندرية، وما في من تفاوت ما بين النخب المثقفة، وبين الطبقات الشعبية، والتي أيضا تتأثر بالقديم والجديد. تظهر الحداثة، وتظهر الطقوس الصوفية، ويقف بشر وسط كل ذلك بقلبه النبيل وعقلانيته معا.

وأختتم بتتر المقدمة والنهاية، وهي كلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، وألحان عمار الشريعي، وغناء محمد الحلو.

يبدأ بوصف المدينة وجمالها وحبه لها:

اسكندرية تاني و آه م العشق ياني والرمل الزعفراني ع الشط الكهرماني

والسحر اللي احتويته والبحر اللي احتواني والبحر أبو ألف موجة والموجة بألف حالة

وانا المغرم صبابة باسكندرية يابا وفكرة كوني انسى في حكم الاستحالة

عشقت بحرك وغرقت فيكي وصبحت عندك في العشق حالة

وسمعت منك و عشقت بيكي وعجبني قربك على أي حالة

ثم ينتقل للحديث عن تلك التعددية، وكيف انصهر الخواجات في المدينة وأحبوها وانتموا لها:

وعاشرت فيكي الخواجة يني اجريجي لكن مصراوي جني

اسكندراني عاشق أغاني جعان يغني شبعان يغني

ويبات في حالة يصبح في حالة وكونه ينسى دي الاستحالة

وسمعت صوت النديم نسايم ع البحر صابحة والبحر هايم

وسمعت سيد بيقول يا مصري الدنيا صاحية ليه انت نايم

وهنا، " يا مصري الدنيا صاحية ليه انت نايم" ثمة إشارة الى تحفيز المصريين نحو اليقظة والتنوير والمعاصرة.

أما الأبيات القادمة في تتر المقدمة، فتلخص هذا الصراع والتبلور بل والحلم:

ولما عاند وخاني عصري لا شد ضهري ولا خد بنصري

بنيت في حضنك ع الرملة قصري وفتحت ع البحر حضن مصري

أدي القضية و أدي الرسالة وكوني انسى دي الاستحالة

أما في تتر نهاية مسلسل زيزينيا، فكان وفاء للمدينة التي احتوت الجميع، وهي تأمل في حركة التاريخ:

وعمار يا اسكندرية يا جميلة يا ماريا وعد ومكتوب عليا ومسطر ع الجبين

لاشرب م الحب حبة وانزل بحر المحبة واسكن حضن الأحبة والناس الطيبين

حكاياتك يا زيزينيا حواديت وناس ودنيا في حواري اسكندرية وليالي المنشدين

وأما التاريخ يواكب و يزاحم بالمناكب يتعبى ف المراكب وغناوي الصيادين

هيلا هيلا وهيلا بيلا شيال والعمر شيلة وهموم الدنيا ليلة فيها القمر حزين

ويا موج بحر الليالي عديتك وانت عالي ودفعت المهر غالي بالأيام والسنين

ونختم بتأمل الفنان نبيل الحلفاوي الذي خاطب متابعي حسابه عبر موقع "تويتر": "وأنا بشوف (زيزينيا) بحس بإحساس غريب عاوز أشرككم معايا فيه.. بشوف أصحابي وحبايبي ودنيا بعيدة جميلة بحن لها وأحن لهم.. الأغرب بقى إني لما بشوفني ما بحسش إنه أنا.. بحس إنه واحد صاحبي زيهم.. تبعهم.. تبع الدنيا البعيدة دي.. إحساس غريب.. غامض.. وحلو.. ومتعب".

لقد حنّ الى أيام المسلسل، كما حن المسلسل الى الأربعينيات..

كل وما يحن له..

وما يفكر به ويعيش لأجله ويتذكره، بمحبة واطمئنان وراحة أو غير ذلك.

المسلسل من بطولة يحيى الفخراني، هدى سلطان، حمدي غيث، نبيل الحلفاوي، أثار الحكيم، هالة صدقي، سماح أنور، وفاء صادق، محمد متولي، سوسن بدر، تهاني راشد، أشرف عبد الغفور، منى زكي، أحمد السقا، سيمون، ماجدة الخطيب، أحمد بدير، جميل راتب، إيمان.

اخر الأخبار