وسائل الإعلام: كيف نحمي أطفالنا من مخاطرها؟

تابعنا على:   16:56 2021-12-07

د.محمد عمارة تقي الدين

أمد/ تنص الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، في مادتها الأولى، على تعريف الطفل بأنه "كل إنسان لم يبلغ الثامنة عشر"، ويُقسِّم علماء النفس مراحل الطفولة إلى ثلاثة مراحل: مرحلة الطفولة الأولى: وهي تبدأ من لحظة الولادة إلى ثلاث سنوات، مرحلة  الطفولة الثانية: وتبدأ من سن ثلاث سنوات إلى ست سنوات، ومرحلة الطفولة الثالثة: وهي من سبع سنوات حتى سن البلوغ.

وقبل أن نخوض في الآثار السلبية التي قد تُحدثها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في الأطفال وسبل التصدي لها، يجب أن ننتبه لحقيقة مفادها أن تلك الوسائل الإعلامية هي سلاح ذو حدين، فكما أن لها أضرارها لها فوائدها الكثيرة، إذا ما حسن توظيفها.

لعل من أهم تلك الفوائد: إكساب الأطفال الكثير من السلوكيّات الإيجابية وتحاشي السلبية منها، إشباع الحاجات العقلية لديهم،مثل: التأمل والبحث، والاكتشاف والاستطلاع، والاستدلال والمقارنة والاستنتاج والتحليل والتركيب واكتساب المعرفة، وتنمية المهارات اللغوية، وتغذية قدراتِهم الذاتية، وتطوير خيالهم، وتعميق الحس الجمالي لديهم، وغرس القيم التربوية فيهم، وتنمية الشعور الوطني وحب الوطن والتضحية من أجله بالغالي والنفيس.  

فالحاجات الأساسية للطفل وفقاً لما ذكره علماء التربية، هي: الحاجة إلى الغذاء, والحاجة إلى الأمن, والحاجة إلى الخيال والمغامرة، والحاجة إلى الجمال, والحاجة إلى المعرفة، والحاجة إلى تنمية الثروة اللغوية للطفل، والملاحظ هنا أن الحاجات الأربع الأخيرة يمكن إشباعها عبر وسائل الإعلام. 

أما فيما يتعلق بالآثار السلبية لوسائل الإعلام على الطفل، والتي هي موضوع بحثنا هذا، فلعل أهمها على الإطلاق: إدمان المشاهدة بشكل مرضي، وتنمية مشاعر العدوانيّة والعنف لديهم، إذ تغذي العنف عند الأطفال بكافة صوره سواء الجسدي منه أو اللفظي، حيث يتم اللجوء للعنف كوسيلة استجابة شرطية تلقائية لمواجهة كثير من المواقف الحياتية.

يقول الناقد الإعلامي جورج جويتر: "إن الذين يشاهدون التلفزيون بكثرة يرون العالم أكثر عنفاً مما هو عليه"، وهو ما ينعكس على أنماط سلوكهم.

كما تُعلمه ألا يعبأ بحقوق الآخرين، فالمهم لديه هو تحقيق أهدافه الخاصة، فالغاية لديه تبرر الوسيلة، تماماً كما يشاهد في برامج الأطفال، كما تقود إلى إعاقة تطوّر قدرات الطفل الإبداعية والتأمليّة حيث يجري قتل الخيال لديه، فذهنه متوقف تماماً عند ما تقدمه الشاشة له.

كذلك يكون الطفل عرضة للإصابة بالكثير من الأمراض الصحيّة نتيجة قلة الحركة وجلوسه لوقت طويل أمام الشاشة فتتصاعد نسب الإصابة بالسمنة المفرطة أو البدانة بين هؤلاء الاطفال من مدمني وسائل الإعلام، ناهيك عن إمكانية تعرضه للمواد الإباحية وما يُحدثه ذلك من اضطراب نفسي شديد لديه.

والنزوع نحو السلبية وتبني موقف المتفرج من الأحداث الواقعية، حيث تبلد الإحساس لديه بالخطر وكأنه خارج المشهد تماماً كما مشاهدته للتلفزيون.

 كما تتصاعد مخاطر حدوث عزلة اجتماعية للطفل حيث ابتعاده عن الأسرة ومجتمع الأصدقاء، وفي ظل غياب القدوة الحقيقية تتبدى له قدوات أخرى عبر وسائل الإعلام، وهي النجوم من مشاهير الرياضة والفن وغيرهم، وضياع الهوية المجتمعية وتقليد هويات العالم الغربي وتبني قيمهم، ومن ثم تشويه نسق القيم لدى الأطفال.

كما أنها تقود لإحداث أضرار نفسية جسيمة لديه منها إثارة الفزع والشعور بالخوف عند الأطفال وبخاصة من الأشباح الذين يشاهدهم بالبرامج أو أفلام الكارتون،   والإساءة لطبيعة العلاقة بين المرأة والرجل بما يجرى تقديمه من محتوى غير قيمي، كما أن الإعلانات التجارية المتواترة بكثرة تقودهم لتبني ثقافة الاستهلاك وحب التملك.

هناك حقيقة بحثية مفادها أن أشد المواد المُقدَّمة للأطفال خطراً هي المواد الترفيهية كالكارتون وغيرها، إذ تؤكد الأبحاث التربوية أن أهم سبل التعليم رسوخاً وتجذراً في ذهن الطفل هو التعليم من خلال الترفيه.

ومن ثم فمواد الكارتون هي الأكثر تأثيراً في سلوك الأطفال، وهو في معظمه إنتاج غربي حيث المحتوى منزوع القيم وبعيد كل البعد عن قيمنا، مما يقود إلى اهتزاز أنماط القيم المجتمعية الخاصة بنا وتشوهها إلى حد كبير.

   ففي دراسة حول أفلام الأطفال العالمية قالت أن: 30% منها يتناول موضوعات جنسية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، و27% منها يعالج الجريمة والعنف والمعارك، و15% منها تتناول الحب بمفهومه الشبقي والجنسي. 

وفي دراسة أمريكية حول برامج ديزني الموجهة للأطفال تبين أن هذه البرامج  تتضمن قيم العنصرية والجشع والانتهازية وتفوق الرجل الغربي، فهو مضمون يخدم بالأساس المصالح الإمبريالية الأمريكية ويكرس قيمها حدها.

هذا في ظل ضعف إنتاج أفلام الكرتون في الدول العربية، فلك أن تعلم أن إنتاجها مجتمعة من أفلام الكارتون لا يتجاوز نسبة 2% من إنتاج اليابان وحدها.

فالدول العربية تستورد 80% من المادة الإعلامية التي تقدمها للطفل من الغرب،  إذ أن المحتوى العربي ضعيف كماً وكيفاً، كما أن هذا المحتوى العربي يعتمد استراتيجية التقليد الأعمى للمنتج الغربي دون أن يعبأ بالفوارق القيمية بين المجتمعات.

وها هو كارتون (توم وجيري) والذي يعد الأشهر على الإطلاق والأكثر استهلاكاً في عالمنا العربي نجده يدور حول العلاقة الصراعية بين توم وجيري، وأنه لابد من غالب ومغلوب حيث غياب علاقة التراحم والتكامل والتعايش السلمي تماماً.

كذلك مسلسل الكارتون الشهير (to beeb or not to beeb) وهو مأخوذ من مقولة شكسبير (to be or not to be  ) ، حيث مطاردة الذئب (كايوتي) للطائر (رود رنر), ودائماً ما تنتهي كل محاولته للإمساك به بالفشل،

وقد تم منعه من البث في اليابان لأنه يسبب الإحباط لدى الأطفال, ويغرس فيهم قيم الانهزامية، فهم يرون أن هذا الكارتون يروج لفكرة شديدة الخطورة على الأطفال مفادها أن الذي يخطط ويفكر تفشل خططه كلها وتنقلب في النهاية ضده.

لقد أكدت واحدة من الدراسات أن 37% من المحتوى الإعلامي الموجّه للأطفال يحتوى على مشاهد للعنف الجسدي أو اللفظي، فعلى سبيل المثال يحتل العنف 42% من أحداث كاتون (سلاحف النينجا) و40% من (توم وجيري) و24% من (جريندايزر). 

وفي دراسة قام بها الراحل عبد المنعم الأشنيهي مدير الإعلام بالمجلس العربي للطفولة، والتي قام من خلالها برصد أثر البرامج التليفزيونية والكارتون المقدم في إحدى القنوات العربية المتخصصة للأطفال لمدة أسبوع واحد فقط، فكانت النتائج التالية: تم عرض 300 جريمة قتل في تلك البرامج  خلال أسبوع الدراسة، وهو ما ينعكس على سلوكهم الحياتي.

وفي ظل ما يمكن أن نطلق عليه متلازمة العنف والجنس والجريمة، فإن سلوك واحد من الثلاثة يقود بالضرورة إلى الآخر وهكذا، يقول الطبيب النفسي (فريدريك ورثام) (Fredric Wertham) في واحدة من استنتاجاته: "إن الأطفال يربطون بين القسوة والعنف والجنس"، فأحدهم يقود للآخر كاستجابة شرطية، ومن ثم تتغير معايير وقيم الحب والخير والجمال لدى الطفل.

ومن ناحية أخرى فإن الاعتقاد القديم الذي كان سائداً بأن البرامج الترفيهية ليس لها علاقة بالتربية قد تم نسفه تماماً، يقول (فريدريك شيلر) في كتابه (التربية الجمالية): "الفكرة التي تقول بأن الترفيه لا ينطوي على أي بعد تربوي أو نفسي، هي اليوم أكبر خدعة أو كذبة في تاريخ البشرية".

فالطفل شديد التأثر بكل ما يعرض عليه، يقول هوفمان (Hoffman):" الطفل يجلس أمام جهاز التلفزيون، كقطعة الإسفنج التي تمتص كل ما تتعرض له".

وتقول هملوايت هيلود في كتابها ( التلفزيون والطفل):" إن التلفزيون يمارس نفوذاً كبيراً عندما لا تكون المواد التي يقدمها قد وقرت في الأذهان والقلوب من قبل"، وها هو الطفل يجلس أمام الشاشة كصفحة بيضاء قابلة لتلقي كل ما يعرض عليها.

في عام 1963م أجرى عالم النفس الكندي ألبرت باندورا (Albert Bandura)، تجربة لدراسة العلاقة ما بين العنف في وسائل الإعلام والسلوكيات العدوانية في مرحلة الطفولة، وذلك بجمع مجموعة أطفال لمشاهدة فيديو لشخص يلكم دمية، وقاموا بعد ذلك بوضع دمية مشابهة لتلك التي في الفيديو في غرفة لعب الأطفال، فقلّد الأطفال ما رأوه في الفيديو، أي أنهم قاموا بضرب الدمية وركلها ولكمها، بل لعبوا مع بعضهم البعض بشكل عدواني.

كما أن واحدة من المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الأطفال هي مشاهدة المواد التلفزيونية المعدة للكبار، فاستهلاك الأطفال للمواد الإعلامية الموجهة للكبار  يشكل خطورة فائقة على شخصيتهم بما تتضمنه من محتوى لا يناسب تطورهم العقلي.

 وفي تقرير نشرته مجلة اليونسكو حول دراسة يابانية تناولت تأثير وسائل الإعلام على الطفل، ذهبت الدراسة إلى أن فيض المعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام بشكل مكثف يؤثر سلباً على قدراتهم المختلفة ويعطل تطور ونضوج القدرات التأمّلية والإبداعية لدى الأطفال.

كما أكدت الدكتورة مادلين بورتوود (Madeleine Portwood)، عالمة النفس البريطانية أن: "مشاهدة الأطفال دون سن الخامسة للتلفزيون وألعاب الكمبيوتر توقف تطور المهارات البدنية والنشاط الذهني للأطفال، كما تقلل من وقت الانخراط في النشاط التخيّلي لديهم، وتعزز السلوك غير مناسب"، ومن ثم دعت للتقليل من ذلك قدر الإمكان.

والملاحظة المركزية هنا أن تعاظم تأثير وسائل الإعلام في الأطفال يأتي في ظل تآكل دور الأسرة والمدرسة كفاعلين أساسيين في العملية التربوية، ففي دراسة نشرتها وكالة رويترز لوحظ تراجع وانكماش دور الأسرة في تربية الأبناء بشكل ملحوظ، ليحل التلفزيون وسائل التواصل الاجتماعي محلها، وقد جاء فيها: بلغ تأثير وسائل الإعلام في الأطفال نسبة 34% ، بينما تأثير الوالدين في الأطفال يدور حول نسبة 32% ، في حين أن تأثير المدرسة فيهم لا يتجاوز 14%.

ومن ثم وفي السنوات الأخيرة بدأت تتصاعد التحذيرات لأجل التدخل لحماية الأطفال من مخاطر وسائل الإعلام، لقد توصلت دراسة طبية حديثة بكندا في عام 2018م إلى أن تقليل وقت تعرض الأطفال للشاشات لأقل من ساعتين يوميا يقود إلى تحسن السمات الإدراكية، كالذاكرة والانتباه وكذلك التأمل العميق وسرعة معالجة المعلومات وتحليلها ونقدها وتطور اللغة لدى الأطفال.

وها هي مارلينه موتلر، مفوضة الحكومة الألمانية لمكافحة الإدمان، تحذرنا من ظاهرة إدمان الأطفال لوسائل التواصل الاجتماعي، مشيرة إلى أن فرط استهلاك الأطفال لوسائل الإعلام يمكن أن يقود إلى إحداث اضطرابات بالغة في النمو، تقول موتلر:" الأطفال الذين يُسمح لهم بالدخول إلى العالم الرقمي بمفردهم يمكن أن يتعرضوا لأضرار جسيمة، كأن يعاني بعضهم من فرط النشاط أو عدوانياً، وصولاً لإدمان الإنترنت، ومن ثم يتعين على الآباء مشاركة الأطفال عند دخولهم هذا العالم الرقمي".

من أجل هذا عُقدت الكثير من الاتفاقيات لحماية الأطفال من تأثير وسائل الإعلام، فها هي الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل والتي صادقت عليها الدول العربية  تنص في المادة 17 على: " إن حق الطفل في الحصول على المعلومات والترفية والمشاركة لا يجب أن يتم بمعزل عن حقه في الحماية من وسائل الإعلام" .

كما نصحت الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال American Academy of Pediatrics   الآباء بمشاركة الأبناء  في مشاهدة وسائل الإعلام الإلكتروني، وأن يتأكدوا من أنها ذات محتوى جيد، مع ضرورة تخصيص أوقات خالية من المشاهدة خلال اليوم.

ونصت المادة(16) من ميثاق الشرف الإعلامي العربي على:"الحرص على حماية الأطفال والأحداث من المواد الإعلامية التي تتضمن مشاهد عنف، أو أنماطاً سلوكية غير سوية متنافرة مع القيم النبيلة" ، كما نصت المادة(20)على ضرورة عدم استغلال الطفل والمرأة في الحملات الإعلانية بشكل يسيء إليهما".

كما حدد المجلس القومي للأمومة والطفولة عشرة معايير لظهور الأطفال فى وسائل الإعلام، منها:" أن يراعي الإعلام حقوق الطفل الواردة بالدستور وبالقانون المصري والاتفاقيات الدولية، وتوفير أكبر قدر من الحماية من التعرض للإيذاء الجسماني والنفسي، وأن لا يتم استغلاله بجميع الأشكال بغرض الشهرة أو التربح بشكل يسيء للطفل، واحترام كرامة الأطفال"

وفي التحليل الأخير، فهذا هو الواقع الذي نحياه: أطفال تتملكهم براءة لا حدود لها وإعلام كذئب جائع يتربص بهم، فهل نتركهم كفريسة سهلة له أم نتخذ مجموعة من الإجراءات الحمائية؟

تلك الإجراءات التي يأتي على رأسها:

تحديد وقت مخصص لمشاهدة وسائل الإعلام المختلفة، يمكن تحديد ساعتين فقط في اليوم لاستخدام الوسائل الإعلامية، على أن يكون استخدام تلك الوسائل في مكان عام من المنزل وليس في غرف نوم الأطفال.

كما أن على الآباء تبعة انتقاء البرامج التي يمكن للطفل متابعتها سواء على شاشة التلفزيون أو على شبكة الإنترنت، ومحو ترددات تلك القنوات الإعلامية التي تبث العادات الخارجة عن تقاليد وقيم المجتمع، أو تلك التي تبث مشاهد القتل والعنف والجريمة، ومنع الأطفال من مشاهدة المواد الإعلامية المخصّصة للكبار.

ومن ناحية أخرى يتحتم تشجيع الطفل على ممارسة هواياته الفنية أو الرياضية دون تركه كل الوقت أمام تلك الوسائل الإعلامية.  

كما أنه من الضروري مشاركة الآباء للطفل في المشاهدة ومن ثم إجراء حوار معه ومناقشتة في مضمون ما يتم تقديمه من محتوى والاستماع إلى وجهة نظره، وتدريب الحاسة النقدية لديه، أي تنمية حاسة التفكير النقدي لدى الطفل، أي نقله، وكما يذهب الدكتور عبد الوهاب المسيري، من الموضوعية المتلقية الفوتوغرافية إلى الموضوعية الاجتهادية التأملية(للمزيد بهذا الشأن راجع كتاب: محمد عمارة تقي الدين: الإعلام ومعركة الوعي، تفكيك آليات الخداع الجماهيري، مركز الأهرام للترجمة والنشر).

كما أنه على المؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية تبعة صياغة محتويات إعلامية تناسب الطفل من شأنها التأكيد على الحس الجمالي وتنمية الخيال لديه وإثراء عقله بالمعرفة الحقيقية، وتنمية الثروة اللغوية لديه، وتنمية المشاعر الوجدانية داخله: مثل الشعور الديني أو الوطني وغيرها.  

وقبل هذا كله يتحتم تجذير الثقافة الوقائية في المجتمع، أي تثقيف الآباء حول الآثار السلبية لوسائل الإعلام الحديثة على أبنائهم وتدريبهم على سبل التفاعل معها وتجنب مخاطرها على الأطفال الذين هم رجال المستقبل.

كلمات دلالية

اخر الأخبار