وثيقة

نص كلمة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية لمركز الزيتونة للدراسات

تابعنا على:   17:49 2021-11-15

أمد/ غزة: النص الكامل لورقة إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، "رؤية حركة حماس للنهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني"، والتي قدَّمها في ندوة، عن بُعد، للمركز مساء الأربعاء 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.

وتأتي أهمية هذه الورقة في كونها إضافة مرجعية للفكر السياسي لحركة حماس؛ كما تأتي في أعقاب أحداث مفصلية على الساحة الفلسطينية تمثلت في تعطيل الانتخابات ومسار المصالحة الفلسطينية، وما رافقها من أزمة ثقة ومصداقية في قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية؛ وتمثلت كذلك في معركة سيف القدس التي أدت إلى تصدّر حماس للمشهد السياسي الفلسطيني، وتصاعد تيار المقاومة. كما قدَّم الأستاذ هنية هذه الورقة في بدايات التجديد للدورة الثانية لقيادته لحركة حماس.

وهو ما يصبّ في عمل مركز الزيتونة كمركز تفكير، يسهم في تجسير العلاقة بين القوى الفاعلة في العمل السياسي وصانعي القرار، وبين النخب الفكرية والثقافية والعلمية والمهتمين بالشأن الفلسطيني.

نرفق أدناه النص الكامل للورقة للاستفادة منها أو نشرها بالشكل المناسب لكم.

 رؤية حركة حماس للنهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني

التي قدمها رئيس المكتب السياسي للحركة الأستاذ إسماعيل هنية
في ندوة لمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021[*]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أعبر عن شكري وتقديري لهذه الدعوة من مركز الزيتونة، برسم أخي الدكتور محسن صالح، وأوجه التحية أيضاً للمركز ولدوره الريادي في إثراء النقاش الوطني في مختلف الملفات والمراحل، حيث شكّل رافداً مهماً إلى جانب العديد من مراكز الدراسات والبحث المعنية بشعبنا وقضيتنا ومنطقتنا.
وأرحب بالإخوة الأعزاء المناقشين والمشاركين في هذه الندوة، وأوجه التحية لكل أبناء شعبنا الفلسطيني سواء المرابطين داخل الأرض الفلسطينية المحتلة أم في خارج الوطن الذين ينتظرون ساعة العودة إلى أرضهم وإلى ديارهم، والتحية إلى كل أبناء الأمة وكل أحرار العالم.
كما أوجه التحية لأهلنا في القدس وخصوصاً في حي الشيخ جراح الذين عبّروا اليوم عن موقف وطني عروبي إسلامي برفضهم التسوية المزعومة من قِبل المحاكم الإسرائيلية، وبتمسكهم ببيوتهم وبملكيتهم لهذه الأرض الطاهرة المباركة، بما يؤكد تمسك وتشبث الشعب الفلسطيني بأرضه، وحقه، ويبرهن أن هذه الحقوق لا تضيع ولا تسقط بالتقادم، ولا يمكن لها أن تُسلَب تحت قوة النيران الصهيونية ولا البطش ولا الدعم السياسي الخارجي لهذا الكيان.
وحيث تتزامن هذه الندوة مع الذكرى الرابعة بعد المئة لوعد بلفور، بما يعطينا تحفيزاً مهماً في كيفية تناول موضوع يقع في جوهر القضية، وفي أصل مركبات الصراع مع الاحتلال الصهيوني.
وأود في البداية أن أرصد المتغيرات المهمة التي طرأت على الأوضاع داخلياً وخارجياً:

المتغيرات الراهنة:
فقد طرأت على الحالة الفلسطينية متغيرات عدة لها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على مجرى الصراع مع الاحتلال، إلى جانب تأثيرها على المشروع الوطني الفلسطيني، وأيضاً على تموضع مشروع المقاومة في قلب هذا الصراع، ونلقي الضوء على أربعة منها:
 المتغير الأول: إلغاء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني الفلسطيني الذي توافقنا عليه، بعد أن كنا على مسافة قصيرة جداً من صناديق الاقتراع، والدخول في خريطة طريق لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني وبناء النظام السياسي الفلسطيني من جديد.
وقد شكَّل إلغاء الانتخابات، تحت حجة عدم السماح الإسرائيلي لإجرائها في القدس، مأزقاً وطنياً حقيقياً، وأعادنا إلى المربع الأول مع التأكيد أنه لا أحد في الساحة الفلسطينية يوافق على إجراء الانتخابات بدون القدس، ولكن كنا نؤكد دائماً بأن إجراء الانتخابات في القدس معركة وطنية يجب أن نخوضها معاً، وأن نفرض فيها إرادتنا كفلسطينيين، ولدينا الكثير من الوسائل والطرق التي يمكن أن نقوم بها في هذا الموضوع.
المتغير الثاني: يتمثل في معركة سيف القدس، حيث شكّلت تحولاً مهماً جداً في مسار الصراع مع الاحتلال الصهيوني، وكشفت عن نتائج غاية في الأهمية، وفتحت قوساً واسعاً على أُفق رحب لشعبنا، ولأمتنا، ولكل أحرار العالم. فقد أكدت المعركة وحدة الوطن الفلسطيني على مستوى الجغرافيا من رفح حتى رأس الناقورة، ووحدة الشعب الفلسطيني على مستوى الفعل، وعلى قدرة المقاومة في ضرب نظرية الردع الإسرائيلية، كما أكدت أن القدس هي محور الصراع.
كما أعادت الاعتبار لقضية فلسطين في بُعدها العربي والإسلامي، وحتى العالمي، بعد السنوات العشر الماضية التي تراجعت فيها القضية في سلم أولويات شعوب المنطقة، بسبب الانشغال في الصراعات التي اندلعت في الإقليم.
المتغير الثالث: الانسحاب الأمريكي من أفغانستان. وعلى الرغم من أن أفغانستان بعيدة عن فلسطين في الجغرافيا، إلا أن قرار الانسحاب له تأثيراته على المنطقة وعلى القضية وعلى الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، فأمريكا دخلت قبل عشرين عاماً إلى المنطقة عسكرياً من بوابة أفغانستان، وبدأت بالخروج من المنطقة والانحسار عسكرياً أيضاً من أفغانستان، وهذا الانسحاب قد يعقبه انسحابات أخرى، خصوصاً من العراق أو شمال سورية، ولا شكّ بأن نتائج هذا الانحسار ستؤدي إلى تأثير واضح على حلفاء أمريكا في المنطقة، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني.
المتغير الرابع: محاولات الاختراق الصهيوني للمنطقة عبر بوابة التطبيع مع بعض الحكومات العربية، تنفيذاً لـ"صفقة القرن" ولمشاريع ما يسمى "السلام الإقليمي" أو "السلام الاقتصادي". ونشاهد اليوم محاولات لبناء تحالفات عسكرية وأمنية في المنطقة تتسيَّد فيها "إسرائيل" بحكم تفوقها العسكري والأمني والاقتصادي.
هذه المتغيرات الأربعة تحمل في طيَّاتها من الفرص والتحديات، وتفرض الكثير من المسؤولية التاريخية والوطنية علينا كفلسطينيين، لأننا أمام معادلات في غاية التعقيد والصعوبة، مما يفرض علينا العمل وفق رؤية شاملة، وناضجة، ومحددة، ترتكز على أصول الطهارة السياسية، والثقة بقدرة شعبنا على الانتصار في صراع الإرادات.

محاور الرؤية:
يمكن إجمال رؤيتنا لكيفية النهوض بالمشروع الوطني في أربعة محاور:
المحور الأول: رؤيتنا وتوصيفنا العام للواقع والمرحلة التي يتشكل بها الإطار الناظم لقضيتنا، وتتلخص في الأبعاد التالية:
البُعد الأول: قضيتنا هي قضية إسلامية، وذات ارتباطات بنصوص قرآنية وأحاديث نبوية، وهي حاضنة للمسجد الأقصى ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء ، فالقدس بوابة السماء، فتحها عمر رضي الله عنه وحررها صلاح الدين، وتخضبت بدماء الصحابة والتابعين، واحتضنت رفات القادة المجاهدين والمؤسِّسين لحركات الجهاد والمقاومة على مدار الصراع المفتوح مع المشروع الصهيوني. وبالتالي فهي قضية مقدَّسة لا تخضع ثوابتها وهويتها الإسلامية للمتغيرات، ولذلك تتحرك حماس وتتعامل مع المتغيرات والتحديات والفرص انطلاقاً من أساس رؤية ثابتة واضحة وجوهرية. 
البُعد الثاني: قضية فلسطين هي قضية وطنية وقضية عربية أيضاً، بالإضافة إلى كونها قضية إنسانية. وتتكامل فيها الدوائر الوطنية والعربية والإسلامية والإنسانية، وتنسجم وتتفاعل في مشروع التحرير والعودة دونما تعارض.
إن مستوى الصراع مع العدو الصهيوني هو من التعقيد والتداخل بحيث لا يستطيع فصيل لوحده أن يحسم هذا الصراع؛ سواء كان حركة فتح أم حماس أم غيرهما من الفصائل. وإذا قلنا إن طبيعة الصراع مع الاحتلال صراع حضاري، لكون الكيان الصهيوني يمثّل رأس الحربة للمشروع الغربي في المنطقة، فإن الفصائل الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية تشكّل رأس الحربة للأمة ولأحرار العالم.
البُعد الثالث: نحن في مرحلة تحرر وطني، فالشعب الفلسطيني ما زال في مرحلة التحرر من الاحتلال، ويسعى إلى إنجاز أهدافه في الحرية والعودة والاستقلال، وأي توصيف خارج عن هذا المعنى يُدخلنا، وقد أدخلنا، في إخلالات واضطرابات سياسية، لأن البعض اعتقد بأننا في مرحلة بناء سلطة على طريق دولة فلسطينية أو دولة تحت الاحتلال أو سلطة تحت الاحتلال، فقد اضطربت المفاهيم والبرامج والأهداف، وانعكست سلباً على الأداء السياسي والميداني.
البُعد الرابع: إن التناقض الرئيس هو مع الاحتلال، وإن كان بيننا كفلسطينيين خلافات وتباينات، أو تعارض في البرامج وفي الوسائل، وفي كيفية التعاطي مع المتغيرات والمستجدات، إلا أن حماس وقوى المقاومة وكل الوطنيين الشرفاء من أبناء شعبنا يرون العدو الرئيس لشعبنا هو العدو الصهيوني، ولا يرون أن الخلافات الداخلية بيننا يمكن أن تبدل معسكر الأعداء داخل الساحة الفلسطينية، إذ نحن الفلسطينيون شعب واحد على الرغم من الخلافات السياسية.
البُعد الخامس: مبدأ الشراكة ضرورة واجبة في بناء المؤسسات، سواء المؤسسات القيادية التمثيلية لشعبنا الفلسطيني، أم الشراكة في الحكم داخل مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، فسياسة الإقصاء لا يصلح اعتمادها في مراحل التحرر الوطني، فالكل الوطني مهم في معادلة ميزان القوة الفلسطينية، سواء كانوا فصائل أم شخصيات أم مؤسسات، ومشاركة الجميع أمرٌ ضروري في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
البُعد السادس: القضية الفلسطينية بحكم الدوائر المتداخلة فيها تؤثر وتتأثر بالبُعد الإقليمي والدولي، بل إن القرارات الدولية هي التي شكَّلت الأساس لبناء المشروع الصهيوني في المنطقة. على سبيل المثال نحن الآن في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، لدينا تاريخان يحملان أبعاد الظلم التاريخي الذي وقع على شعبنا، وهما ذكرى وعد بلفور المشؤوم، ثم ذكرى قرار التقسيم، لذلك لا نستطيع ونحن نسعى إلى النهوض في المشروع الوطني أن نغفل هذا البُعد، فنحن لسنا في جزيرة معزولة عن الواقع الإقليمي والدولي.
والأهم أيضاً هو كيفية بناء معادلات إيجابية في بُعدنا الإقليمي والدولي، وأن لا يكون ذلك على حساب الثوابت الوطنية الفلسطينية، لأننا تأثرنا بشكل أو بآخر سلباً في إطار العلاقات الرسمية مع بعض الدول في الإقليم وكذلك على المستوى الرسمي الدولي.
هذه الأبعاد، في توصيف الواقع والمرحلة في هذه المسألة، تتطلب القول بكل وضوح؛ أن شعباً تحت الاحتلال لا بدّ أن يعتمد استراتيجية المقاومة من أجل إنجاز التحرير، فليس هناك شعب على مدار التاريخ المعاصر استطاع أن يُحرر نفسه من المحتل بدون مقاومة شاملة بكل أشكالها، وعلى رأسها المقاومة العسكرية، خصوصاً وأننا نواجه احتلالاً استيطانياً إحلالياً، لا يُقر بوجود شعبنا وحقه بالعيش في وطنه، ونظريته معروفة "شعبٌ بلا أرض لأرضٍ بلا شعب". هذا احتلال إحلالي استيطاني قائم على الطرد والتهجير، وعلى مفهوم ما يسمى "يهودية الدولة"، و"دولة لكل اليهود"، أي "يهودية الدولة" بمفهومها القانوني، و"دولة لكل اليهود" بمعنى أن كل يهودي في العالم يمكن أن يعيش داخل هذه الدولة.
هذه الأبعاد في توصيف الواقع من كل جوانبه مهمة جداً في معرفة أبعاد المشروع الوطني، والتحديات التي تواجهه، وكيفية التعامل معها، وتحديد مقومات النهوض، فهذه عناصر مركبة بعضها على بعض لا نستطيع أن ننزع أي عنصر بعيداً عن الرؤية الشمولية، لأن مشروعاً فلسطينياً بهذا الحجم والتعقيد لا يمكن إطلاقاً أن نعالجه من خلال رؤية محدودة أو مجتزأة، بل من خلال رؤية متكاملة ونظرية متكاملة الأركان.
 
المحور الثاني: التحديات:
كل الأجيال والقيادات والفصائل الفلسطينية تدرك طبيعة المشروع الوطني الفلسطيني، والتحديات المحيطة به منذ نشأته، ولكن الاستعصاء الذي نواجهه اليوم يستوجب البحث في الأسباب التي أدخلت المشروع الوطني الفلسطيني في المأزق الراهن.
هناك الكثير من العوامل التي أدت إلى هذا المأزق، وقد بدأَتْ منذ الحديث عن برنامج النقاط العشر سنة 1974 والحديث حينذاك عن السلطة المقاومة، منذ ذلك الوقت تمّ وضع اللبنات الأولى للدخول في وضع مختلف بشأن المشروع الوطني الفلسطيني، وصولاً الى اتفاق أوسلو، بما أدى إلى الكثير من الانهيارات والتراجعات الخطيرة. ومع أننا لا نُسقط الصفحات المضيئة، من تاريخ الثورة الفلسطينية والصمود في بيروت وفي لبنان، والانتفاضة الأولى والثانية، ولكن الحقيقة المؤلمة أن اتفاقيات أوسلو شكّلت المدخل الحقيقي للحصاد المر الذي وصلنا إليه. وقد ترتب على ذلك خمسة تحديات كبيرة جداً شكّلت مظاهر التراجع في المشروع الوطني الفلسطيني:
التحدي الأول: وقوع خلل سياسي كبير انعكس على المفاهيم ومفردات المشروع الوطني؛ فلسطين التاريخية، حق العودة، الأرض وحدود الدولة الفلسطينية، المقاومة، الكفاح المسلح، فقد اضطربت هذه المفاهيم بعد أوسلو كما اضطربت الأهداف الوسائل، ووظيفة السلطة. كل ذلك أدخل القضية في متاهات، ووقع بسبب ذلك خلل كبير عانت وما زالت تعاني منه الساحة الفلسطينية.
الآن عن أي أهداف نتحدث؟! ما هي الثوابت الوطنية التي تشكل القاسم المُجمع عليه؟! ما مفهومنا للدولة وحدود الدولة؟! ما مفهومنا لآليات التعامل مع هذا الاحتلال؟! هذه السلطة هل هي حقاً كما يُقال بأنها سلطة على طريق إقامة الدولة، أم أنها تحوَّلت بشكلٍ أو بآخر إلى سلطة وظيفية، يرضى عنها هذا الاحتلال وتقبل بالتعامل الأمني معه.
لقد وقعنا في خلل سياسي واضطراب سياسي كبير، انعكس ذلك على الأداء والسياسات والعلاقات أيضاً، وانعكس ذلك سلباً على التضامن الخارجي معنا، وبدأنا نسمع مقولات من قِبل "نقبل بما يقبل به الفلسطينيون"، ثم ما نراه من جرأة باتجاه الاعتراف بالكيان الإسرائيلي أو التطبيع معه، وأخيراً الحديث بأن تكون دولة الاحتلال عضواً مراقباً في الاتحاد الإفريقي.
التحدي الثاني: تغييب نصف الشعب الفلسطيني، ممثلاً في الشعب الفلسطيني في الخارج وأهلنا في فلسطين المحتلة 1948، عن معادلة الصراع ومشروع التحرير والعودة؛ وبدا وكأن القضية الفلسطينية باتت قضية الأهل في الضفة الغربية وقطاع غزة. وعند الحديث عن الانتخابات والحكومة صار يقصد بها لدى قيادة المنظمة والسلطة الانتخابات التشريعية والحكومة في الضفة والقطاع. أما الشعب الفلسطيني في الخارج فمنذ أوسلو جرت محاولات شطبه لدى القيادة الرسمية من معادلات مشروع التحرير والعودة، والخطورة فيما يترتب على ذلك من محاولة لشطب حقّ العودة. ومن المؤكد أنه لا يمكن لأي مشروع وطني فلسطيني أن ينهض بدون التكامل في الأداء بين الداخل والخارج، فالطائر الفلسطيني لا يمكن أن يحلق بجناح واحد.
التحدي الثالث: هو تراجع دور المؤسسة القيادية للشعب الفلسطيني متمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، إذ اختُزلت المنظمة في السلطة الفلسطينية. وبدلاً من أن تكون منظمة التحرير هي مرجعية السلطة، فقد حصل العكس وأصبحت ميزانية المنظمة بالكامل جزءاً من ميزانية السلطة الفلسطينية، أو مكتب الرئاسة الفلسطينية. وتمّ تغيّيب وإضعاف المؤسسة القيادية التمثيلية لشعبنا الفلسطيني، واستدعاء اجتماعاتها فقط لتمرير مشاريع داخلية أو خارجية.
التحدي الرابع: هو تراجع دور المقاومة كخيار استراتيجي في عقل القيادة الفلسطينية، والتي وضعت خياراتها كلها في سلة واحدة هي سلة المفاوضات والالتزام بما يسمى "السلام" كخيار استراتيجي، وادّعاء التعاون الأمني "مقدس"!!، واعتبار الانتفاضة والمقاومة والصواريخ "عبثية"!! نعم تراجعت المقاومة في عقل القيادة الفلسطينية، وليس في عقل الشعب الفلسطيني، ولا حتى قواعد حركة فتح الذين نحن وإياهم متواجدين على قاعدة ورقعة واحدة في المقاومة، وفي الانتفاضة، وفي السجون، والمعتقلات، والشهداء، والجرحى، وفي مواجهة الاستيطان ومواجهة الحصار، وفي الحروب، وزاد الطين بلّه أن القيادة عجزت عن المزاوجة بين العمل السياسي والمقاومة، وصرنا كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح.
التحدي الخامس: أنه ونتيجة للإخفاقات السابقة، فقد أدى ذلك إلى تراجع مستوى التضامن مع القضية الفلسطينية، بل إن البعض تجرأ على التطبيع، وعلى الاعتراف بالكيان وتبادل السفراء معه، متذرعين بأن الفلسطيني نفسه قَبِل بذلك وتنازل عن 78% من أرض فلسطين، وقَبِل بأن تعمل الأجهزة الأمنية في إطار التعامل مع الاحتلال، وأن تواجه المقاومة، وأن تفرض عقوبات على غزة بالرغم من أنها القاعدة الصُلبة والرصيد الاستراتيجي للمقاومة وللشعب الفلسطيني.
 
المحور الثالث: نقاط القوة:
السؤال الذي أمامنا أيضاً؛ هل هذه الصورة وهذه النظرة هي لهذه الدرجة سوداوية؟ بالتأكيد لا، فنحن نملك الكثير من عناصر القوة نركز على أربعة عناصر منها:
أولاً: على رأس هذه العناصر الشعب الفلسطيني؛ هذا الشعب العظيم المؤمن المرابط الذي لم يكل ولم يمل من المقاومة ومن الصمود ومن الثبات، قدَّم مئات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، إلى جانب البيوت المدمرة، وملايين اللاجئين، والمجازر التي ارتُكبت، ومحاولات التهويد وطمس الهوية، وقتل إرادة الشباب والجيل الفلسطيني... كلها باءت بالفشل في تركيعه أو تغيير إصراره على أهدافه وحريته.
هذا الشعب خزان الثورة، والقيادات، وخزان المقاومة وحاضنتها، والذي كلَّما اعتقد الاحتلال والمهرولون خلفه أنه تعب وغير قادر على العطاء والاستمرار، ينتفض مجدداً كطائر العنقاء ومن تحت الركام يُفجّر الانتفاضة تلو الانتفاضة، والثورة تلو الثورة، ويخوض الحروب، ويسجل صفحات مضيئة في تاريخ الصراع مع الاحتلال. واليوم الشعب الفلسطيني لم يضعف لديه الاستعداد والجهوزية لمواصلة المشوار.
ثانياً: قوة الحق الذي نملكه ونعتقده، والعدالة، فشعوب العالم اليوم وأصحاب الضمائر الحرة، هي نصير العدالة السياسية والاجتماعية والحقوقية والقانونية، وقد رأينا في معركة سيف القدس كيف خرجت جماهير العالم من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوروبا، وإلى آسيا وأستراليا متضامنة مع الشعب الفلسطيني ومع القدس ومع المقاومة، هذا الحق هو الذي يجدد فينا دائماً القدرة والأمل وعدم اليأس، ويجدد فينا الاستمرار والديمومة، نحن أصحاب حق، والحق أبلج، والباطل لجلج، ولا يمكن إطلاقاً لباطل الاحتلال أن يغير الحقائق السياسية والتاريخية والجغرافية لهذه الأرض، فلسطين المكان والمكانة والتمكين.
ثالثاً: الجغرافيا السياسية؛ إذ إن البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين هي بيئة حاضنة، بالرغم من أنه أحياناً يكون هناك صعود وهبوط وارتفاع، لكن السياق الرئيس لهذه البيئة الاستراتيجية حاضنٌ للشعب الفلسطيني، وللمقاومة، والانتفاضة، والحقوق الفلسطينية الكاملة.
ثالثاً: عنصر المقاومة؛ وقد رأى العالم قدرة الشعب الفلسطيني حينما تملك المقاومة المحاصرة في غزة صواريخ تصل إلى كل شبر من جغرافية فلسطين المحتلة، علينا أن نُدرك هذه القدرة في بناء نظرية الردع للاحتلال، فعلى الرغم من أن الاحتلال يملك الجيش الأقوى في المنطقة، إلا أنه لا يقوى أن يتخذ قراراً بأي عملية برية في غزة، والشعب الفلسطيني كله بمقاومته الشعبية والسياسية والقانونية والمدنية والعسكرية والإعلامية يثبت نفسه على الخريطة، والمقاومة اليوم تتحضر لمعارك التحرير وكنس المحتلين.

المحور الرابع: عناصر النهوض بالمشروع الوطني الفلسطيني:
ما بين التحديات ومظاهر المأزق، وما بين الفرص وعناصر القوة، نحن قادرون أن نبني، وأن ننهض بمشروعنا الوطني الفلسطيني. وعلى الرغم من أن الاحتلال متفوق عسكرياً، وأمنياً إلا أنه أيضاً يعيش في مأزق؛ فالحكومة الإسرائيلية حكومة هشة، والبنية السياسية في المجتمع الصهيوني غير متجانسة، والمكونات الحزبية اليوم ليست هي المكونات الحزبية لمراحل التأسيس، بمعنى أننا ونحن نفكر في استعادة مفردات المشروع الوطني والنهوض به، إنما ننطلق من موقع الاقتدار، وليس فقط من موقع الشعور بالمأزق وبالأزمة، ونعمل لنرسم الأمل الواقعي لشعبنا.
لذلك نرى أن هناك سبعة عناصر للنهوض بالمشروع الوطني:
العنصر الأول: هو إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني بثوابته وأهدافه، باعتباره مشروع تحرير وعودة ودولة، والسيادة الكاملة على كامل التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس، وتحرير الأسرى من سجون العدو.
ومن هنا يجب الاتفاق على الأهداف والثوابت، وأن لا تضل البوصلة من جديد، ونقول كفى لمرحلة التيه السياسي والبراجماتية السياسية التي تكون على حساب الثوابت وعلى حساب الأهداف.
وحماس إذ تعيد تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، فهي تؤكد على الهوية العربية والإسلامية لفلسطين، وتستحضر المكان والمكانة لفلسطين، وموقعها في موروثات الأمة الخالدة، ونظرتها لحقّها المقدس في كل أرض فلسطين.
العنصر الثاني: هو إعادة تشكيل القيادة الوطنية الفلسطينية متمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، على أسس سياسية وإدارية جديدة تكفل مشاركة جميع القوى والفصائل، وتؤمن مشاركة شعبنا الفلسطيني في الداخل وفي الخارج. ونحن لا نطرح بديلاً عن منظمة التحرير، ولكننا نتكلم عن كيفية إعادة بناء المنظمة، ولذلك نحن قبِلنا بالانتخابات كمدخل لتشكيل المجلس الوطني حيثما يمكن إجراء الانتخابات، والتشكيل بالتوافق حيثما تتعذر الانتخابات. ونرفض ما يجري من استفراد بالقيادة؛ فلا معنى لقيادة فلسطينية لا تضم حماس، ولا الجهاد إسلامي، ولا الجبهة شعبية، ولا أذرع العمل المقاوم الجهادي، ولا شخصيات مستقلة.
نحن جاهزون للدخول فوراً في عملية حقيقية لإعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء قيادة فلسطينية موحَّدة تتبنى إدارة المراحل القادمة للشعب الفلسطيني. وإلى حين إنجاز مشروع المجلس الوطني، والانتخابات، وإعادة بنائه، يمكن أن نشكِّل القيادة الوطنية لفترة مؤقتة متمثلة بالإطار القيادي الفلسطيني المؤقت أو الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية.
العنصر الثالث: التأكيد على أن القرار الوطني الفلسطيني المستقل لا يمكن أن يؤخذ تحت الاحتلال عبر اجتماعات هلامية لمؤسسات السلطة أو المنظمة، ولا بدّ من تحرير الإرادة الفلسطينية من قبضة المحتل لضمان القرار الوطني المستقل.
ومن هنا، فإننا نؤكد على إعادة تعريف السلطة، وتغيير دورها الوظيفي ليكون رافعة للمشروع الوطني وليس غطاء للاحتلال، وألَّا تكون عقبة في وجه المقاومة، أو قاطعة طريق أمام الأجيال القادمة لحسم الصراع التاريخي مع العدو الصهيوني.
العنصر الرابع: الاتفاق على برنامج سياسي للمرحلة الحالية، من خلال القواسم المشتركة وبالعودة إلى الاتفاقات التي وقَّعناها، سواء اتفاقية القاهرة 2011، أم وثيقة الأسرى، أم برنامج حكومة الوحدة الموقَّع في مكة؛ بحيث يشكل كلّ هذا إرثاً سياسياً نستطيع من خلاله أن نتوافق على برنامج سياسي للمرحلة الحالية؛ مع وجوب استناد هذا البرنامج على الثوابت غير القابلة للتصرف، بحيث يحقق مشاركة الجميع من خلال إطار هذا البرنامج، وأن نُوجد للجميع مكاناً في هذا البرنامج السياسي للمرحلة الحالية.
العنصر الخامس: الاتفاق على استراتيجية نضالية كفاحية، وإدارة مشروع المقاومة ضدّ الاحتلال، بما في ذلك المقاومة الشعبية، والمزاوجة بين العمل الديبلوماسي والمقاومة، والاتفاق على إدارة القرار المتعلق بالمقاومة والعمل السياسي. وقلنا دائماً أننا مستعدون وبشكل فوري في الضفة الغربية للدخول في مشروع مقاومة شعبية، تتطور إلى انتفاضة وإلى عصيان مدني، وأن تتطور إلى كل أشكال المقاومة.
العنصر السادس: إعادة الاعتبار لقضيتنا الفلسطينية ولمشروعنا الوطني الفلسطيني في بعده الإقليمي عربياً وإسلامياً، باعتبار ذلك هو العمق الاستراتيجي للقضية والشاهد التاريخي على أحقية شعبنا وأمتنا في أرض فلسطين وقدسها المباركة، وهو المنطلق للتحرير الشامل عبر وحدة الجبهات، وامتلاك مقومات النهوض، وانخراط الأمة في المشاركة المباشرة في مشروع التحرير.
العنصر السابع: البُعد الدولي؛ إذ يجب استثمار البُعد الدولي للقضية الفلسطينية في إطاره الإيجابي على المستوى الرسمي والشعبي وخصوصاً حالة التضامن المتزايدة مع الحق الفلسطيني، وتطوير العلاقات مع مختلف الدول والمؤسسات ذات العلاقة، والعمل على تفعيل الجهود الفاعلة ضدّ الاحتلال، مثل حركات المقاطعة مع الاحتلال، وفعاليات التضامن مع شعبنا، والمؤسسات الحقوقية والإنسانية، وبناء الجسور مع الأحزاب، والشخصيات الدولية الفاعلة لإيصال الصورة الفلسطينية لها على أفضل وجه، ودفعها للتحرك لرفع الظلم التاريخي عن شعبنا الفلسطيني.   
هذه سبعة عناصر تُشكّل روافع لمشروعنا الوطني الفلسطيني، وانطلاقاً لاستعادة زمام المبادرة ومواجهة الاحتلال ومشاريعه لتصفية القضية أرضاً وشعباً.
ختاماً، على الرغم من كل التحديات المحيطة، فإنني كرئيس لحركة المقاومة في فلسطين حركة حماس، ومن موقعي كمواطن فلسطيني أنا متفائل بالمستقبل، وكثير من الأمور يمكن أن تكشف عنها طبيعة المراحل القادمة بإذن الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

كلمات دلالية

اخر الأخبار