لم تضف زيارة جون كيري الأخيرة لمصر كثيرا فيما يتعلق بقضايا الخلاف التي اعترت العلاقات المصرية الأمريكية طوال الأشهر الماضية وإن حاولت احتواء غضب القاهرة من توجهات إدارة أوباما وانتهت بإحالة الأمر إلي لجنة الحوار الاستراتيجي لتحديد مستقبل هذه العلاقات.
وقبلها عكست جلسة الاستماع التي عقدت أخيرا بالكونجرس حول الأوضاع في مصر والسياسات الأمريكية حيالها قد اظهرت مدي الاختلاف في وجهات النظر بين نوابه سواء من الجمهوريين أو الديمقراطيين.
فعلي الرغم من الانتقادات السابقة التي وجهها بعضهم لما حدث في مصر بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي و مطالبتهم بمراجعة برنامج المساعدات الأمريكية المقدمة للقاهرة خاصة في شقها العسكري, وهو ما تم جزئيا بالقرار الذي اتخذته ادارة أوباما في التاسع من الشهر الماضي بتعليق جزء من تلك المساعدات السنوية وربطها بمدي التقدم في خريطة الطريق السياسية, إلا أنه في الجلسة الأخيرة علت ــ علي العكس ــ أصوات أخري منتقدة هذا القرار مغلبة المصالح الأمريكية في استقرار العلاقات مع مصر لكونها ركيزة أساسية لاستقرار الأوضاع في المنطقة وللحفاظ علي السلام مع اسرائيل, فضلا عن مواجهة عمليات الارهاب في سيناء وغيرها من أسباب معروفة, ولكن ربما ما يعد جديدا هو الحديث صراحة عن اخفاق حكم الاخوان في تحقيق الحد الأدني من الرضاء الشعبي حيث أشيرالي أن الرئيس السابق انتخب بشكل ديمقراطي الا أنه حكم باسلوب استبدادي وهي شهادة و ان جاءت متأخرة, الا أنها حملت انتقادات مباشرة للادارة لاحجامها عن الضغط علي النظام السابق لتعديل المسار الديمقراطي مثلما تفعل اليوم. ونفس الشيء ينطبق علي الصحف الأمريكية التي عكست بدورها تباينا واضحا حول العلاقات المصرية الأمريكية.
والواقع أن هذه التباينات في وجهات النظر لم تعد تقتصر علي مصر بل امتدت الي مجمل سياسات أوباما في الشرق الأوسط سواء تجاه ايران أو سوريا وحزب الله أو السعودية والخليج. فليس خافيا أن سياساته المتأرجحة تجاه سوريا من دعم سابق للمعارضة المسلحة مدعوما بدور تركي وسعودي ومطالبة باسقاط نظام بشار, الي مجرد القبول بالمبادرة الروسية لنزع الأسلحة الكيماوية, والذي تزامن مع اتباع سياسة جديدة للتقارب مع ايران بعد التعبئة العالية ضدها علي مدي سنوات مضت قد زاد من حدة الجدل الامريكي الداخلي, فضلا عن اغضابه كثيرا من حلفاء الولايات المتحدة الاقليميين بسبب التحول والانقلاب في المواقف. ولا شك أن اعتذار السعودية الأخير عن عدم القبول بمقعد مؤقت في مجلس الأمن بعد فوزها بالمنصب, كان رسالة قوية من حليف اقليمي قديم بأن سياستها لم تعد ترضي حلفاءها وليس فقط خصومها وتعبيرا عن غضب من سياسات واشنطن سواء تجاه ايران أو سوريا أو مصر أو فيما يتعلق بسباق التسلح في المنطقة.
هذه الأمثلة وغيرها هي دلالة واضحة علي أن أمريكا لم تعد لديها سياسة واضحة او متسقة حيال كل أزمة علي حدة, اذ لم يعد لديها نمط محدد يمكن التنبؤ به وهو ما يجعل ايقاعها سريعا ومتغيرا مما يربك المشهد السياسي والأمني الاقليمي. وهذا يعني أن علاقاتها بحلفائها ستتعرض للصعود والهبوط والشد والجذب وهو ما ينطبق علي علاقاتها بمصر. والسؤال هنا علي ماذا يراهن أوباما بقراره الاخير تعليق جزء من المساعدات العسكرية بعد30 يونيو؟
ربما تكمن الاجابة الأولية في كون هذا القرار يدخل في اطار ممارسة الضغوط الجزئية أو المؤقتة( تعليق و ليس وقفا, جزء وليس كل المساعدات) وبالتالي فهو مازال يحافظ علي مجمل العلاقات علي مستويات أخري, وهو ما تأكد علي سبيل المثال بتصريح الادارة برغبتها في استمرار الدعم والتعاون في سيناء هذا من ناحية, ومن ناحية أخري قد يكون الرهان علي كون الولايات المتحدة هي المصدر الرئيسي للحصول علي السلاح في مصر منذ ما يزيد علي أربعة عقود, وأن تعويض هذا الأمر لن يكون سهلا أخذا في الاعتبار أن هذا التعاون لا يقتصر علي شراء السلاح وانما يشمل ايضا عمليات التجديد والتحديث و قطع الغيار والتدريب الذي يتم بشكل مباشر من خلال البعثات العسكرية الدورية أو المناورات المشتركة كمناورات النجم الساطع, كذلك فان الحصول علي السلاح الأمريكي من خلال طرف ثالث هو بدوره أمر تحده قيود عديدة وفقا للقوانين الأمريكية التي تفرض شروطا علي الدول التي تورد اليها السلاح والمعدات العسكرية بحيث لا يحق لها اعادة بيعه أو توريده الي دولة أودول أخري. وهو ما ينطبق علي دول الخليج علي سبيل المثال التي تعتمد بشكل أساسي علي التسليح الأمريكي ولكنها لا تملك اعادة بيعه بموجب الاتفاقيات المبرمة مع الولايات المتحدة.
والقول نفسه ينطبق علي أوروبا ثاني أكبر مورد للسلاح علي مستوي العالم والحليف التقليدي لأمريكا التي تتمتع بنفوذ كبير في تلك القارة بحكم التحالف العسكري الذي يربطهما من خلال حلف الناتو بحيث يصعب علي اي دولة تختلف مع واشنطن أن تعتبر أوروبا بديلا.
وفي نفس السياق فان أي سوق للسلاح في العالم يعد متأخرا تكنولوجيا عن مثيله الأمريكي. و يضاف الي تلك الرهانات ما تتمتع به أي أمريكا من تأثير ضخم علي المؤسسات المالية الدولية التي تقدم المنح والمساعدات والقروض للدول النامية.
ورغم ذلك فان مصر تستطيع حال استمرار الخلاف مع واشنطن توفير المصادر المالية التي تفتح أمامها مجالات تنويع مصادرالحصول علي السلاح وهو ما حدث من خلال المساعدات السعودية والدول الخليجية الأخري( الامارات والكويت) بحيث تتمكن من التعامل مباشرة مع أي طرف دون الحاجة الي طرف ثالث يعقد لها صفقات السلاح. كما يمكنها أيضا التوجه شرقا( روسيا) وهو توجه بدأت ملامحه تتشكل بالفعل بالانفتاح علي تلك الدولة المهمة, ولا شك أن الزيارات المتبادلة بين موسكو والقاهرة وآخرها زيارة رئيس المخابرات الروسية لمصر تحمل دلالة خاصة في هذا السياق.
ولذلك, وبصرف النظر عن المسار الذي ستتخذه العلاقات المصرية الأمريكية, فان التوجه الأخير يظل مهما حتي وان احتاج لجهد وسياسات طويلة الأمد, أما وان بقي تغير طاريء واستثنائي في السياسة الخارجية المصرية لمواجهة الضغط الأمريكي, فان مضاره قد تكون اكبر من فائدته فالأمر في النهاية هو خيار سياسي.
عن "الأهرام"