عن السياسي ورجل الدولة في الفضاء العام

تابعنا على:   18:02 2021-08-24

د. منتصر جرار

أمد/ الدول تنهض برجال الدول، والأحزاب تنجح برجال السياسة، والحكومات تحتاج الإثنين معا، بهذه العبارة أود أن أبدأ هذا المقال الذي سيتحدث عن مصطلح رجل الدولة، والذي سأحاول من خلاله تقديم مقاربة حول الصفات الرئيسية التي يجب أن تتوافر في رجل الدولة، والفرق بينه وبين رجل السياسة. وما المطلوب لإيجاد رجال دول قادرين على حماية الدول ومصالحها ومصالح شعوبها.

عندما كتب أفلاطون عن رجل الدولة، لم تكن الدول في عصره أكثر من مجموعة مدن صغيرة، إلا أن تأكيده على ضرورة امتلاك المعرفة بطبيعة المهمة التي يؤديها المسؤولون ظل قائماً، إلى أن ترسخ مفهوم رجل الدولة في أوروبا مع ميلاد وتطور الدولة القومية الحديثة. فقد بدأ مجموعة من الرجال منذ مطلع القرن السابع عشر في إعادة تشكيل وعي رجال الدين ورجال المال والأعيان بصفة خاصة حتى يكونوا رجال دولة إما بأن يبتعدوا عن السياسة إن لم يكن لديهم وعي بالمصلحة العامة أو أن يكتسبوا تلك المعرفة حتى يتحملوا المسؤولية مقدمين مصلحة الدولة على مصلحة أي كيان آخر خاص بهم.

هناك حالة من التداخل بين مصطلح رجل الدولة ورجل السياسة، وفي الحقيقة أن رجل الدولة يختلف كثيراً، بل جذرياً عن رجل السياسة، فالأول هو من أتقن فنون السياسة ووضع نصب عينيه مصالح دولته وشعبه، وهو الذي سخر كل قدراته وخبراته وإمكانياته لحماية وطنه وشعبه وتقديم كل شيء ممكن من أجل الحفاظ على ازدهاره، وبمعنى آخر فإن رجل الدولة هو رجل السياسة الذي يتمتع بكل القيم العليا للدولة. أما رجل السياسة فيكون له مسار مختلف، يسلك طريقاً جماهيرياً، يبدأ بمجالس الطلبة، ثم النقابات، ثم الأحزاب، ويظل هكذا خارج مؤسسات الدولة حتى يصل الى السلطة، فيمارسها لمصلحة دينية أو حزبية أو طائفية أو شخصية، وهو بذلك يكون مرتبط بشكل مباشر بأيدلوجية حزبه ومنابع تمويله، ويفتقد كثيراً مهارات وقدرات رجل الدولة.

لذلك نجد في الديمقراطيات الغربية عملية تبادل الأدوار مذهلة، ففي فترات الانتخابات يظهر رجل السياسة، وعندما يصل الى سدة الحكم يصبح رجل دولة. أما في العديد من الدول العربية خصوصاً التي تشهد صراعات أهلية متنوعة لا نجد إلا رجال السياسة، ويغيب عنها رجال الدولة، وحتى إذا جاء رجل السياسة من حزب معين فإن العقبات التي توضع أمامه لا تنتهي بسبب المنافسة الشديدة داخل الحزب نفسه أو عدم تقبله من الأحزاب الأخرى نتيجة صراعات أو انقسامات سياسية أو حتى بناء على تدخل وتأثير بعض دول الإقليم على الدولة ومركباتها. من هنا يجب على شعوب الدول العربية التي مرت بها أعاصير ما سمي بالربيع العربي، أن تعيد الاعتبار لرجال الدولة، وتتخلص في هذه المرحلة من رجال السياسة، لكي تعود المصلحة القومية العربية، وتنتهي الحقبة السوداء والمتمثلة في التطبيع العربي من التاريخ العربي.
والسؤال هنا إذا كان تقييم أداء رجال السياسة في مجتمعاتنا العربية على ضوء ما تقدم وعلى أساس شخصيتهم والظروف التي عملوا فيها، هل نجد سياسياً تمكن من لعب دور السياسي ورجل الدولة في آن واحد، ويمكننا ان نسميه برجل الدولة الحقيقي؟ ما هي مواصفاته؟ وما هو دور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني للحفاظ عليه ودعم توجهاته واستراتيجيته؟ وهل من الممكن صناعة وتأهيل رجل الدولة؟

إن تقديم المصلحة العامة للدولة على المصلحة الشخصية، وتحقيق النجاح والتقدم والازدهار، وحفظ الأمن القومي للدولة، والارتقاء بها إلى أعلى المستويات، وامتلاك رؤية واضحة لما يمكن أن تصبح عليه على المدى القصير والطويل لهي مؤشرات قوية تميز رجل الدولة، عن رجل السياسة. وبشكل أو بآخر يتجنب رجل الدولة الحملات الإعلامية والاندلاق الإعلامي بوجه الخصوص، ويركز بشكل مباشر على الكلمة المكتوبة وأسلوب إلقاءها وفن خطابتها على الجماهير، ولربما ابحاره بالتاريخ الوطني وقوة تركيزه على قراءة التاريخ سيجعل منه فيلسوفاً قادراً على اقناع الجماهير وبذكاء بحجته واستراتيجيته.

إن عملية صناعة وبناء رجل الدولة تبدأ بتعزيز وعيه وصقل شخصيته، وذلك بغرس مفاهيم الدولة والامن القومي في وعي الأشخاص المؤهلين لتولي مناصب مهمة في الدول هو من أهم مقومات الخروج برجال دولة أقوياء، ويأتي هذا بشكل مباشر في التدريب المكثف والدقيق في كافة المجالات السياسية والقانونية والاقتصادية في مراكز الأبحاث والتفكير

الاستراتيجيThink- Thanks  ومن ثم يتم صقل شخصيته سياسياً وثقافياً بحيث تتعمق الهوية والانتماء من خلال دوائر التعبئة الفكرية والتدريب في الأحزاب السياسية.إن صناعة رجال الدولة هي الصناعة الأولى ، لكنها لن تتم إلا بفتح المجال العام لصقل المهارات وبناء القدرات، ووقت أن يكثر رجال الدولة ستستطيع الدول العربية تفادي أكثر الأزمات الحادة التي تعصف بها.
وهنا لا بد من الإشارة أن هناك شخصيات كثيرة وكبيرة في التاريخ ساعدتهم الظروف الملائمة ليصبحوا رجل الدولة وان ينقذوا وطنهم وشعبهم من ويلات أزمات كبيرة، وجعل مستقبل أفضل ينتظرهم، وأصبحوا أنفسهم رمزاً وطنياً يحتفى بهم، لأنهم تمكنوا كسياسيين وفي نفس الوقت كرجال الدولة من وضع بصمة إصبع في تاريخ وطنهم وشعوبهم، وباختصار شديد فإن رجل الدولة هو السياسي الذي يضع نفسه في خدمة الأمة، بينما السياسي هو من أسمى نفسه رجل دولة ووضع الأمة في خدمته! وباختصار فإن الجنرال العظيم لم يأت عظيماً لولا الانتصارات الكبيرة!

كلمات دلالية

اخر الأخبار