سيزيف الفلسطيني

تابعنا على:   11:34 2021-08-08

نهاد أبو غوش

أمد/ للقضية الفلسطينية معضلة ملازمة لها منذ عقود، وهي الفجوة الواسعة بين التضحيات الهائلة التي يقدمها الشعب والمعاناة الرهيبة التي يكابدها الفلسطينيون في مختلف أماكن وجودهم من جهة، وبين المحصلة البائسة والإنجازات الهزيلة التي تتحقق نتيجة نمط استثمار التضحيات والإدارة السياسية لنضالات الشعب. وحتى لا نفرط في العموميات ها نحن الآن وسط  حالة نموذجية في الدلالة على هذه المعضلة وتمثيلها خير تمثيل: فبعد مواجهات باب العامود والأقصى والشيخ جراح وسلوان في القدس والحرب الرابعة على غزة، وما تخلل الأحداث من وحدة وطنية لا سابق لها بين كل فئات الشعب الفلسطيني وأداء نضالي مميز للمقاومة وحاضنتها الشعبية، وعودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العالمي. بعد كل ذلك بأسابيع، عدنا للمربع الأول وسرعان ما انخفض سقف مطالبنا الذي وصل إلى عنان السماء، ثم تراجعت من العناوين السياسية الطموحة إلى  المطالب الحياتية اليومية المباشرة: مساحة الصيد البحري وتصاريح عمل وضريبة البلو وما إلى ذلك،  وعودة الأمور الأمور إلى ما كانت عليه. وهكذا تتكرس قناعة فظيعة مفادها أن المراحل السابقة من عمر الاحتلال أحسن بكثير من المراحل اللاحقة، ويصل البعض بسذاجة أحيانا وبخبث في أحيان أخرى، إلى تحميل الانتفاضة الأولى ثم الثانية والنضال الوطني بشكل عام، مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع من تراجع.

كثير من الأدباء والنقاد شبهوا سيرة حياة الفلسطيني المعاصر بسيزيف، رمز العذاب الأبدي الذي حكمت عليه الآلهة الاغريقية بالشقاء السرمدي، وأن يواصل رفع صخرة هائلة من أسفل الوادي إلى قمة الجبل، وما أن يوشك على الوصول حتى تتدحرج الصخرة من جديد، لتتجدد معاناة سيزيف ومحنته، كذلك هو الفلسطيني يخوض معارك بطولية جماعية وفردية، ويشعل ثورة ويفجر انتفاضات، ويجترح معجزات في الصمود والمقاومة، لكن فجر الحرية يراوغنا كالسراب، فكلما لاح أنه يقترب يعود ليبتعد من جديد، ونكتشف أن الاحتلال الذي كان مجرد كبوة جواد ونكسة عابرة، تحول إلى حالة مديدة تعيش تحت سقفها الأجيال.

ولا شك أن ثمة جملة من الأسباب الموضوعية والذاتية مسؤولة عن إطالة أمد معاناتنا وتبديد إنجازات نضالنا، ومن بين هذه الأسباب ما يتصل بطبيعة المشروع المعادي، وتحديدا العوامل الدولية التي توفرت لدعمه وإسناده وتمكينه، ووفرت له بالتالي كل أسباب القوة والتفوق على شعب أعزل. أو لجهة خصائصه الاستعمارية الفريدة باعتباره مشروعا استيطانيا إحلاليا، يقوم شرط وجوده وبقائه على شطب الشعب الفلسطيني من الخريطة واقتلاعه من أرضه، وتبديد هويته الوطنية، ولا ننسى بالطبع ما تيسير للمشروع المعادي من أسباب ذاتية للقوة، وأبرزها تسلحه بالعلم والحداثة، ومنجزات الثورات الأوروبية في بناء المجتمعات المعاصرة وفق أسس ومبادىء تضمن الديمقراطية الداخلية، والمحاسبة والرقابة والمساءلة وفصل السلطات، بعيدا عن منطق تخليد القادة وتأليههم وتقديس كل ما يقومون به، وصولا إلى محاكمتهم وإدانتهم إذا أخلّوا بالتفويض الممنوح لهم أو فشلوا في الوفاء بتعهداتهم.

لكن الأسباب الموضوعية لا تنفي أهمية الأسباب الذاتية، ولعل هذه الأخيرة هي التي تتحمل المسؤولية الرئيسية عما انتهت إليه أحوالنا،  واستمرار مراوحتنا في ذات المكان. وإذا أمعنّا النظر فسوف نجد دونما صعوبة أن أسباب قوة عدونا هي نفسها، إذا عكست، أسباب ضعفنا، ومن بينها فشلنا في بناء دولة / أو سلطة المواطنة التي تقوم على توازن الحقوق والواجبات لكل مواطن، وعدم التمييز بين الأفراد لأي سبب من الأسباب من خلال اعتماد معايير الجدارة والكفاءة والتنافس الحر بدل الولاء والطاعة، وسرعة ارتدادنا الى هوياتنا الجزئية التي تسبق الهوية الوطنية، كالهويات الجهوية والمناطقية والدينية والقبائلية والعشائرية، وتفشي مظاهر الفساد والمحسوبية وغياب منطق المساءلة والمحاسبة، وتمجيد القادة والمسؤولين إذا أحسنوا وإذا أخفقوا على السواء، والفشل في إدارة خلافاتنا، وصولا إلى إيجاد  صيغ للعمل العام تقوم على تعميم القواسم المشتركة وتعظيمها.

في التطبيقات العملية لهذه المعضلة، نحن نعيد إنتاج الأزمة بدل مواجهتها، ونستعين باللغة العربية وفصاحتها لكي نُموّه على مشكلاتنا ونغطي عليها، وأي مراجعة لبياناتنا وأدبياتنا ستكتشف بسهولة أننا لا نجيد الاعتراف بأخطائنا، ولا نحسن الاعتذار، ونربأ بأنفسنا عن أي خلل أو زلل لا سمح الله، يستوي في ذلك المسؤولون والمعارضون، واليمينيون واليساريون، والإسلاميون والشيوعيون، فتاريخنا حسب هذه البيانات هو تاريخ متصل من الإنجازات والانتصارات والملاحم والأمجاد، أما واقعنا فهو العكس تماما.

ما زالت القضية الفلسطينية، وسوف تبقى، تحتفظ بأسباب جوهرية ومهمة للقوة، أبرزها عدالة هذه القضية والظلم التاريخي الذي وقع للشعب الفلسطيني، والاستعدادات الكفاحية العالية جدا لأجيال تلو الأجيال من الفلسطينيين. فقد أثبت التاريخ مرارا وتكرارا أن الصغار لا ينسون إذا مات الكبار، بل يكبرون وهم اكثر تمسكا بحقوقهم، لكن إنهاء معاناة شعبنا وتقريب ساعة خلاصه منوط إلى درجة كبيرة جدا بنمط إدارتنا الذاتية، وهو ما يحتاج إلى ثورة حقيقية في أساليب العمل السياسي وطريقة إدارة المجتمع والعلاقات الداخلية، كما في العلاقات بين الفرد والمؤسسة والحاكم والمحكوم، أما غير ذلك فسوف تلتصق بنا صفة سيزيف ونبقى مثلا للعالمين ليس في البطولة والفداء، وإنما في العذاب والمعاناة الدائمة.

اخر الأخبار