عام هجري جديد.. و الأمة تبحث عن بدايات الطريق

تابعنا على:   13:41 2021-08-07

صالح عوض

أمد/ أصم سادة مكة وكبراؤها آذانهم عن الاستماع لصرخة الميلاد العظيمة وعميت أعينهم عن احتياجات البشرية الحقيقية فاصروا على قمعها وقتلها في المهد.. فكانت الهجرة وكانت خطوات محمد عليه السلام وصحبه الكرام الى المدينة مهاجرين محاطة بالمخاطر والملاحقات لكنها كانت التأسيس الفذ لامة عظيمة اصبحت منذ 15 قرنا ملء السمع والبصر تبلغ مساحتها خمس مساحة الكرة الارضية وسكانها اكثر من خمس سكان المعمورة.. وفيها ممرات المياه والموقع الكوني الحاسم..ولازالت تحمل في احشائها احتمال الميلاد من جديد لتتجدد رسالتها.

تتجدد معاني البدايات المذهلة في قيام الكيان الاجتماعي السياسي الاول الذي وفر كل عناصر التشكيل الحضاري المنبعث من نواة الايمان وشبكة العلاقات الاجتماعية " الاخوة" و البعد الانساني المتصالح مع الانسان بكل تنوعه الفكري.. تتجدد معاني الانبعاث الحضاري عندما تشكلت طليعة الامة والعالمية في المدينة المنورة تشع حضاريا على العرب في الجزيرة والعراق وبلاد الشام و تنبعث لنشر الرسالة وافشاء السلام في جغرافيا شهدت اعظم كيان سياسي اجتماعي لقرون طويلة.

أطلق كيسنجر وزير الخارجية الامريكية الاسبق عليها القارة المتوسطة وأسماها مالك بن نبي محور طنجة جاكرتا.. هذه القارة يتم تغييبها بشكل قصري عن الاسهام في المسيرة الانسانية و يتم تحويل هذه القارة الى مسرح للحروب والاستنزاف والاختراق ولعل الناظر لايحتاج كثير وقت ليتأكد ان بلاد العرب والمسلمين هي بلاد الحروب اليوم وتتعدد رايات الحروب وكلها حروب ثانوية لصرف الامة عن احتمال نهوضها وقيامها ككتلة متكاملة الاركان المعنوية والمادية.. فحضورها ليس فقط بديلا عن حضارة تقود البشرية إلى الاقتتال والحروب و الرعب،

 ولكنه أيضا حاجة ماسة سريعة لكل شعوبنا ودولنا.. فلم تعد الدولة القطرية قادرة على مواجهة التحديات المتعددة فضلا عن عجزها في القيام بدورها في المسيرة الإنسانية، ولقد اثبتت التجارب منذ اكثر من خمسمائة عام ان نموذج الحضارة الغربية والشرقية " الشمال" نموذج للفتنة والحرب والعدوان والعنصرية ضد شعوب الجنوب.. ومن هنا يصبح من الضروري النظر إلى الكتلة الإسلامية على أنها الوعاء الحضاري الحقيقي الذي ينبغي إعادة الاعتبار له لتتفاعل عناصره الحضارية، لإنجاز نهضة الأمة من جديد .

رؤية الغرب والشرق لنا:

إنهم ينظرون إلى الأمة الإسلامية على أنها كيان واحد فيطلقون عليها مرة مصطلح الشرق ومرة الشرق أوسط ومرة الجنوب ومرة القارة المتوسطة او الكتلة الإسلامية.. ويضعون خططهم الشمولية وتكتيكاتهم على هذا الأساس منذ قرون عديدة.. يتبدلون بين يسار و يمين، من صليبيين إلى ليبراليين، ولكنهم لم يبدلوا طبيعة نظرتهم نحونا!! هذا فيما نحن انغمسنا في عناوين التجزئة القطرية والعرقية والطائفية، وتشتت آراؤنا وتاهت رؤانا، فانتصروا علينا، وتحكموا في كل شيء: بترولنا وثرواتنا وقدسنا و قوانيننا ودساتيرنا وعلاقاتنا.. وهنا يصبح الحرص على وحدة الأمة ونهضتها واكتشاف سبل تحقيقها ليس فقط من باب الإيمان العقائدي وإنما أيضا من باب الوعي الاستراتيجي والرؤية الإستراتيجية والحرص الحقيقي على مستقبل أبناء الأمة.

إنها ليست مسألة فلسفية بل هي جزء حقيقي وأساسي من دين الأمة تتعبد به وهي مصلحتها العليا.. فعندما تصبح العقيدة والمصلحة في خانة واحدة، يكون من غير المعقول ومن غير الأمانة للشعب والأمة السير في درب آخر..

وهكذا تتوحد مصلحة المسلمين وعقيدتهم في نهوض القارة المتوسطة، فالاتجاه نحوه هو الكفاح المسئول الراشد.. وفي غياب هذا الكفاح اغتصبوا فلسطين و ضاعت ثرواتنا وأصبحت دولنا تابعة اقتصاديا وسياسيا لدول الشمال وفي غيابه نخرت أجسامنا الفتن العرقية والطائفية..

إنها القارة المتوسطة التي أسهب كيسنجر في التحذير منها معتبرا “إن من يسيطر عليها يسيطر على العالم”، وإنها محور طنجة- جاكرتا الذي بشر به مالك بن نبي ودعا لنهوضه لبناء أمة بعناصر النهضة المتوفرة جميعا.. وهنا يتحرك المستعمرون لتحطيم احتمال عودة عالمية تمتلك الرصيد المعنوي والمادي الكافي لنهضة إنسانية حضارية نقيضة، حضارة تحرم المجرمين من الاستثمار في عذابات الناس،

إنهم يرونها أمة لا ينقصها إلا بروز قيادة على مستوى طموحها تتمتع بلياقات إستراتيجية وقدرات فائقة في إدارة الصراع وتضع من البرامج القطرية ما ينهض بالمجتمع على مستوى التعليم والتربية والثقافة والصناعة والاقتصاد جملة، من هنا نرى الإصرار الاستعماري لإحباط كل هذه العناصر وإفشالها من خلال أدواتهم المحلية والإقليمية بعدة أساليب وذلك في ظل وصول الحضارة الغربية إلى نفاد طاقتها ووقوفها في مواجهة أسئلة وتحديات أكثرها حدة: وماذا بعد؟

إمكانات النهضة:

القارة المتوسطة تبلغ مساحتها32 مليون كيلومتر مربع في حالة تواصل أي 21 % من مساحة العالم، ويسكنها تقريبا 2 مليار إنسان في 57 دولة، “مليار ونصف مليار بقارة آسيا و600 مليون في أفريقيا وأكثر من 60 مليون بأوربا” ويمثل نحو 30 % من هذا الرقم شباب بين عمر 15 و39 سنة. حصتها في التجارة الدولية 3.5 تريليون دولار، و فيما بينها 800 مليار دولار، ومع أمريكا أكثر من 800 مليار دولار سنويا، وأراضيها الصالحة للزراعة 25 بالمائة من مساحة الأراضي الزراعية بالعالم لا يستغل منها إلا 5 بالمائة، احتياطي النفط فيها تريليون ونصف برميل بواقع 70 بالمائة من احتياط العالم، و60 بالمائة من احتياط العالم من الغاز، ويصدر 40 بالمائة من صادرات العالم من المواد الخام، وناتج محلي إجمالي يقارب 8 تريليون دولار سنويا.. وهناك 10 دول ذات أغلبية مسلمة من بين الـ 25 الأكثر نمواً في العالم.

وهناك عناصر مكتسبة حيث حققت بعض الدول الإسلامية أشواطا بعيدة على طريق التصنيع والتكنولوجيا ومعدلات الدخل الوطني وبناء الجيوش، وفي هذا ينبغي عدم إغفال باكستان وماليزيا واندونيسيا وتركيا وإيران، فهذا الجزء من الكتلة الإسلامية الذي يزيد تعداد ساكنيها على 700 مليون قوة حقيقية للمشروع القادم، بما اكتسبه في طريق النهضة.. لكن هذا كله يحتاج إلى إشعاعات حضارية منبعثة من قوة فاعلية البعد الروحي، وهنا تبرز قيمة العرب سدنة الإسلام حيث تتحلى منطقتهم الجغرافية فضلا عن تنوع خيراتها بقوة جذب روحي وبعث أساسيين في بناء الحضارة والنهضة.

هذه العناصر التي تجمع كل المتطلبات الضرورية للنهضة ينقصها القرار العملي للقيام بإدارة الإمكانات حسب خطة كبيرة لها أهداف محددة قريبة وبعيدة، وتربيطها ببعضها في سياسة تعاونية بين دول الكتلة الإسلامية.. وبمعنى محدد إن الأمر ينتظر وجود قيادات تاريخية مسكونة بضرورة إحياء الأمة، ومؤمنة أن لا مستقبل لأي بلد من بلادنا إلا بتكاملنا وتعاوننا وتحالفنا.. ومن الواضح انه لابد من التحرك مباشرة إلى اقتصاد الإسلامي مشترك وتوسيع عملية التبادل التجاري والدخول في مشاركات ثنائية وجماعية بما يحقق إحداث تحريك لعجلة النهضة.. السوق الإسلامي يبدأ كقاسم اقتصادي مشترك ومن ثم سيفرز مجموعة من الكيانات الاقتصادية والثقافية التي ستشكل عمليا وحدة الأمة وهناك خطوات ستكون تلقائية بإنشاء برلمان إسلامي ليفرز القوة الموحدة من خلال اتحاد سياسي اقتصادي برلماني.. فلعلنا نستفيد من فكرة السوق الأوربي و البرلمان الأوربي الذي أعقبته قوانين مشتركة، وأفرز القوة الموحدة من خلال حلف الناتو.

ومن الضروري هنا التنبيه أن العمل من اجل تفعيل الكتلة إسلامية لا يعني دعوة للانغلاق أمام العالم، بل يجب أن تستمر العلاقة مع الدول الأوربية وأمريكا وروسيا والدول العظمي وبقية دول العالم وفقا للأعراف الدولية، ولكن بمعطيات جديدة وعلاقات متوازنة تجعل من وجود الكتلة في حالة فعالية ذات مصلحة كبيرة للبشرية..

سيواجه هذا التفكير منذ اللحظة الأولى على الصعيد الخارجي بسطوة صندوق النقد الدولي وبجيوش المستعمرين في كثير من بلادنا بقواعد عسكرية وعلى الصعيد الداخلي بواقع قاس تعيشه القارة المتوسطة حيث يوجد 322 مليون، نسمة تحت خط الفقر و40 مليون لاجيء، وأكثر من 100 مليون يقعون تحت طائلة الحروب المباشرة الآن، كما أن هناك دول كبيرة تركيا وباكستان ومصر” 400 مليون نسمة” تواجه أنواعا من التوترات والاستنزاف.. وان العالم الإسلامي ينتج فقط 30% من احتياجاته الغذائية..

من التحرير إلى النهضة:

هناك عدة معوقات تقف في طريق الوحدة الاقتصادية بين البلدان الإسلامية والتقارب السياسي والدفاع المشترك، وعلى رأس تلك المعوقات حالة الدول الإسلامية التي تعيش في جزر منعزلة عن بعضها اقتصاديا وسياسيا، و قد غابت المواقف والعلاقات القاعدية والرسمية بين معظم الدول الإسلامية ولعل هذا مرتبط بطبيعة الدولة القطرية التي ترسمت بحدود جغرافية وثقافة قطرية وروح قطرية متطرفة.

بعد أن سقط العالم الإسلامي تحت سيطرة الاحتلال الغربي تم غرس قواعد فكرية وسياسية وأمنية تتحرك بعناوين عديدة لتقوم بعملية تخريب مستمر لأي محاولة نهضة او وحدة في البلد والأمة.. إلا أن المرحلة التي تلت الحقبة الاستعمارية شهدت قدرة الأمة رغم كل المعوقات بكفاحها المدهش واستطاعتها إخراج عساكر الاستعمار بالقوة إلا أن كثيرا من القابليات للاستعمار بقيت في مجتمعاتنا سواء أفكار وقيم أو ذهنيات وأشخاص يحتلون مراكز توجيه وفعل.. ولكننا هنا نناقش كيفية تكريس الدولة القطرية بعد عملية التحرير و تعميقها لحالة الانقسام في الأمة. لنبرز جواب الشرط: لا نهضة بلا وحدة.

في مواجهة العدوان الاستعماري تحركنا على مراحل وكانت البداية نهضة ثقافية وحراك سياسي ونجح رواد النهضة العربية في إحداث القطيعة مع الاستعمار وفي مناخ التمايز الثقافي واتسمت سنوات نصف القرن الفائت بانتشار الروح الوطنية فحدث الصدام من خلال مشروع تحريري انتصر في معظم بلداننا العربية وكانت ثورة الجزائر النموذج الأنصع، وهكذا سجل المشروع الوطني نجاحا فائقا في التحرير وكان عليه ان يسير في بناء الدولة على نفس روح التصدي للمشروع الاستعماري الذي فرق الأمة وصنع الحدود فيما بينها أي وضع قواعد الدولة الكبيرة، وهنا حصل الاضطراب ففي لحظة النشوة الوطنية، فقدنا القدرة على البناء الاستراتيجي الكبير الذي يحقق لنا وللأجيال ضمانات السيادة والنهضة.. أصابنا الخلل عندما أردنا إقامة دولة وطنية بصيغة الدولة الغربية فانكببنا على بناء الدولة الوطنية ورفعنا شعارا: مصر أولا، وتركيا أولا، ولبنان أولا، وتونس أولا، أو شيعة أولا، والعرب أولا، والكرد أولا، وهكذا وهنا أيضا لم نلتفت إلى كيفية إدارة الدولة الغربية لشبكة علاقاتها الإقليمية وتحالفاتها والتي لها الدور الحاسم في بقاء الدولة ونشاطها بل وكيف تتجه هذه الدول الغربية إلى تحالفات وتشابك اقتصادي وأنماط من الوحدة الاقتصادية والسياسية..

وهنا نعقد مقارنات سريعة بين مشروع التحرير الوطني، ومشروع الدولة الوطنية.. المشروع الوطني أنجز مهمته بنجاح في تحرير الأوطان، ولكن الدولة الوطنية عجزت عن تحقيق النهضة والسيادة.. تحرك المشروع الوطني ضد إرادة المستعمر أما الدولة الوطنية الشوفونية فكانت تسير في عكس تيار وحدة الأمة.. المشروع الوطني التحريري انطلق من مقومات المجتمع ونهض في إطار الهوية والقيم انتصارا لهما، أما الدولة الوطنية فتأرجحت تحت ضغوط الحاجة ذات اليمين وذات الشمال فاهتزت فيها الهوية وتذبذبت القيم وتنازعتها دواع الفرقة فانشغلت عن توثيق شبكة الأواصر وحمايتها..

المشروع الوطني التحريري وجد امتداداته في وجدان الأمة وضميرها فوقفت معه على اعتبار أن انتصاره انتصار لها على العدوان الاستعماري، ورأت فيه الجزء الحي في جسمها المدمى المنهك، فيما انكفأت الدولة الوطنية العربية بشوفونية على نفسها، تقيم الحدود داخل الأمة، وتبتدع هوية خاصة لها، تجعل من الحدود السياسية التي ورثتها من الاستعمار قدرا، وتعزز العصبية وتقطع ما أمر الله به أن يوصل “إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ”..

ينبغي أن لا يتسرب إلى ذهن أحد أن الدولة الوطنية لا فائدة منها، أو أن نتهاون في مواجهة من يريد تفتيها، بل يجب الانتباه أكثر من ذلك بأن الدولة الوطنية الآن تتعرض لمؤامرة استعمارية لتفتيتها على إثنياتها الجهوية والعرقية والمذهبية، لذا فإن الدفاع عنها الآن واجب مقدم على كل شيء.. ولكن لابد أن ندرك أن الدولة الوطنية العربية لا يمكن أن تصمد طويلا بعيدا عن التواجد في إطار إقليمي وتحالف حقيقي في منظومة ثقافية وسياسية واقتصادية متقاربة متعاونة ومتكافلة ففضلا عن البعد الأخلاقي والقيمي والتاريخي لهذا الهدف فإن العالم اليوم يبتلع الدول الصغيرة ولا يحترم إلا التكتلات الكبيرة..

أكبر من تفاؤل:

قد يقول قائل: إن هذا درب طويل تم تجريبه في منظمات عدم الانحياز و منظمة الأفروأسيوية وسواها من التجمعات الإقليمية، ويمعن المتسائل بأن إمكانية حدوثه صعبة إن لم تكن مستحيلة.. ويمعن آخرون في اعتبار هذا من باب الأماني والأحلام.. حسنا.. نؤكد أن التجارب السابقة كانت عمليات بهلوانية فاقدة للرؤية والأهداف المرحلية والإستراتيجية و نرد على المتشائمين و نسأل: من كان لا يرى قبيل الثورات العربية أن مشاريع التحرير الوطنية مجرد أحلام؟ ثم إذا تركنا هذا الخيار فأين نقضي الزمن الآتي؟ ألا تكفي حلقات مسلسل التجارب والخطأ لكي نبحث عن سبيل آخر؟ عشرات السنين قضتها الدولة الوطنية في علاقات مع الشمال بمعزل عن التفاعل العملي بالأمة فماذا كانت النتيجة؟

إن الموارد التي تمتلكها الدول العربية والإسلامية تفرض حدوث تكامل بينها وتضمن تحقيقه، خاصة أن هناك دولا لديها الموارد البشرية وأخرى لديها الموارد المالية، وهناك تجارة بينية في معظم السلع من الرداء والطعام والبترول وغيرها..

إن الأمر يحتاج إلى السعي لبناء إستراتيجية عربية إسلامية لإيجاد السوق المشتركة، مع توفير مناخات ملائمة لتنفيذ برامج ومشروعات عملية اقتصادية جامعة، بالإضافة إلى تطوير التجارة البينية بين الدول..

وبإلحاح أكثر إن الأمر يحتاج قيادات وقوى تمتلك الوعي الاستراتيجي والإيمان العميق والرؤية والإرادة للتحرك بقوة نحو تعبيد طريق التكامل والتعاون لانجاز عجلة النهضة والسيادة والحضارة.. ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم

كلمات دلالية

اخر الأخبار