أول السقوط وأخره.. فهل بعده مشروع ابراهام؟

تابعنا على:   13:08 2021-08-02

صالح عوض

أمد/ علاقة عجيبة بين الاندلس والقدس تشكلت في عالميتنا العربية الاسلامية الاولى.. فلقد كان سقوطنا في الاندلس هو بداية سقوطنا الحضاري ولم نقدم بعد الاندلس اي مبرر حضاري لنا ومن تلك اللحظات المفصلية استمر انهيارنا الحضاري حتى فقدنا اي مبرر حضاري فكان سقوط القدس.. فلقد بدأ سقوط القدس كاشارة لسقوط عالميتنا العربية الاسلامية الاولى منذ سقطنا في الاندلس.

خمسة قرون من الصراع متعدد الاشكال مع المشروع الاستعماري بتعدد راياته.. لقد كان صراع شمال جنوب داميا ولكن الاندلس ضاع وادارت له الامة ظهرها وترك الاندلسيون الى مصيرهم البائس.. وانشغلت ممالك العرب والمسلمين في حروبها الجزئية وسلمت بضياع درة الحضارة العربية الاسلامية.. ننتصر حينا وننهزم احيانا ولكن كل حروبنا التي خضنها لم تكن في الصميم انما كانت لرد عدوان بفعل حمية دينية او وطنية او قومية دون امتلاك ادوات الحضارة التي فقدناها بضياع الاندلس.

وتحت الضغط الرهيب على العقل العربي والاسلامي تمت زحزحته عن ترتيب خارطة طريقه وفقد القدرة على ترتيب اولوياته وهكذا نستطيع القول انه عندما يغيب عنا سياق الصراغ التاريخي نفقد القدرة على الانتصار في الواقع وتبدو كل عمليات كفاحنا جزئية وحتى عندما نحقق انتصارات فيها فسريعا سيلتف العدو عليها ويفرغها من كل محتوي وهكذا تذهب جهودنا هباء منثورا.

الاندلس ..جرح فتح في قلبي بعمق وانا اتابع قبل تناول الموضوع عدة دراسات وتقارير عن الاندلس واستمع للمؤرخين وللموريسكيين والاندلسيين عموما وللمنصفين من مفكرين ومؤرخين..

قبل اكثر من خمس قرون سقطت اخر معاقلنا بالاندلس بعد تميز حضاري استمر اكثر من ثماني مائة سنة.. سقطت ليس بسبب قوة العدو العنصري المتخلف المتوحش انما بالاسباب نفسها التي سقطت فيها فلسطين.

مملكتنا بالاندلس هوا من ارقى نماذجنا الحضارية" الاموية والعباسية والسلجقة والعثمانية والمرابطين والفاطميين والادارسة والايوبيين والعثمانيين".. بل لعلها الطليعة المتقدمة من حضارتنا في اطلالتها على الغرب تقدم له الثقافة والعلم والقيم فيما كان يغص في دياجير القرون الوسطى.

حقائق كثيرة فتحت امامي واكاد اجزم ان انتقالة معنوية وفكرية مذهلة حصلت لي وانا استمع الى انين المعذبين في محاكم التفتيش او همس العجائز لاولادهن عن حقيقة دينهم بعد ان فرض عليهم تغيير الدين والاسم..
هاهو الاندلس شاهد رغم كل هجمة الحقد العنصري على ان امة عظيمة كانت هنا ورغم كل ما مارسه العنصريون من طمس معالم الحضارة وتحويل عناوينها وتغيير وظائفها ورغم كل ما مارسه المستشرقون العنصريون من تشويه للتاريخ وتحريف للكتب والوثائق الا ان المارد العظيم يكاد يخرج من تحت الرماد لينبعث باسترداد الوعي واستعادة الروح.

اسماء عديدة تنهض الان بالاندلس تزيح الركام عن الوثائق وتنفض الغبار عن الارواح وتنشط لاعادة الثقة للموريسكيين الذين يمثلون اكثر من نصف سكان اسبانيا.. ليعيدوا لاهلها الثقة والفخر بحضارتهم وملكنهم العظيمة.

التنكيل الذي لحق بالاندلسيين لم يسبق ان مورس على احد من اقوام الارض الا اهل ااخدود ..وقد شهدت المواجهة سابقة تاريخية خطيرة ان ينتصر الجهل والقبح والتخلف والقذارة والعنصرية على النظافة والجمال والتطهر والحضارة والفن.. كانت مذبحة لعجلة التطور الانساني كما قال منصفو الحصارة الغربية ان ماحصل في الاندلس جريمة مكتملة الاركان بحق الحضارة الانسانية كما ان هزيمة المسلمين ببواتيه كانت بمثابة تاخير النهضة في اوربا عدة قرون.. ولكنها ايضا كانت محكومة لسنن ونواميس اخل بها الاندلسيون بشكل مباشر ثم تخلى عنهم العرب والمسلمون فيما بعد بل لعل نكبة الاندلسيين اوهنت عزائم العرب فكادوا في المغرب العربي يسلموا قلاعهم واحدة تلو الاخرى للصليبيين الذين بداوا بفرض التنصير عليهم عنوة.. ولولا نحدة العثمانيين لاحدث ذلك في المنطقة تحولات كبيرة خطيرة..

لم يخرج من الاندلس الا القلبل من أهلها فرارا الى بلاد المغرب العربي المغرب الاقصى والجزائر وتونس حاملين انكسارهم وهمهم وثقافتهم وتقاليدهم.. وهذه معلومة مهمة تكشفت لي من خلال بحوث الباحثين المنهجيين فيما تم تحويل الغالبية العظمى التي بقيت بالاندلس الى حالة جديدة "مورسكيين" تمارس عليهم ابشع عمليات التطهير الفكري والثقافي وتعيير دينهم واحيانا التطهير العرقي بمحاكم التفتيش او بالتهجير الى امريكا اللاتينية..

وللعلم يجدر ان نشير الى سبق الاندلسيين باكتشاف العالم الجديد قبل كريستوفر بزمن بعيد.. وبعد ان استتب الامر لمحاكم التفتيش والعنصرية من التحكم في الاندلس وتنصير المسلمين وتغيير اسمائهم جلبوا بعضهم الى الكنيسة وخدمتها وارسالهم تحت الرقابة الى المريكا اللاتينية ولكنهم هناك ايضا خباوا دينهم وتجمعوا في قرى بدأت تظهر انتماءها من جديد.

ليس سهلا تصور ان يتم بسرعة انهيار كيان حضاري انتج العلم والفن والثقافة وقدم عناوين لها في العالم من ابن حزم وابن رشد وابن خلدون وابن زيدون وعباس بن فرناس وزرياب.. وليس سهلا تصور ان يتبخر الاسلام في الجزيرة بمثل ذلك المشهد الفظيع.

القدس احر المحطات:
وهي عنوان فلسطين اقتحمها المغول مرة واستعمرها الصليبيون اخرى.. ولكن ما كان ليستتب الامر للمغول او الصليبيين فيما كانت هناك بقية من روح في الامة ولازالت عجلة القصور الذاتي تتملك حركتها.. وعندما قارعت الامة مبعثرة مستعمريها وانتهت الى طرد عسكرهم في كل الاماكن استفاقت على ان بواعث نهضتها تم تفريغها بفعل تركمات واختراقات عديدة فلقد فقدت طلائع التحرير في الامة بعد انتصارها تحويل شعارات الوحدة والنهضة وامتلاك الادوات والتجدد الى برامج عمل وخطط ورؤية.. فاصبحت في معظمها تدور في فلك التبعية الاقتصادية والسياسية لقوى دولية لا تريد لها النهوض.. في هذا المرحلة تسقط فلسطين.

سقوط فلسطين ياتي في ختام مرحلة الانهيارات التي بدات من سقوط الاندلس ومن الواضح ان الامة تكون قد اكملت تماما عالميتها الحضارية التي بدات من الخلافة الراشدة وفتح القدس الى ضياعها وتجزئتها وضياع القدس.

لن نتحدث هنا عما لاقاه ويلاقيه شعب فلسطين من التشريد والتشتتيت والقهر والتطهير العرقي والعنصري.. لن نتحدث عن ذلك بسبب أن وسائل الاعلام تنشر بعضه بما يكفي للتدليل على جريمة المشروع الصهيوني على ارض فلسطين.

ولكن ينبغي ان نتناول موضوعة القدس في سياقها الحضاري والتاريخي والا فلن ننال شيئا من نصر او تقدم رغم كل مانبذل من جهود.. وهنا علينا توسيع بيكار التحليل والدراسة بحيث يصبح انغماسنا في شرح مايتم على ارض فلسطين في مواجهة الكيان الصهيوني بمثابة دفن للراس في الرمال..

قد يكون جرح القدس صارخا ولكن جسد الامة كله جراح دامية فكل مكوناتنا مبعثرة بل متصارعة بترولنا يدمر عواصمنا واعرقانا تتناثر ومذاهبنا تتنافر وطبقات مجتمعنا ومكوناته الوظيفية تتصارع ودولنا الوطنية تتهاوى او على وشك ومما يزيد المسألة تعقيدا غياب الرؤية والوعي او ضياع صوته في حمى التصارع والتآكل الذاتي.

هنا تصبح موضوعة القدس ملخصا لقضايا الامة في كل قطر من اقطارها ولعلنا اصبخنا على يقين بان لانهضة لبلد عربي منفردا ولا عزة ولا امن لبلد عربي منعزلا.. وان التكامل العربي والتعاون الاستراتيجي باي صيغة كانت شرط لايمكن تجاوزة لحماية البلد والقطر..

ومن بركات القدس انها جامعة معنويا للعرب والمسلمين وبالامكان الاتكاء عليها في بعث الروح في الامة كما انه بقناديلها يمكن كشف اطراف العدوان ومخططاته التي تستهدف الامة.

وهكذا تتضح مراكز الانارة لعالميتنا العربية الاسلامية الثانية.. وتتضح اهمية القدس في الجانبين الروحي والوعي الاستراتيجي وبهذا تشكل نقطة انبعاث رؤية ومشروع وخطة واستراتيجية لاستعادة امتنا نفسها ودورها.

مخطط ابرهام:
فيما نحن نحاول الاقتراب من وضع خارطة طريق لخروجنا من انهيارنا التاريخي فان هناك مخطط يضع اليات لانهاء المتبقي منا انهاء ديننا وتدمير عواصمنا وقيمنها وتحويلنا الى قرى متقاتلة وقبائل متنازعة على طريق ابرهام.

عمليا خطا اصحاب المشروع خطوات بعيدة في مشروعهم يحاولون بداية صياغة رواية لمسار ابراهيم ثم بناء كياناتهم الدولية على هذا المسار الذي سوف يعتبر ملكا بشريا وهنا تسقط سيادة الدول و يتم التلاعب بالمقدسات ويتم استبدالها ويتم نشر الافكار الدينية البديلة وصناعة مقدس جديد.

لقد ثبتوا على الارض العربية علامات ذلك وليست فقط رفع المسلة الماسونية في اماكننا المقدسة انما ايضا بالتضييق على الاسلام بتشويهه وشيطنته و تفريغ طقوسه وشعائرة ورفع شعار اعادة الحقوق للبهود في خيبر ومكة والمدينة وان مكة بيت ابراهيم وهي حق لاصحاب الديانات الثلاثة وبث افكار تحت غطاء التسامح ووحدة الدين الابراهيمي وذلك كله لجعل المنطقة العربية وهي المقصودة بالمخطط شذرا مذرا لا جامع لها ولا وجهة وهنا تكون اخر عمليات انهاء احتمال النهوض الحضاري.

ان المتامل فيما تعانيه شعوب المركز العربي يدرك ان المخطط يكون قد تقدم خطوات خطيرة بدون اي مقاومة معتبرة فهاهي مصر تستفز بسد اثيوبيا وما يمكن ان يمثل من خطر بيئي ومصيري على اهل مصر واما العراق وسورية فلقد تبعثرتا والتفسخ يتعمق فيهما والسودان وليبيا كما نرى معلقتين من ارجلهما اما الجزيرة العربية فلقد اختارت دولها واماراتها السير برضى في المخطط وتقديم كل الامكانات لانجاحه.. المنطقة المركزية العربية اصبحت مسرح عمليات المخطط الابارهيمي.

تصادم المشروعين:
هكذا نجد انفسنا نظريا وتاريخيا في لحظات الصدام الحقيقي بين امة تحاول الخروج من انهيارها ومشروع يريد ان يبدد كل ماتبقى فيها من امكانات النهوض.. هذه هي ارضية الكلمات الجديدة والافكار الجديدة.. وهنا لايمكن اغفال المشاريع الاخرى المحيطة كطريق الحرير وما يمليه علينا من تحديات التحالف او التباعد وكل خيار من الاثنين يملي علينا خطة واستراتيجية وبرنامج من نوع اخر عما نحن عليه الان.

مشروع ابراهام ام مشروع القدس: هو الخيار المقدم على نخبنا وسياسيينا واحزابنا وجيوشنا.. وان كل من لا ينخرط في مشروع القدس سيجد نفسه حتما اما شريكا في مشروع ابراهام او خادما له او ضحية له بوعي منه او لا وعي

ليس هو الاول ولكنه الاخطر هذا صحيح ولكن امتنا تكتنز عناصر قوى وعنوان قضية وكتلة بشرية مركزية في العالم بامكانها تماما ان تستعيد المبادرة وستكون كل خطوة لامتنا على طريق نهضتها انما هي بمثابة هزيمة لمشروع الضلال والتيه الذي يحاول الصعاليك فرضه على امتنا.. وان تنصروا الله ينصركم

اخر الأخبار