النظام الأبوي في السلطة الوطنية الفلسطينية

تابعنا على:   09:57 2021-04-14

إعداد: أشرف عثمان بدر

أمد/ تهدف الدراسة إلى تحليل ودراسة نظام الحكم في السلطة الوطنية الفلسطينية منذ نشأتها سنة 1994 وحتى سنة 2020. وتسعى إلى الإجابة على سؤال مركزي يتعلق بماهية النظام في السلطة الفلسطينية. تولد عن هذا السؤال عدة أسئلة فرعية، من أبرزها: ما مدى انتماء السلطة الفلسطينية للنمط النيوباتريمونيالي Neopatrimonialism )الأبوية الجديدة).

تستعين الدراسة بمنهجية متعددة التخصصات، مع إجراء مسح للأدبيات المتعلقة بالموضوع، وبالرجوع إلى المنشورات الصادرة عن السلطة، وإجراء المقابلات والمشاهدة. بتسلسل موضوعي وليس كرونولوجي Chronology.

تكمن الأهمية النظرية للدراسة؛ في التأكيد على استمرار النمط النيوباتريمونيالي لنظام الحكم في السلطة الفلسطينية منذ نشأتها وحتى كتابة هذه الدراسة. تجادل الدراسة بأنّ المأزق الذي تعيشه السلطة هو مأزق بنيوي يمتد لما قبل إنشائها، ناتج عن تغليب النمط السلطوي الذي يعدّ من خصائص نظام الحكم النيوباتريمونيالي.

مدخل

عقب توافق الحزبين الكبيرين على الساحة الفلسطينية، فتح وحماس، على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ومجلس وطني، وتأكيد ذلك في المراسيم الصادرة عن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وإقرار معظم الفصائل الفلسطينية الذهاب للانتخابات عقب اجتماعها بالقاهرة في 2021/2/8، ثار جدل بين المهتمين بالشأن الفلسطيني حول إمكانية حلّ أزمة النظام السياسي الفلسطيني عبر الانتخابات، ورأى البعض أن الانتخابات مدخل للحل، فيما رأى الآخرون بأن أزمة النظام السياسي الفلسطيني بنيوية ولن تسهم الانتخابات في حلها. وبناء عليه جاءت هذه الورقة لتبحث في هذه الإشكالية.

يتفق كثير من الكتّاب والباحثين على وجود "أزمة" في السلطة، لكنهم اختلفوا في تشخيص سبب هذه الأزمة. من خلال مراجعة الأدبيات التي تناولت موضوع "أزمة" السلطة نلمس وجود ثلاث مقاربات. انطلقت أولها من نظريات التحول الديموقراطي لتحليل طبيعة السلطة الفلسطينية والتحولات على صعيد منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، يجادل ممدوح نوفل في السنوات الأولى لتشكل السلطة؛ بأنّ الأزمة تكمن في عدم تنظيم طبيعة العلاقة بين السلطة ومرجعيتها المتمثلة في م.ت.ف.[2] فيما ذهب جميل هلال إلى أنّ الأزمة ناتجة عن محاولة التحول من الحكم الذاتي للدولة،[3] وما رافق ذلك من تهميش لأوساط مهمة في النخبة السياسية،[4] وتفكيك للحقل السياسي الفلسطيني.[5] في حين يدعي عاصم خليل بأنّ الأزمة دستورية، ناشئة عن غموض، وتنوع، واستمرار تغير الوضع القانوني والدستوري في فلسطين.[6] في المقابل وعقب الانقسام السياسي الذي حصل بعد سيطرة حركة حماس على غزة سنة 2007؛ ادعى أحمد سامح الخالدي بأنّ الأزمة تكمن في تآكل شرعية السلطة.[7] ويتبنى أحمد مبارك الخالدي الرأي نفسه،[8] ويجادل بأنّ الأزمة تتمثل بفقدان رئيس السلطة محمود عباس لشرعيته بانتهاء فترة ولايته.[9]

تتناول المقاربة الثانية أزمة السلطة من منظور اقتصادي تنموي. وقد نبّه حمدي الخواجا إلى تبعية السلطة الاقتصادية،[10] يتفق رجا الخالدي وصبحي سمّور[11] مع الخواجا في استنتاجه مستندين إلى التوجهات الاقتصادية النيوليبرالية Neoliberalism للسلطة منذ نشأتها، والتي ظهرت بشكل واضح في فترة حكم رئيس الوزراء د.سلام فياض. يحاجج البعض بنيوليبرالية السلطة التي ترسخت سنة 2009، وبالتحديد مع إطلاق فياض ما عرف بوثيقة "إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة".[12] من هؤلاء الكتّاب، على سبيل المثال لا الحصر؛ لين جبري،[13] وليندا طبر،[14] وتوفيق حداد،[15] وآدم هنية،[16] وليلى فرسخ.[17]

ذهبت المقاربة الثالثة لتناول الأزمة من منظور شكل الحكم وممارساته القمعية، وانتهاج السلطة أسلوب الحكم التسلطي، وما يلحقه من تراجع الشكل الديموقراطي للحكم، والحريات العامة، وما يرتبط بذلك من انتهاكات لحقوق الإنسان،[18] والتي تمثلت بالتضييق على وسائل الإعلام،[19] بالإضافة إلى انتشار الفساد وغياب الشفافية.[20]

يلاحظ من استعراض الأدبيات المتعلقة ببحث "أزمة" السلطة الفلسطينية، بأنّ بعضها استند على معالجات جزئية، دون استخدام أداة تحليلية شاملة للنظام السياسي، والذي ندعي بأنّه نظام نيوباتريمونيالي (أبوي جديد). بل إنّ بعض الدراسات تخلط بين أسباب الأزمة وأعراضها، وذلك من خلال اعتبار الفساد وانتهاك حقوق الإنسان، أو انسداد الأفق السياسي وغياب الرؤية السياسية؛ سبباً للأزمة الحالية. في حين رأى البعض أن منبع الأزمة يكمن في التوجهات النيوليبرالية للسلطة، دون أن يفحص هذه الفرضية إمبريقياً (تجريبياً) Empirical evidence، ومدى تطابق سياسات السلطة مع الأجندة النيوليبرالية. في المقابل؛ يجادل آخرون بأنّ أزمة النظام السياسي الفلسطيني تكمن في فقدانه للشرعية السياسية، بانتهاء فترة ولاية كل من الرئاسة والمجلس التشريعي، وبالتالي فإنّ الحل يكمن في إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، على خلاف ما تستنتجه هذه الدراسة.

قام البعض بدراسة وتحليل بنية السلطة الفلسطينية من خلال استخدام المفهوم/ النموذج النيوباتريمونيالي. من أوائل الباحثين الذين استخدموا هذا المفهوم كان ريكس برينين Rex Brynen، والذي يجادل بأن البنية النيوباتريمونيالية للسلطة تمتد لما قبل إنشائها، وتعود لبنية منظمة التحرير الفلسطينية النيوباتريمونيالية.[21] يتفق يزيد صايغ معه مشيراً إلى أن النمط النيوباتريمونيالي طغى على بنية المنظمة تحت قيادة الراحل ياسر عرفات.[22] فيما يرى علي الجرباوي بأن الإرث السياسي الفلسطيني قد ارتبط "بشخصية قيادية مركزية وكرزمية وذات استئثار كامل ومطبق على عملية اتخاذ القرار الفلسطيني".[23] وأن اتفاقية أوسلو Oslo Accordsأنتجت "منظومة سلطوية بطركية منظمة".[24] في المقابل أَطّرت هيلجا بومجارتن Helga Baumgarten نظرياَ للنيوباتريمونيالية في الحالة الفلسطينية، وذلك من خلال فحص العلاقة بين النموذج الباتريمونيالي ونموذج الدولة الريعية، كونهما يشتركان بالأسس نفسها، بحيث يمكن أن نصطلح عليهما بالنموذج النيوباتريمونيالي.[25]

عدّ مشتاق خان MushtaqKhan النموذج النيوباتريمونيالي غير كاف لتحليل الحالة الفلسطينية، بسبب عدم إعطائه دور مركزي للعامل الخارجي والمتمثل هنا بالاحتلال الإسرائيلي، لذلك يقترح بدلاً من ذلك استخدام نموذج دولة زبائنية محتواة بشكل غير متكافئ Asymmetric Containment Client State.[26] بينما عمد سامر إرشيد إلى اختبار النموذج النيوباتريمونيالي إمبريقياً لدراسة الحالة الفلسطينية.[27] في المقابل تناول أنس اقطيط السلطة بواسطة استخدام نظريات الدولة الريعية اللا نفطية، بانياً على أن مفهوم الريع غير مقتصر على الموارد الطبيعية، وإنما يتعداه ليشمل أنواع الدخول غير المكتسبة كالتمويل الخارجي. يجادل اقطيط بأنّ السلطة، كدولة ريعية، تتصف بأنّها نظام غير ديموقراطي نيوباترومونيالي مرن.[28]

اقتصر برينين والصايغ على استخدام النيوباتريمونيالية كمفهوم دون اختبارها كنموذج نظري. بينما أطّرت بومجارتن نظرياً للنيوباتريمونيالية دون فحصها إمبريقياً في السياق الفلسطيني. فيما تعمق مشتاق خان في فحص النموذج النيوباتريمونيالي ومدى انطباقه على الحالة الفلسطينية، لكن الادعاء بأنّ النموذج النيوباتريمونيالي لا يولي أهمية للعامل الخارجي، هو ادعاء مفند، فإن ريتشرد سنايدر Richard Snyder وجاسون برونليJason Brownlee تناولا دور العامل الخارجي.[29] في المقابل، ذهب اقطيط إلى اعتبار النيوباتريمونيالية من خصائص الدولة الريعية، بينما يشير الواقع إلى العكس من ذلك، فالدولة الريعية الزبائنية هي من خصائص النمط النيوباترومونيالي. علاوة على ذلك يخلط اقطيط بين الريعية والزبائنية، فهنالك أنظمة ديموقراطية ريعية تتبنى نموذج دولة الرفاه، فيما تتصف الأنظمة النيوباتريمونيالية بريعية الدولة المرتبطة بوجود الشبكات الزبائنية.

يجب الأخذ بعين الاعتبار أنّ السلطة مرّت منذ نشأتها سنة 1994 بمرحلتين أو عهدين هما؛ مرحلة الراحل عرفات التي امتدت من سنة 1994 وحتى سنة 2004، ومرحلة الرئيس عباس الممتدة من سنة 2005 وحتى كتابة هذه الدراسة. مع ملاحظة أنّ كلا المرحلتين يمكن تقسيمها إلى عدة فترات زمنية. ففي فترة حكم عباس من سنة 2005 وحتى سنة 2020 تعاقبت عشر حكومات، وتولى قيادة الحكومة خمسة رؤساء وزراء، وهم على التوالي أحمد قريع، وإسماعيل هنية، وسلام فياض، ورامي الحمد الله، ومحمد اشتية. كل منهم له سياساته الخاصة. من حيث المبدأ صحيح إنّ الأزمة اختلف شكلها في كلا المرحلتين إلا أنّ هذه الورقة تدعي بأنّ الأزمة متشابهة من حيث الجوهر والبنية، وهي تمتد إلى ما قبل إنشاء السلطة. اقتصرت الدراسات السابقة على تناول الفترة التي قاد فيها الراحل عرفات السلطة، لكن أيّاً منها لم يتطرق لفترة حكم عباس.[30] بل إن بعض الدراسات التي صدرت في بداية توليه للحكم توقعت تحول نمط الحكم من النيوباتريمونيالية إلى شكل آخر أقرب ما يكون "ما بعد كاريزماتي".[31] من هنا ظهرت الثغرة المعرفية التي تسعى هذه الدراسة لمعالجتها، وهي السعي لدراسة نظام الحكم في عهد الرئيس عباس في الفترة ما بين 2005 إلى 2020، بالاستناد على الدراسات التي أشير لها؛ والتي تثبت بأن النموذج النيوباتريمونيالي متحقق في عهد الراحل عرفات. وبالبناء على الافتراض بأن النيوباتريمونيالية متغلغلة في بنية السلطة، سواء في عهد عرفات أم في عهد عباس.

تواجه هذه الدراسة عدة إشكاليات في مقدمتها النموذج المعرفي التحليلي الذي يتعامل مع السلطة الفلسطينية على أساس أنها "دولة"، على ضوء عدم استيفائها لعنصر السيادة والتي يعدّ من أسس تكوين الدولة، مما يقدم تفسيراً جزئياً لواقع السلطة. وربما كان أفضل وصف لها ما عبّر عنه الرئيس عباس "سلطة من دون سلطة".[32] لذلك سوف نلجأ مع التحفظ لاستخدام تعبير "الدولة" مع إدراكنا عدم انطباق هذا الوصف على واقع السلطة، وإنما نلجأ لذلك بغرض التحليل والمقارنة في سياق دراسة الأنظمة والدول النيوباتريمونيالية، دون إغفال الشرط الاستعماري من جهة، وواقع التجزئة والانقسام من جهة أخرى. وهذا يقودنا إلى المنهجية التي تمّ اتباعها في الدراسة من حيث التركيز على تناول أداء السلطة برئاسة عباس والتي تتمركز في الضفة الغربية، دون التعرض بشكل مسهب إلى واقع سلطة قطاع غزة، وأداء الحكومة المقالة بقيادة حماس، أو اللجنة الإدارية التي شكلتها، فتحليل الواقع الاقتصادي والسياسي لقطاع غزة يحتاج إلى أدوات نظرية قد تكون مختلفة، وإن كانت السلطة في قطاع غزة تتقاطع مع الضفة في كثير من مواصفات النظام النيوباتريمونيالي.

تنتهج هذه الدراسة منهجية متداخلة التخصصات، وذلك من خلال إجراء مسح للأدبيات المتعلقة بالموضوع، والاستناد على المصادر الأولية والتقارير الصادرة عن مؤسسات السلطة، والجريدة الرسمية "الوقائع الفلسطينية". بالإضافة إلى المشاهدة، وإجراء المقابلات الشخصية.

قسمت الورقة إلى عدة أقسام، فبعد المدخل والإطار النظري، يتم فحص مدى انطباق النموذج النيوباتريمونيالي على السلطة الفلسطينية، من خلال دراسة علاقة الحاكم بمؤسسات "الدولة"، ورؤوس الأموال، وكذلك النخب والقطاعات الاجتماعية، بالإضافة إلى العلاقة مع القوى الخارجية.

أولاً: الإطار النظري والمفاهيمي

النيوباتريمونيالية (الأبوية الجديدة):[33]

يوحي استخدام بادئة نيوneo- للوهلة الأولى بتجديد فكرة قديمة؛ أو استمرار فكرة قديمة بعد حصول فجوة في استخدامها. هذا ما يتم استنتاجه من استخدام نيو–neo،[34] كبادئة لكلمة باتريمونيالية "الأبوية"، وليس new التي توحي استخدامها بشيء جديد تماماً. تتميز النيوباتريمونيالية باحتفاظ الرئيس التنفيذي لسلطة الدولة من خلال شبكة واسعة من المحسوبية الشخصية، وليس من خلال الأيديولوجية أو القانون.[35] بنيت النيوباتريمونيالية على افتراض أساسي؛ وهو أن مؤسسات الدولة الرسمية يتم دمجها بسياسات خاصة غير رسمية للحكام.[36] وبالتالي فإنّ التعريف العملي للنيوباتريمونيالية: "مزيج من نوعين من الهيمنة المتداخلة؛ الهيمنة التقليدية (الباتريمونيالية) والبيروقراطية العقلانية القانونية".[37]

يرى ماكس فيبر Max Weber أنّ الباتريمونيالية تعني ضمناً بأنّ الراعي، الحاكم أو الرئيس، كفيل patron في نظام سياسي واجتماعي معين، يمنح العطايا من الموارد على التابعين من أجل تعزيز الحصول على ولائهم، بحيث يحصل التابعين على مزايا مادية وحماية مقابل حصول الحاكم على دعمهم، وبالتالي يمارس الحاكم هيمنته من خلال النظام الإداري البيروقراطي، بحيث يتمظهر المنطق الأبوي البطريركي في الإدارة على نطاق أوسع من علاقات القرابة.[38] يستنتج فيبر بأنّ الحكم التقليدي يمكن أن يتعايش مع مجموعة واسعة من النظم الاقتصادية، ولا يقتصر على الرأسمالية.[39] فيما يحاج باولكا بيتر Pawelka Peter بأنّ النيوباتريمونيالية هي نظام للحكم الفردي، يعتمد على الشرعية من جهة، وعلى البيروقراطية، الإدارية والعسكرية، من ناحية أخرى. تعتمد الشرعية فيها على مزيج من الولاءات التقليدية والمكافآت المادية.[40]

يجادل صموئيل أيزنشتات Samuel Eisenstadt بأن دول "الجنوب" التي تحررت من الهيمنة الاستعمارية قد احتذت في الحكم نموذج النيوباتريمونيالية، حيث يستخدم الحكام القوميون، في كثير من الأحيان، أساليب السلطة التقليدية (الباترويمونيالية/ الأبوية)، في مواجهة المشكلات والأزمات المتزايدة في دولهم في فترة ما بعد الاستقلال، بحيث تتشكل النيوباتريمونيالية عن طريق تمفصل الدولة الحديثة مع الأشكال التقليدية للحكم، من أجل التعامل مع مشاكل الحياة السياسية والحكم.[41] وفقاً لأيزنشتات فإنّ الاختلاف بين الباتريمونيالية والنيوباتريمونيالية يتمركز حول مستوى المشاكل السياسية التي يواجهها كلا النموذجين، ومن ناحية أخرى في مدى ارتباط هذه المشاكل مع الظروف التي قد تقود إلى استمرارية النظام التقليدي. وهذا بدوره يوضح خصائص النموذج النيوباتريمونيالي وديناميكياته.[42] في هذا السياق يلفت الانتباه إلى الاختلافات في أنماط التنظيم السياسي ما بين الأسرة المالكة في الحكم التقليدي الباتريمونيالي، والمنظمات الأكثر تعقيداً أو البيروقراطية أو الحزبية في المؤسسات الحديثة للدولة النيوباتريمونيالية.[43]

ثانياً: النموذج النيوباتريمونيالي والسلطة الفلسطينية

يُفترض بنظام الحكم في السلطة الفلسطينية أن يكون: "نظام ديمقراطي نيابي يعتمد على التعددية السياسية والحزبية وينتخب فيه رئيس السلطة الوطنية انتخاب مباشراً من قبل الشعب، وتكون الحكومة مسؤولة أمام الرئيس والمجلس التشريعي"،[44] لكن وبفعل الانقسام سنة 2007 وتعطيل المجلس التشريعي، تحول النظام إلى الحكم الفردي بشكل كامل.

يوجد سجال بين الباحثين حول وجود نموذج محدد للنيوباتريمونيالية، وإن كان هنالك توافق على مواصفاته الأساسية. لذلك ستستند هذه الورقة في فحصها الإمبريقي للسلطة الفلسطينية على نموذج تمّ استدلاله من كتابات سنايدر، وبومجارتن، وباولكا، وأيزنشتات. بني هذا النموذج على فحص علاقة الحاكم الفرد بأهم الجهات الفاعلة في النظام السياسي والاجتماعي؛ والتي تتمحور في أربعة مجالات:-

1- علاقة الحاكم بمؤسسات "الدولة"؛ وتتضمن

أ. العلاقة مع الجهاز الإداري.

ب. العلاقة مع السلطة التشريعية.

ج. العلاقة مع السلطة القضائية.

د. العلاقة مع قوى الأمن.

2- علاقة الحاكم مع رؤوس الأموال

3- علاقة الحاكم مع النخب والقطاعات الاجتماعية.

4- العلاقة مع القوى الخارجية.

1- علاقة الحاكم بمؤسسات "الدولة"

تحول النظام السياسي للسلطة بعد استحداث منصب رئيس الحكومة في سنة 2003 إلى النظام المختلط رئاسي برلماني، ثم طرأ تغييراً بعد انتخابات 2006 مباشرة وقبل تشكيل الحكومة العاشرة، بسلسلة القرارات التي اتخذها عباس والمجلس التشريعي المنتهي خلال الفترة الانتقالية، تمّ فيها تحويل الكثير من المؤسسات العامة من تبعية الحكومة أو السلطة إلى تبعية منظمة التحرير الفلسطينية ليتم بعد الانقسام سنة 2007 العودة إلى الشكل الرئاسي على الرغم من بقائه شكلياً مختلطاً، ومؤخراً تمّ تقنين هيمنة الرئيس على النظام السياسي، في مخالفة للقانون الأساسي، من خلال إصدار قرار بقانون ينص على إعطاء صلاحيات واسعة لمؤسسة الرئاسة، تمكنها من فتح مقار فرعية في المحافظات وتمكنها من فتح حسابات بنكية؛[45] بحيث تحولت مؤسسة الرئاسة إلى حكومة موازية.

تسعى الأنظمة النيوباتريمونيالية إلى تكوين شبكة من المصالح بواسطة نظام زبائني Clientelism، بهدف ترسيخ سيطرتها. تعتمد الزبائنية إلى إقامة علاقة بين راع ورعية، ويتم شراء ولاء الرعية من خلال توفير الموارد المالية والخدمات، وفي محاولة السلطة لبناء نوع من الهيمنة يتم استخدام آليات عديدة، من أهمها التجنيد في أجهزة الدولة العسكرية والمدنية، وكذلك الاحتواء بواسطة تحويل العطايا إلى فئات معينة.[46] ضمن هذا الإطار تمّ استحداث أكثر من 80 مؤسسة غير وزارية في السلطة الفلسطينية، رواتب رؤسائها تعادل رواتب الوزراء، معظم هذه الهيئات تحمل مسمى وظيفي يمكن أن تقوم به الوزارات كـ"هيئة حوادث الطرق"، التي يمكن ضمها لوزارة المواصلات، وبعض هذه الهيئات لا يعرف ما هي الحاجة الماسة لاستحداثها كـ"هيئة الاشعاع النووي".[47] مما يدفعنا للاستنتاج بأن الهدف من استحداث مثل هذه الهيئات والمواقع الوظيفية هو تشغيل وكسب ولاء بعض الأشخاص.[48]

يمكننا الادعاء بأنّ السلطة في عهد عباس هي امتداد للشكل الذي أسسه الراحل عرفات، وهذا ما سنحاول التعرض له في السطور اللاحقة.

أ- العلاقة مع الجهاز الإداري

يسعى الحاكم للهيمنة على الجهاز الإداري في الدولة النيوباتريمونيالية. تأسست السلطة من المنتسبين لحركة فتح وبعض منتسبي منظمة التحرير الفلسطينية.[49] عمد عباس بصفته رئيساً للسلطة والمنظمة وحركة فتح إلى الاستئثار بالصلاحيات الإدارية، من خلال إلحاق المؤسسات المختلفة برئاسة السلطة أو المنظمة، وذلك على خلفية فوز حماس بالانتخابات التشريعية سنة 2006، وتشكيلها للحكومة، بحيث يتم تحويل صلاحيات الحكومة إلى المنظمة. فتم التراجع عن الخطوات الإصلاحية التي كان من المفترض أن تنهي الخلط بين مؤسسات السلطة والمنظمة. وأعيدت تبعية كلاً من وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا"، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، وقناة تلفزيون فلسطين، والهيئة العامة للاستعلامات، واللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم إلى المنظمة. علاوة على ذلك فاقمت رئاسة السلطة من المشاكل في الهيكل الإداري الوظيفي للسلطة، وزادت من الأعباء المالية الملقاة على كاهل السلطة، وذلك من خلال قرارات الترفيع والتعيين، حيث إنّ "بعض التعيينات لم يراعَ فيها الأسس والقواعد السليمة في التعيين".[50]

عقب الانقسام تمّ تقنين هيمنة الرئاسة عبر إصدار عدة قرارات وسنّ قوانين تتعلق بالوظيفة العامة، فصدر قرار بقانون ينص على "فصل كل موظف لا يلتزم بالشرعية"،[51] والمقصود هنا بالشرعية هو رئاسة السلطة المتمثلة بعباس. تبع ذلك قرار مجلس الوزراء رقم 18، الصادر في 2007/9/13 والقاضي باعتبار إجراء الفحص الأمني (السلامة الأمنية) شرطاً للتعيين في الوظيفة العمومية.[52] وبالتالي كل من "تشتبه" الأجهزة الأمنية في انتمائه السياسي المعارض، أو عدم ولائه لرئيس السلطة يتم رفض توظيفه. وبحسب د. عمار الدويك، مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان؛ كل من يوجد له "ملف" أمني يشير إلى أنه منتمي لحركة حماس، أو لاحقاً تابع لمحمد دحلان، المنافس القوي لعباس داخل فتح، والذي تمّ فصله واتهامه بقضايا فساد، يتم رفضه أمنياً؛ ويحرم من التوظيف. وبالرغم من قرار المحكمة العليا بإبطال العمل بـ"الفحص الأمني" إلا أنّ مؤسسات السلطة لم تستجب لذلك، وما زالت "السلامة الأمنية" موجودة.[53]

استخدم الرئيس الرواتب كأداة للتحكم والسيطرة، ولم يقتصر الأمر على رواتب موظفي السلطة بل تعداه للتحكم بمخصصات المنظمة،[54] حيث تمّ قطع رواتب بعض الموظفين بذريعة "تمردهم" على الشرعية، كما حدث مع موظفي قطاع غزة الذين لم يلتزموا بقرار عدم الالتحاق بأعمالهم، عقب الانقسام، في حين دفعت رواتب الذين تخلفوا عن العمل. وتمّ فصل نحو 700 موظفاً في الضفة بذريعة عدم احترامهم للشرعية، بحسب الدويك عاد معظمهم لوظيفته فيما بعد بأحكام قضائية. علاوة على قطع رواتب ستين من الأسرى المحررين من سكان الضفة الغربية.[55] وعندما اجتمع الأسرى مع رئيس الوزراء د. محمد اشتية لبحث قضيتهم أجابهم: "الحل لدى اللواء ماجد فرج والرئيس، فذلك يحتاج إلى توقيع الرئيس".[56]

لم يتوقف الأمر عند ذلك؛ بل تمّ استخدام رواتب الموظفين كأداة للضغط على حركة حماس من أجل إنهاء سيطرتها على قطاع غزة، بالإضافة إلى الضغط على المعارضين في داخل فتح، فكان قطع رواتب موظفي غزة الموالين لدحلان، وتخفيض رواتب باقي الموظفين ما بين 30%-50% من قيمة الراتب.[57] وعلى الرغم من قرار المجلس المركزي بوجوب صرف كامل الرواتب والتراجع عن هذه الخطوة، إلا أنّ الرئيس بقي متفرداً بقراره، وماطل في الالتزام بقرار المجلس المركزي بذريعة وجود "خلل فني".[58] تزامن ذلك، في الضفة، مع قطع رواتب نواب كتلة التغيير والإصلاح، المحسوبة على حركة حماس، في المجلس التشريعي سنة 2018، دوناً عن باقي الكتل النيابية.[59] ولم يتم تحويلهم للتقاعد أسوة بزملائهم. بينما قطعت رواتب نواب الكتلة في غزة بعد الانقسام.

ب- العلاقة مع السلطة التشريعية

يسيطر الحاكم في الأنظمة النيوباتريمونيالية على السلطة التشريعية. قام عباس عقب الانقسام بتعطيل عمل المجلس التشريعي، وانتهى الأمر بإعلانه حلّ التشريعي بتاريخ 2018/12/23. تولى الرئيس مهام السلطة التشريعية طوال فترة تعليق عمل المجلس، من خلال إصدار قرارات تحمل صفة القانون، معظمها لا يحمل صفة "الضرورة الملحة" التي توجب إصدارها كما ينص القانون الأساسي المعدل، حيث بلغ عددها 284 قراراً بقانون في الفترة الواقعة ما بين 2005 وحتى تموز/ يوليو 2020.[60] وتعادل ثلاثة أضعاف القوانين التي أصدرها المجلس التشريعي في الفترة ما بين سنتي 2004-1994، والتي بلغت 85 قانوناً.[61] وبحسب الدويك تمّ التوسع في إصدار قرارات بقوانين دون ضبط "حالة الضرورة". فعلى سبيل المثال؛ تمّ إصدار قانون الاتصالات ولم يطبق، فإذا كانت هنالك حالة ضرورة لماذا لم يطبق. كما أنّ إصدار بعض القوانين جاء بهدف خدمة بعض الأشخاص، كقانون هيئة مكافحة الفساد الذي تمّ تعديله بحيث يسمح للرئيس بالتمديد لرئيس الهيئة رفيق النتشة، وبالفعل تمّ التمديد له مرتين. ثم تمّ إصدار قانون آخر يعدل بند يتعلق بالسماح بازدواج جنسية رئيس الهيئة، وذلك لإفساح المجال لرئيس الهيئة الجديد د. أحمد البراك بتولي هذا المنصب كونه يحمل جنسية مزدوجة.

يأتي القراران بقانون 4 و12 لسنة 2020، كمثال إضافي على خدمة القوانين لفئات متنفذة. يتناول القراران تعديل قانون مكافآت ورواتب أعضاء المجلس التشريعي، وأعضاء الحكومة، والمحافظين، وتعديل قانون التقاعد العام، بحيث "أضاف شريحة كبرى من كبار الموظفين العموميين إلى أعضاء المجلس التشريعي وأعضاء الحكومة والمحافظين، الذين منحو امتيازاً غير قانوني تمثل بتخصيص رواتب تقاعدي لهم دون أدنى مساهمة أو اشتراك منهم في صندوق التقاعد، ومنح هذه الشريحة، ممن حصلوا على وظيفة بدرجة وزير إضافة إلى الراتب التقاعدي دون المساهمة، الحق باسترداد اشتراكاتهم في صندوق التقاعد منذ توليهم وظيفتهم العامة".[62] "في الوقت الذي تعاني فيه الموازنة العامة من أزمة مالية خانقة وعجز خطير نتيجة لإجراءات القرصنة الإسرائيلية وأيضاً نتيجة للآثار الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا".[63] حيث يقدر بأنّ هذا التعديل سيكلف خزينة السلطة أكثر من 25 مليون شيكل (نحو 7.14 مليون دولار).[64] لكن بعد الضجة في أوساط الرأي العام تمّ التراجع عن القرارين.[65]

ج- العلاقة مع السلطة القضائية

يُهيمن الحاكم في الأنظمة النيوباتريموينالية على السلطة القضائية. بحسب تقرير مؤسسة الحق تعاني المنظومة القضائية الفلسطينية من خلل بنيوي ناتج عن هيمنة وتدخل السلطة التنفيذية.[66] فيما يجادل روبرت تيريسRobert Terris بأنّ النيوباتريمونيالية وما ينتج عنها من زبائنية؛ تشجع على دمج القانون العرفي والقبلية في السلطة الفلسطينية، على حساب النمط الديموقراطي "القانوني"، بحيث يصبح هنالك تعددية قانونية داخل السلطة الفلسطينية، قانون عشائري مع القانون المعمول به في المحاكم. يعزو تيريس عدم رغبة قيادة السلطة في توحيد القوانين إلى مصلحتها في وجود مثل هذه التعددية التي توجد منافسة بين الأفراد والمنظمات، مما يعزز من هيمنة الحاكم الفرد وولاء الأفراد له. فتوحيد المنظومة القانونية يقوي الجهاز القضائي، ويضمن حقوق الأفراد. لكن ذلك سيضعف من دور رؤساء العشائر والوجهاء في حلّ الإشكاليات، والذين تربطهم بالحاكم علاقة "زبائنية"، توفر لهم الدعم المادي والمعنوي في التوظيف والرواتب وغيرها، في مقابل ضمان الولاء للحاكم، الذي سيعتمد عليهم في تعزيز سلطته السياسية من خلال المنفعة المتبادلة.[67]

انتهجت السلطة منذ نشأتها سياسة قائمة على تقوية العشائر وإعطائها شرعية في فرض القانون والنظام، تمثل ذلك بإنشاء ما يعرف بالهيئة العليا لشؤون العشائر. وبحسب المحامي (ع. ف) كثير من الجرائم يتم حلها عن طريق الحكم العشائري، بل إن الجهات التنفيذية كالشرطة والقضائية تشترط في حلّ المنازعات والإفراج عن المتخاصمين وجود صكّ صلح عشائري.[68]

تمظهر تغول السلطة التنفيذية في بداية فترة عباس بإدخال تعديل على طريقة تعيين قضاة المحكمة الدستورية، ففي آخر يوم من أيام المجلس التشريعي من سنة 2005 والذي كانت تسيطر عليه حركة فتح، واستباقاً لقدوم المجلس الجديد الذي يحمل أغلبية لحركة حماس، تمّ إقرار تعديل ينص على تعزيز سلطة الرئاسة وتحكمها بالمحكمة الدستورية، فبموجبه أصبح للرئيس سلطة الانفراد بتعيين قضاة المحكمة بالتشاور مع مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل. بحيث يتم الانتقاص من سلطة المجلس التشريعي، فسابقاً كان يتم تعيين قضاة المحكمة بترشيح من الرئيس، وتزكية من مجلس القضاء الأعلى وموافقة التشريعي.[69] لم يتوقف الأمر عند ذلك؛ بل أصدر الرئيس قراراً بقانون بتاريخ 2012/10/30 يتعلق بتعديل قانون المحكمة، فتحولت بموجب هذا التعديل إلى ذراع للسلطة التنفيذية بدل أن تكون ذراعاً لمبدأ سمو الدستور، فهنالك سيطرة مطلقة لرئيس السلطة في تعيين قضاة المحكمة وحذف أي دور للجمعية العامة للمحكمة، بالإضافة إلى انفراد الرئيس بعملية استبدال أعضاء المحكمة دون أي ضوابط أو معايير وإحالتهم للتقاعد.[70]

بلغ التغول ذروته بتاريخ 15/7/2019 من خلال إصداره قرارين بقانون بشأن تعديل قانون السلطة القضائية وتشكيل مجلس قضاء أعلى. يشكل كلا القرارين اعتداء على القانون الأساسي، والمبادئ والقيم الدستورية؛ وخصوصاً مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات واستقلال القضاء. فتم إحالة ربع عدد القضاة إلى التقاعد، ومنح مجلس القضاء الأعلى الانتقالي، الذي انفرد الرئيس بتشكيله، صلاحيات واسعة جداً على السلطة القضائية، من قبيل العزل والإحالة على التقاعد المبكر والإحالة إلى وظائف أخرى وإعادة هيكلة السلطة القضائية بأكملها.[71]

توج الرئيس عباس هيمنته على السلطة القضائية بإصدار مجموعة من القرارات بقانون والمراسيم (38+39+40) المتعلقة بالسلطة القضائية، وذلك بتعيين رئيس المحكمة العليا رئيس المجلس القضائي، وندب القضاة وإنهاء خدماتهم وإحالتهم على الاستيداع والتقاعد المبكر، وهذه القرارات بحسب بيان صادر عن مؤسسات للمجتمع المدني تجعل القضاة "مهددين بأمنهم الوظيفي ويؤثر على حيادهم واستقلاليتهم، في مخالفة واضحة وصريحة لمبدأ عدم قابلية القضاة للعزل. وتزامن صدور هذه القرارات مع إحالة ستة قضاة من القضاة المنتدبين إلى التقاعد المبكر، الأمر الذي يعتبر بمثابة عزل للقضاة خلافاً لأحكام القانون، وهو أمر يضاف إلى جملة من الانتهاكات للقواعد الدستورية والمعايير الدولية والمبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية الصادرة عن الأمم المتحدة".[72]

د. العلاقة مع قوى الأمن

يسيطر الحاكم في الأنظمة النيوباتريمونيالية على قوى الأمن من خلال تجنيد أشخاص موالين. يُفترض وبحسب القانون الأساسي أن تتبع بعض الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية. لكن مع فوز حماس بانتخابات 2006 وقبل تشكيل الحكومة تمّ تغيير النظام، "فالمخابرات هي تابعة للرئيس من أصله، ولكن الأجهزة الأخرى تتبع وزير الداخلية. فاستحدثوا منصباً أسموه مدير عام الأجهزة الأمنية، ويكون بين الأجهزة والوزير فأصبح الوزير بدون سلطة على الأجهزة".[73] مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأمن بمجمله يتبع للرئيس.

ينتسب معظم أفراد وقيادات الأجهزة الأمنية لحركة فتح، بل إن هنالك بعض الأجهزة الأمنية كالأمن الوقائي، بحسب رئيس الوزراء الحالي اشتية قد تمّ تعيينه بالكامل من قبل أعضاء حركة فتح.[74] وكما أسلفنا يتم توظيف الأفراد بعد اجتيازهم فحص "السلامة الأمنية"، بحيث يتم ضمان التزامهم بـ"الشرعية"، أو بلغة أخرى: الولاء للرئيس.

يحتكم قادة الأجهزة الأمنية لتعليمات وأوامر الرئيس، ولا توجد أي قيمة فعلية لقرارات الأطر القيادية الفلسطينية الأخرى فيما يتعلق بعمل الأجهزة. تمظهر ذلك وبشكل واضح عقب تنسيب المجلس الوطني والمجلس المركزي لـمنظمة التحرير الفلسطينية؛ بوقف التنسيق الأمني مع الإسرائيليين.[75] وعدم التزامها بهذا القرار.

تنقاد الأجهزة الأمنية بشكل كامل لأوامر الرئيس، الذي يهتم بالمقابل بتمييزهم على مستوى الرواتب، فمتوسط الأجر الشهري لموظفي القطاع الأمني يزيد عن متوسط الأجر لموظفي القطاع المدني بنحو 15%.[76] في مقابل هذه الرعاية والتمييز يضمن الرئيس ولاء الأجهزة. كمؤشر على ذلك نشاهد يافطات على واجهات مباني بعض الأجهزة تحوي صورة الرئيس مسطور عليها كلمة "بايعناك".[77] في المقابل يتم معاقبة من يُشك في ولائه من أفراد الأجهزة الأمنية، كما حصل مع نحو 200 عسكري، تمّ قطع رواتبهم بذريعة مناصرتهم دحلان.[78]

 2- العلاقة مع أصحاب رؤوس الأموال

تمتاز الأنظمة النيوباتريمونيالية بريعية اقتصادها.[79] بحيث تقوم العلاقة بين الحاكم ورؤوس الأموال على السعي وراء الريع (التربح) Rent-Seeking، باستخدام سلطة الدولة لإعادة توزيع الثروة بين مجموعات مختلفة دون إيجاد ثروة جديدة.[80] ترسخ في سنة 2007 التحالف بين رؤوس الأموال الفلسطينيين من جهة، وحركة فتح وقادة الأجهزة الأمنية من جهة أخرى. بحيث تأسست رأسمالية فلسطينية قائمة على المحسوبية والزبائنية، تولدت عن العلاقة بين الحاكم والرأسماليين المقربين من السلطة، الذين يتم منحهم الأفضلية لكسب عوائد أعلى من غيرهم، مقابل التماهي مع السلطة الحاكمة.[81]

استفاد الرأسماليون الفلسطينيون من العديد من الإصلاحات المؤسسية والقانونية التي نفذتها السلطة، ومن خلال اتباع "إسرائيل" لسياسة "السلام الاقتصادي" القائمة على تسهيل التجارة، وتعزيز فرص الشراكات الاقتصادية الإسرائيلية الفلسطينية. ففي سنتي 2008 و2010 نظمت حكومة فياض مؤتمر الاستثمار الفلسطيني في بيت لحم. حضر المؤتمر، بتسهيل من الإسرائيليين، مستثمرون فلسطينيون، وعرب، وإسرائيليون، ودوليّون، وقد أسفر عن عدة مشاريع اقتصادية واسعة النطاق تشمل رأس مال فلسطيني، وعربي، وإقليمي، بمشاركة ضمنية من المصالح التجارية الإسرائيلية. بدأ ذلك في إنشاء مدينة "روابي"، وتطوير المناطق الصناعية القائمة، بالإضافة إلى تطوير القطاعين المصرفي والمالي وتحفيز الاستثمارات في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.[82] علاوة على ذلك تمّ في سنتي 2011 و2014 بموجب مراسيم رئاسية تعديل "قانون تشجيع الاستثمار في فلسطين"، بحيث منحت الشركات الكبيرة مزايا عديدة، مثل الإعفاءات من ضرائب أرباح رأس المال وغيرها من الحوافز الضريبية وغير الضريبية، وذلك دون الرجوع إلى مجلس الوزراء أو حتى التشريعي، المعطل أصلاً.[83]

3- علاقة الحاكم مع النخب والقطاعات الاجتماعية

تقوم الأنظمة النيوباتريمونيالية ببناء شبكة من المصالح تضم النخب الاجتماعية والسياسية. بحسب هلال تتمظهر الزبائنية في علاقة السلطة مع النخب في عدة مجالات، من أهمها توزيع الموارد وفق الحسابات السياسية بهدف تحصيل الولاء، وتحييد أو احتواء المعارضة السياسية للسلطة بحيث تصبح "الدولة" مستخدماً رئيسياً في المجتمع، بما في ذلك احتكار الوظائف ذات الامتيازات العالية، وضم شريحة واسعة من الانتلجسنيا intelligentsia داخل مؤسسات السلطة، وغض السلطة الطرف عن تلقى بعض مؤسسات المجتمع المدني تمويل خارجي.[84]

تشكلت في عهد عباس شبكة زبائنية تضم النقابات والاتحادات المهنية. حيث توجد سيطرة شبه مطلقة عليها من تنظيم فتح. كما تمّ إغلاق كافة الجمعيات والمؤسسات الاجتماعية التي لا يسيطر عليها التنظيم عقب الانقسام، وأعيد تنظيم بعضها من خلال تعيين لجان إدارية تمّ تزكيتها من الأجهزة الأمنية. وكنتيجة لإجراء انتخابات في ظلّ الانقسام، وما يتضمن ذلك من ملاحقة نشيطي حماس، وإقصاء مناصري دحلان في الضفة الغربية، تمت الانتخابات في كثير من الهيئات النقابية دون وجود منافس حقيقي لقائمة فتح، والتي فازت في بعض المواقع بالتزكية.

تهتم الأنظمة النيوباتريمونيالية ببناء شبكة رعاية اجتماعية مرتبطة بالحاكم، وبدل أن ينسب الفضل في هذه الرعاية للدولة ومؤسساتها، يتم نسبته للرئيس أو لحزبه. يتمظهر ذلك في السلطة بالمنح التي ترتبط بالرئيس. كمنح الرئيس للطلبة المتفوقين، والأسرى المحررين، والحج. يضاف إلى ذلك "مساعدات" باسم الرئيس لبعض الأسر المحتاجة، أو توزيع الطرود الغذائية، كما حدث في مواجهة وباء الكورونا،[85] وكذلك تبرعه بأجهزة طبية لبعض المستشفيات.[86] أو المنح المالية التي يتحكم فيها حزب الرئيس، كمنحة المتضررين من الكورونا.[87] من خلال لجان الطوارئ والتي تعدّ "لجان حركية تابعة لتنظيم فتح".[88] فمنحة الـ 700 شيكل (نحو 200 دولار) والتي يُفترض توزيعها على العمال المتضررين من الكورونا، وزعت على أساس الزبائنية. أوضح ذلك رياض كميل رئيس لجنة الطوارئ في وزارة العمل والاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، بتصريحه أن قائمة المستفيدين (35 ألفاً) من مساعدات صندوق "وقفة عز" تضم أسماء لتجار برأس مال كبير، وموظفين لم يتوقفوا عن العمل، وأسماء لأفراد من العائلة نفسها.[89]

4- العلاقة مع القوى الخارجية

يجادل سنايدر Snyder بأنّ الأنظمة النيوباتريموينالية، في أغلب الحالات، تستفيد من الرعاية الأجنبية، التي تقدم مساعدات عسكرية ومادية تساعد في تغذية الشبكات الزبائنية المحلية.[90] تعتمد السلطة في بنيتها على الرعاية الأجنبية، حيث تأسست برعاية الدول الغربية والمانحة، مقابل توفير الأمن والهدوء. فبحسب د. حسن أبو لبدة عضو الوفد الفلسطيني المفاوض "اجتمعت الدول المانحة في 1993/10/1، وقررت تمويل السلطة الفلسطينية الوليدة بمبلغ 2.4 مليار دولار، الثمن الذي كان مطلوب دفعه (في المقابل) أن يكون هنالك هدوء واستقرار".[91] يرتبط التمويل الغربي بغاية أساسية وهي الحفاظ على استقرار "إسرائيل"، فيتم التعمية من خلال رفع شعار "تنمية فلسطين" وبالادعاء أن الهدف هو تحقيق الاستقرار والأمن في المنطقة، وفي حقيقة الأمر الهدف هو ضمان أمن واستقرار "إسرائيل".[92]

تجسد تأثير القوى الخارجية على السلطة بشكل واضح عقب فوز حماس بانتخابات 2006؛ عندما اشترطت الرباعية الدولية[93] ثلاثة شروط سياسية للاعتراف بأي حكومة فلسطينية واستمرار دعمها، وهي: الاعتراف بـ"إسرائيل"، نبذ العنف، الالتزام بالاتفاقيات الموقعة بين م.ت.ف و"إسرائيل".[94] بحسب د. عمر عبد الرازق أعطيت حماس مهلة ثلاثة شهور بعد تشكيلها للحكومة، التي بدورها رفضت هذه الاشتراطات، فنتج عن ذلك توقف تحويل "إسرائيل" لأموال الضرائب، ووقف المساعدات الأجنبية،[95] كما أوقفت البنوك الحسابات التشغيلية للحكومة خشية من العقوبات الأمريكية، مما تسبب في توقف رواتب موظفي السلطة.[96] وهذا ما دفع حماس لإعلان "احترامها" الاتفاقيات الموقعة ومشاركتها في حكومة "وحدة وطنية" عقب اتفاق مكة في شباط/ فبراير 2007. إلا أنّ "إسرائيل" ومعظم الدول المانحة واصلت مقاطعة حكومة الوحدة، بذريعة رفضها مشاركة حماس بأي حكومة فلسطينية. وبالتالي عجزت حماس عن توفير الرواتب، فتولت الجامعة العربية صرف مبالغ جزئية من الرواتب عن طريق مكتب الرئيس،[97] وبالتالي أسهم العامل الخارجي في تعزيز صلاحيات الرئيس.

في سياق متصل؛ تعتمد السلطة في ميزانيتها على عوائد الضرائب التي تجبيها "إسرائيل" من خلال سيطرتها على المعابر، والتي تصل إلى ثلثي (67%) إيرادات السلطة.[98] وبدون هذه العوائد لن تستطيع دفع الرواتب. يدرك الاحتلال الإسرائيلي ذلك؛ وهذا ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu للعمل بنصيحة مستشاريه الأمنيين، وتحويل أموال الضرائب التي احتجزها، بعدما قررت السلطة الانضمام للمحكمة الدولية سنة 2015. أعلن نتنياهو بأنّه قبل توصية الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والتي تنص على تحويل أموال الضرائب التي حجزها "حفظاً لمصالح إسرائيل". في هذا السياق ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، ومؤسسات دولية وعالمية بشكل كبير على "إسرائيل" لإعادة ضخّ أموال الضرائب، خوفاً من تدهور الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية الذي يمكن أن يتطور إلى فوضى عارمة تهدد أمن السلطة و"إسرائيل" أيضاً. وبالتالي أوصت أجهزة الأمن الإسرائيلية بتحويل أموال الضرائب حتى لا تنهار السلطة وينهار معها أمن "إسرائيل".[99]

الخلاصة والاستنتاجات

تعاني السلطة من "مأزق" بنيوي؛ يحول دون نجاح كل محاولات إصلاحها. مما يدفعنا للاستنتاج بأنّ هذا المأزق أعمق من أنّ يحله إجراء الانتخابات، فإجراءها سيعيد إنتاج المأزق، ولن ينهيه. فالمأزق غير مقتصر على فقدان الشرعية السياسية، بل يتعداه إلى شكل النظام السياسي، الذي يغلب عليه صفة النيوباتريمونيالية، وما نلمسه من فساد، وانتهاك لحقوق الإنسان، وتآكل للشرعية هي أعراض لمعضلة نيوباتريمونيالية السلطة.

توجد عوامل ذاتية وموضوعية تؤثر على بنية النظام السياسي للسلطة الفلسطينية. من هذه العوامل ما وقّعت عليه السلطة من اتفاقيات، وما التزمت به من شروط دولية، والتي تحول دون انعتاقها من الشكل النيوباتريمونيالي. فلو افترضنا توفر الإرادة عند الفاعلين السياسيين للتحول الديموقراطي وتبني النظام الدستوري القانوني، فلن يتمكنوا من ذلك، بفعل العامل الخارجي. كمؤشر على ذلك: عدم تعاطي الدول الغربية مع نتائج انتخابات 2006؛ وتجسد ذلك بشروط الرباعية، واعتقال الاحتلال لنواب حماس.

بنيت السلطة الفلسطينية للقيام بدور وظيفي وهو حفظ الأمن والهدوء، وتمّ تقييدها باتفاقيات والتزامات تتضمن "التنسيق الأمني". ولأنّ تحقيق الهدوء هو الهدف الأسمى للدول التي رعت إنشاءها، تمّ التغاضي عن الحكم الفردي للرئيس عباس، وذلك لحاجتهم إلى شريك يعمل بموجب شروط الرباعية. إنّ أي محاولة للتحلل من هذه الالتزامات ستصطدم بحقيقة اعتماد هذه السلطة في مواردها على عائدات الضرائب (المقاصة) التي تتحكم فيها "إسرائيل". ومن ثم لا تستطيع مرجعية السلطة المتمثلة بمنظمة التحرير اتخاذ أي خطوة في اتجاه تغيير "نهج" السلطة أو "دورها الوظيفي" طالما أنها تخضع للشروط التي تكونت بموجبها السلطة.

تحولت السلطة عن الهدف الذي أنشأت من أجله وهو إقامة "الدولة"، وتحقق ما كان يخشاه مهندس اتفاقية أوسلو وهو الرئيس عباس؛ بقوله: "هذا الاتفاق هو عبارة عن قاسم مشترك بين عدوين، وهو يحمل في أحشائه إمكانية إقامة دولة مستقلة، إلا انّه قد يتحول إلى تكريس للاحتلال لسنوات أخرى".[100] وبالفعل تحولت السلطة وأجهزتها الأمنية من مؤسسات أنشأت لتحقيق هدف "الدولة" المستقلة، إلى مؤسسة تهدف للحفاظ على بقائها، حتى لو كان الثمن تكريس الاحتلال. فهي تناضل بالدرجة الأولى كي تبقى حية، تدافع بكل قوة عن وجودها وعن استمرارها، بالرغم من عدم تحقيق الهدف الذي أنشأت من أجله، لأن هنالك شبكة من المصالح والمنتفعين من وجود هذه المؤسسة. لقد تمّ "تصميم" هذه السلطة كي تحافظ على موظفيها الذين يعدون بعشرات الآلاف وارتبطت مصالحهم وأمورهم المعيشية بوجودها، بغض النظر عن "دورها الوظيفي". فمن يريد الخروج من المأزق، وتغيير "نهج" السلطة عليه أن يغير "بنيتها" وهذا أمر قد يكون صعباً، وربما كان الأقرب للتحقق أن يغير من بنيته ليعود مرة ثانية حركة تحرر وطني، لا يتقيد بأي التزامات، فالتجربة أثبتت صعوبة إن لم يكن استحالة الجمع بين "نهج" السلطة و"نهج" حركة التحرر الوطني.

اخر الأخبار