نص قصصي

قطار القاهرة وحنطور المحطة

تابعنا على:   20:15 2021-02-19

محمد جبر الريفي

أمد/ تعلقت عيناي بالقطار القادم من مصر منذ الصغر كنت اسمع ضجيجه وانا فوق سطح بيتنا الذي لا يبعد كثيرا عن سكة الحديد.. .. رأيته للمرة الأولى وانا في السابعة من عمري مقدمته بلونها الأسود الذي ينبعث من أعلاها الدخان وصفيره الذي يصم الاذان وكانت ثورة 23 يوليو المجيدة في مصر حديثة العهد لذلك شاع الحديث في تلك الأيام عن قطار الرحمة الذي يجلب أكياس الطحين وعن اللواء محمد نجيب اول رئيس لجمهورية مصر ولم يكن اسم جمال عبد الناصر قد تداولته وسائل الاعلام بعد ..

قطار اسود للبضائع محملا بالبقر والخراف وصناديق الطماطم والموز واكياس الأسمنت وقطار آخر للزكاب محملا بالصحف والمجلات المصرية الأهرام والجمهورية واخبار اليوم.. آخر ساعة والمصور وروز اليوسف.. بعد وصول قطار الركاب تنطلق اصوات باعة الصحف في شارع عمر المختار تضج الحركة فيه خاصة عند سوق العملة القريب من المسجد العمري هناك في الشارع الصغير المتجه شمالا إلى مركز شرطة المدينة القديم كان يوجد ستوديو كوكو والمصوراتي الأرمني كيغام ..

في عام 58 ركب اخي القطار مسافرا للعمل في السعودية ليلتها امتلأت غرفة الضيوف بالمودعين وكان على اخي ان يرتب حقيبة ملابسه التي انتفخت بعد مغادرتهم اما انا وابي وبعض اقاربي فقد سهرنا حتى قرب الفجر و في الساعة الخامسة كنا في المحطة القريبة لوداعه بعدها بدقائق انطلق القطار وكان جاهزا للسير.. دوت صفارته وبدت عجلاته الحديدية تسير على سكة الحديد.. سكة طويلة تخترق صحراء سيناء حتى محطة باب الحديد في القاهرة.

منذ عام 48 وصخب القطار من القاهرة إلى غزة لا ينقطع هديره وزعيق صفارته مارا بين الغيطان والحقول والصحراء وعابرا فوق قناة السويس كالثعبان و كنت وانا في البيت أو فوق السطح اسمع صفيره وعند ذلك ينتفض قلبي متلهفا مشتاقا لركوبه وجاء عام 64 لتحتويني إحدى عرباته لقد تهيأت واستعدت للصعود إليها لذلك أسرعت بين زحام الركاب و جلست فيها بجوار النافذة وكان ذلك في ذهابي للالتحاق بجامعة القاهرة للدراسة قال لي ابي في ليلة السفر عليك أن تنتبه إلى دراستك لحظتها شعرت اني بحاجة لأن أقول شيئا لأبي..

ان اطمأنه بالقول اني ذاهب للجامعة في مصر لادرس فقط.. انا لم اذهب للفرجة. والسياحة والنظر للطالبات .. اما صديقي عمر فلم يستطع إخفاء حالة القلق التي انتابته منذ ركوبه في القطار.. كان يتمنى لو طلع اسمه في مكتب تنسيق الوافدين بالدراسة في جامعة القاهرة أو جامعة عين شمس لذلك اخذ حقيبته و نزل في محطة بنها ليستقل قطارا اخر إلى جامعة الإسكندرية.. في محطة باب الحديد رأيت عربة الحنطور واقفة ورأيت صاحبها وجهه الاسمر وفمه الواسع الذي يعلوه شارب كث وعمامته وسوطه الجلدي الرفيع إلى يلهب به ظهر الحصان..

جلست بجواره ورايته وهو ينهر الحصان حيث الطريق إلى عزبة الورد غير معبدة هناك أمام البيت نزلت وانزلت حقيبتي وأصبحت في حضرة ابن الخال ابو احمد لقد جاء إلى مصر مع الخريجين التي وظفتهم مصر في المحافظات براتب عشرة جنيهات مصرية في الشهر وسكن في هذا البيت الصغير بجوار الفلاحين البسطاء الكرماء.. أصبح صديقا لبعض أهالي العزبة شلضم صاحب البقالة وبيومي بائع السجائر في الكشك القريب وحسنين الخباز ..

أما أنا فقد بقيت اذهب الى الكلية كل يوم اقطع سكة الحديد في طريقي إلى الكلية وفي بعض المرات أرى القطار المتوجه إلى الصعيد...هاهو نفسه الذي يتجه إلى غزة هدير عجلاته وزعيق صفيره ونوافذ عرباته في اجازة نصف العام الدراسي في الساعة الخامسة صباحا كنت في محطة باب الحديد مرة أخرى حقيبتي بيدي وكان أكثر من عربة حنطور واقفة هناك و أكثر من رجل اسمر يحمل سوطا يلهب به ظهر الحصان وكان بودي أن اركب بجانب واحدا منهم لكني في هذه المرة انا هنا تتملكني السعادة في انتظار ركوب إحدى عربات القطار .

اخر الأخبار