المفسدة المطلقة . . عن الحرية أتحدث !

تابعنا على:   15:06 2021-01-22

د. رياض الأسطل

أمد/ من أكبر خطايا عالم الشرق أن من رواده من نظر إلى الحرية على أنها التمرد المطلق على كل عادات المجتمع وتقاليده، ووصفوه بأنه مجتمع عفن ومتخلف، يكبل حرية الإنسان، ويحد من إنسانيته وسعادته وإرادته الحرة. ومنهم من رأوا الحرية في التخلص من اللباس التقليدي، ودعوا المرأة إلى خلع الحجاب، الذي (احتل رأس المرأة طويلا) . ومنهم من نادى بحرية الجسد، وهي المناداة التي قادت إلى فوضي اجتماعية وأخلاقية كبيرة. ومنهم من نادى بخلق روابط اجتماعية وثنائية جديدة بين الرجل والمرأة، بما فيها علاقات الزواج التي زعموا أنها تخرج من إطار التنظيم الديني إلى إطار التنظيم القانوني والمدني الحر. بل ذهب بعضهم إلى حد المناداة بحرية العلاقة بين الرجل والمرأة، على أساس أنها من الخيارات الشخصية التي تشمل حرية القرار، وحرية الجسد، وحرية صياغة العلاقة الجنسية، وإلى حد إباحة الممارسة الجسدية والغريزية المحرمة، طالما أنها تتم بالتوافق بين الطرفين، أي أنهم، وباختصار، لم يتركوا ممارسة فعلها الغرب الإباحي إلا مارسوها ودعوا إليها !.

المفهوم الحقيقي للحرية:

قيل إن الحرية تعني امتلاك الشخص لإرادته وقدرته على اتخاذ القرارات دون تأثيرٍ جبريٍّ أو طوعيٍّ من طرفٍ آخر. وقيل هي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية، فهي تشمل التخلص من العبودية لشخص أو لجماعة أو للذات نفسها، والتخلص من الضغوط المفروضة على شخص ما لتنفيذ غرض ما !. وتعتبر الحرية السياسية من بين حريات كثيرة يسعى الإنسان للحصول عليها. وهي مرتبطة بالتحرر من الاستبداد والاستعمار والتبعية القهرية. ومثل ذلك يمكن أن يقال عن الحريات الشخصية والاقتصادية والاجتماعية.

ومن هنا، قيل إن الحرية الحقيقية:

١ - هي الحرية التي تؤدي إلى تحرر الفرد والجماعة والأمة من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وتحول بينه وبين تحقيق ذاته وبناء نفسه: شخصيا وأسريا واجتماعيا ووطنيا.
٢ - وهي التي تمكن الإنسان الفرد (الشخص) من الاندماج في مجتمعه، وتعطيه فرصة المشاركة الفاعلة في تنمية الجماعة وتطوير بنائها الحضاري ؛ ولذلك ساوي بعض علماء الاجتماع بين "الحرية الشخصية" و"الحرية الاجتماعية"، والتي تجعل حرية الفرد جزءا من حرية الجماعة، وليس في التمرد عليها !
٣ - وهي الحرية التي تحرر الإنسان من العبودية لأرباب الأعمال وهيمنة أصحاب رأس المال. فالعامل يعمل لحماية كرامته، والحفاظ على كينونته المستقلة، في ظل العمل الشريف، الذي لا يقدس صاحب العمل، ولا يعطيه حق قيادة عماله كما يقاد القطيع !
٤ - وهي الحرية التي تحمي الأقليات والجماعات الفئوية من هيمنة الأغلبية، وتعطيهم حق المشاركة السياسية والاجتماعية على أسس من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة.
٥ - وهي الحرية التي تحرر الإنسان الفرد من العبودية لذاته، والاستسلام المطلق لتجاربه الشخصية التي قد يكون قد شابها كثير من الألم والقلق والمعاناة الاقتصادية، بحيث دفعته إلى كبت جوانب هامة في فطرته الإنسانية، كرفض الزواج، والإصرار على أنه لا فرق في العلاقة بين رجل ورجل، وإمرأة وإمرأة، وإمرأة ورجل، ورفض النصيحة، باعتبارها مساسا بالحرية الشخصية، والتقوقع في الأنانية المطلقة التي لا تبصر إلا ذاتها، ولا تلتفت لما يلحقه سلوكها بالآخرين من أذى وألم !
٦ - وهي الحرية التي تحرر المواطن وتحميه من الخضوع لرغبات ونزوات الحكام المستبدين، وتعطيهم حق المشاركة السياسية على أساس حقوق المواطنة الصالحة، وحق تولي المناصب التي تتلاءم مع طاقاتهم وقدراتهم وخبراتهم.
٧ - وهي الحرية التي تلبي مطالب الفطرة الإنسانية، ولا تتمرد عليها. فقد جاء الإسلامُ لِيُسعِدَ الإنسانَ في دُنياه وآخِرَتِه، وليلبي كل حاجاته الروحية والنفسية والجسدية. إذ ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعبد الله بن عمرو حين علم أنه يرهق نفسه وجسده بما يخالف الفطرة: [لا تَفْعَلْ، قُمْ ونَمْ، وصُمْ وأَفْطِرْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا]. وقد ورد في الحديثِ: ". . [لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني]. وفي هذا الباب، أثنى النبي، عليه السلام، على فقه سلمان الفارسي حين قال لبعض الصحابة: "إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" . ولأجْلِ ذلك، أيضا، شرَعَ الإسلام الزَّواجَ، وجعَلَ فيه المَودَّةَ والرحمةَ. وحض عليه، حيث قال عليه السلام: [تناكحوا تناسلوا (تزجوا)، فإِنَّي مُكاثِرٌ بكم الأُمَمَ ، ولَا تكونوا كرهبانِيَّةِ النصارى]. وقد ذكر هذا في معرض الحديث عن النهج المختلف وليس في معرض الذم !

بعض النماذج الخاطئة لاستخدام الحرية:

يتضح مما سبق، وبما لا يدع مجالا للشك، أنه:
١ - لا علاقة بين الحرية وبين التمرد على منظومة العقد الاجتماعي محل التوافق، بما فيه من نظم وعادات وتقاليد لا تكبل الإنسان ولا تعرقل نشاطه، ولا تقيد سلوكه السليم، ولا تصادر منطلقاته الإيجابية.
٢ - لا علاقة بين الحرية ومحاصرة الذات وكبتها في قوقعة حلزونية بالغة الضيق، وكبت حقوقها الروحية والنفسية والجسدية، بناء على تجارب فردية، غير قابلة للتعميم.
٣ - لا علاقة بين الحرية وبين الإعراض عن مطالب الفطرة الإنسانية السليمة، بما فيها حق الزواج وحق الإنجاب وحق الشراكة الاجتماعية التي تلبي خصوصية الرجل وخصوصية المرأة، على أسس من العدالة والمساواة من منطلقات فلسفية وحضارية، جعلت من المرأة نصف المجتمع، وشريك أساسي في كل نشاطاته السياسية الاقتصادية والاجتماعية.
٤ - لا علاقة بين الحرية الحقيقية وبين الدعاوى الواهمة عن حرية العلاقة بين الرجل والمرأة، أو عن حرية الجسد، وبما يخرج عن الذوق السليم والفطرة والسلوك الإنساني الراقي ! . ومما لا شك فيه أن المرأة الغربية من اكثر نساء العالم تعرضا للمساس بقيمها الوجدانية والنفسية، وحقوقها الأخلاقية في علاقاتها الزوجية الشريفة، وحقها في الاستقرار الأسري والاجتماعي ! . ومما لا شك فيه، أيضا، أنها تعيش في أكثر المجتمعات تفككا، وأكثرها انحدارا أخلاقيا !
٥ - لا علاقة بين الحرية وبين الفوضى الاجتماعية والتمرد الفردي؛ بحجة تخلف المجتمع وعفن القيم الاجتماعية السائدة فيه ! . لأن مثل هذا الحكم إنما يصدر عن رؤية فردية خاصة، وربما غير صحيحة، وغير مقبولة، وفيها من الاستبداد ومصادرة الرأي الآخر ما يجعلها غير أهل للاعتراف الاجتماعي !

ولكل هذا قال بعض ذوي الاختصاص: [الحرية المطلقة مفسدة مطلقة] .

اخر الأخبار