القدسُ تحكمُ التاريخ

تابعنا على:   13:58 2021-01-17

بكر أبوبكر

أمد/ انطلقت فكرة القداسة للمكان أو الشيء بالعالم، وفي مدينة القدس في فلسطين، في الديانات من الفهم الذي يجعل النظرة الروحية اللامادية مرتبطة بمعلم أو بناء مادي من تراب أو مكان أو حجر أو شجر حيث الدلالة الايمانية الروحية تتجلّى لدى المؤمنين من خلال مكوّن مادي يثير فيهم القاعدة الإيمانية وينمّيها، ويُلهب المشاعر ويزيد الشحنات.

بمعنى أن المقدس الإيماني غير محسوس بالأصل لأنه يتصل بالخالق سبحانه وتعالى، وما ورد عنه من نصوص، وما للمعالم والدلائل المادية إلا مجرد تذكِرة بذاك المقدس.

ومن هنا كانت الكعبة مشرّفة، وكان الحجر الأسود يُقبّل، وكان بيت الله الحرام، وكانت كنيسة القيامة، وكان تمثال السيدة العذراء تذكِرة وليس عبادة لذاته…. وكانت القدس على الأرض تراب كغيرها، ومملكة الرب الحقيقية في السماء كما كان الفهم المسيحي الحقيقي حتى القرن الثامن عشر قبل دخول القدم المسيحية الانجيلية ثم الصهيونية والعقلية التوراتية والمستشرقين الى ساحة الجدل والتسخير الاستعماري للمقدس الروحي.

القدس عاصمة فلسطين الأبدية كما نقول نحن، ولنا ذلك فلم تعرف غيرنا عبر كل التاريخ والدهور مع تعدّد القبائل العربية فيها، وهي القدس التي لا ترتبط بالقداسة إلا بمقدار أنها مؤشر لما غيرها، فهي مؤشر واضح الدلالة على آلام المسيح عليه السلام، ومؤشر الإسراء والمعراج للنبي محمد عليهما السلام، وما كان للنبي موسى عليه السلام أن وطأها يومًا، وهو الذي تُنسب له التوحيدية التي انبثقت عنها التحريفية اليهودية.

الصورة التاريخية المضلّلة التي يفصّلها كَتَبَة التناخ (التوراة، والأسفار اللاحقة بها) الذين اجتهدوا لتكديس نصوص مختلف القبائل والأقوام التي عايشوها، هي صورة الذي ينسب لنفسه ما لغيره، فسرقوا ما طاب لهم من تراث الأمم وأدبياتها وأحداثها ومعاركها وانتصاراتها والتي أدت إلى أن يتقمّصوا هم الدور! وكأن كل تلك الانتصارات أو الوقائع المدونة على حجارة بابل أو مصر أو اليمن تخصّهم بالأمس واليوم! في حين صمتت جميع حجارة فلسطين أن تؤيد الروايات التوراتية بجلّها سواء نسبت لهم أو لغيرهم.

كيف لأصحاب ديانة توحيدية أن يعيشوا مضطهدين! وهو ما حصل! وهم أول من عرف الرب كما يظنون! لذا تحايلوا على حالات فشلهم او تقاعسهم الثقيل بنشر الدعوة التي أمرهم بها الرب (بنص كُتب عليكم دخول المكان للدعوة بالقرآن الكريم) بحمل هذا الكم الهائل من الشعور النفسي بالتفوق على الأخرين! فهم "أبناؤه" المختصين بالرحيق المختوم، فانتسبوا للرب حصريًا! لا يحق لأحد أن يشاركهم فيه! ما دوّنوه بورقهم.

ولما لم يجد أتباع الرب مقابل الوثنيين الا التحقير والرفض والحرب لأسباب عديدة تعملقت فيهم فكرة المظلومية والدونية والتي يقابلها التسامي أو الاستعلاء على الآخرين في ذات المساحة النفسية فسطّروا الخرافات وادّعوا البطولات، وقتلوا الأنبياء انتقاما من ذلّهم وجبنهم وتخلي الرب عنهم! فلم يوفروا أحدا ونزّهوا أنفسهم، تمامًا كما يفكر ويظن المتطرفون الاسلامويون اليوم والمتطرفون المسيحيون بل وأولئك المتطرفون القوميون حول العالم.

اجتهد الكهنة التوراتيون في كتابة أو رسم الجغرافيا، ووصفوها جيدا فهي مما يصعب نسيانه عامة لأنها تتعلق بالصورة المُعاشة والممارسة والذاكرة الصورية الأقوى من ذاكرة الكلمات، وهي مسرح الأحداث، ولكن أية أحداث؟

إن الأحداث التي نقلوها بلا أمانة خضعت لعمليات من التشويه (من تناقل ونسيان وخلط عبر مئات السنين…) أو التعديل أوالتحريف المقصود أو السرقة طويلة الأمد بحيث ضمت الى سرد الأحداث وخلطت بها الآمال والأحلام القومية والتطلعات والأوهام والخرافات في نسيج واحد أطلقوا عليه إسم الكتاب المقدس القديم (التناخ)!

(لمراجعة المفكرين الاسرائيليين شلومو ساند وإسرائيل فنكلستاين وزئيف هرتزوغ ونيل أشر سبيلبرغ وأرثر كوستلر، وأميحاي مازار والمفكرين والمؤرخين العرب فرج الله صالح ديب وأحمد الدبش وفاضل الربيعي وابراهيم عباس وعلاء أبوعامر وكمال الصليبي وأحمد قشاش، وعز الدين المناصرة، وزياد منى ود.عصام سخنيني، وبكر أبوبكر علي ما بينهم من اختلاف بتحديد مكان مسرح الأحداث التوراتية وجغرافيته، والمفكرين الاجانب أمثال طوماس طومسون وكيث وايتلام، ونايلز لمكة...الخ).

ولا أحد يدري كيف يتم إضفاء قداسة ما على قصص تنضح بالتناقض من جهة! وتمتلئ بالحث على الخرافة والمعايب واللاقيم تلك التي تم صعقت وجه الأنبياء بها لمصلحة تأليه وتنزيه "الشعب" الإسرائيلي القديم المندثر، ما أسموه هم لوحدهم أنهم "شعب الله المختار" والذي هو نفسه أي إلاههم لم يسلم من يد الطعن في سيرته بالتوراة، فهو من تخلى عنهم، وكأن لهم عليه فرضًا وليس العكس!

القدس عندما كتبت اسمها على عتبة الصحراء في الفترة السليمانية الداوودية من عصر تاريخ التوراة كانت قرية لا قيمة لها ، فلا أنهار ولا عسل ولا لبن ليدّعي مدعي القداسة انتسابها لهم! أي للمنتمين روحيًا وليس ماديا للقبيلة القديمة المندثرة، أو المدعين الانتساب لليهودية بكل ما فيها، وكأن هؤلاء الغُزاة الموجودين اليوم هم أنفسهم الأقدمين!؟ قد تربوا ونموا سِرًّا عبر الزمن تحت التراب ليظهروا فجأة وكأنهم هم ذواتهم أو مستنسخين عنهم. (للنظر في كتاب آرثر كوستلر حول القبيلة ١٣ وكتاب شلومو ساند خرافة "أرض" إسرائيل واختراع "الشعب" اليهودي).

القدس المحكومة بالجغرافيا إن كانت هي ذاتها أورشليم فالتناخ (التوراة وملحقاتها) تذكر بصراحة جغرافيا مختلفة ومتباعدة لثلاث قرى تسمى القدس، وواحدة بجغرافيا أخرى اسمها أورشليم (يراجع فاضل الربيعي في القدس ليست اورشليم، ولمراجعة ذات التوراة).

وفي ظل عجز كل الصخور وحبّات الرمل عن إثبات وجود أي من القرى الاربعة التوراتية في فلسطين تظهر الروايات في اليمن القديم بوضوح لتشير لقرى أو مدن أومواقع أربعة لقبيلة اندثرت تحت الرمال من زمن بعيد، كما اندثر قوم صالح وقوم لوط وقوم أو قبيلة نوح والأقوام من عاد وثمود وغيرهم لا فرق.

أن قبائل أو أقوام القرآن الكريم بغالبها قد ذكرت للعبرة والدرس والتربية والحكمة للمؤمنين، وليس للتفضيل -لمن ذكر عنها الفضل- لذات القبيلة أو جنسها، وإنما هي فضل الله ومنّته عليهم بالجهاد لإعلاء راية دينه والتبشير في زمانهم فقط، الى أن ماتوا أوتفرقوا اواندثروا.

ظن المسيحيون الأوائل أن أمريكا هي أرض الميعاد، وقد صدقوا في ظنهم هذا باعتقادي، فكل الأرض الدنيا بالجمال الطبيعي ويد الإنسان الحانية هي جنة للجميع، كيفما تنظر إليها، وتعمل فيها للإعمار، ولم تكن لتُفصّل أي أرض دنيوية على مقاس قوم على حساب غيرهم، فلكل في الدنيا بحسب عمله وإن لم يكن من حساب مكتمل، فأرض الآخرة هي الحاسمة.

الحواشي:

يقول "مازار" كمثال: "ان النصوص الكتابية ذات الصلة بداوود وسليمان هي بالتأكيد ابداع أدبي من نوع قصص الملاحم البطولية التي تضم قصصًا خيالية....."، يعني مجرد أساطير ابداعية!

2 كانت القدس فترة ما يسمى "الهيكل" الأول المفترض قرية زراعية يسكنها 300 بالغ فقط من أصل 1500 شخص فلا يمكن أن تكون حاضنة لمثل الهيكل الضخم الموصوف بالتوراة. وكتب "ديفد أوسشكين" أنه لا شيء معروف عن "جبل الهيكل" في القرنين 9 و10 قبل الميلاد أي فترة الزمن االمزعوم لبناء الهيكل زمن داوود وسليمان. (ولمراجعة بحث د.عصام سخنيني حول: الهيكل بين الأسطورة وحقائق التاريخ).

كلمات دلالية

اخر الأخبار