الاقتصاد الدخيل

تابعنا على:   21:59 2020-12-25

حسن الرضيع

أمد/ الاقتصاد الدخيل؛ عندما يُهمش التأصيل الفكري للظواهر الاقتصادية المُلحة وتُهيمن أفكار المادية الرأسمالية المتوحشة على الاقتصاديين : التحليل القياسي في الرسائل العلمية نموذجاً.

لا شك أن هناك أهمية بحثية وأكاديمية متعاظمة لربط الجوانب النظرية بالجوانب التطبيقية عند دراسة وتحليل قضايا في العلوم الإنسانية ومن ضمنها الاقتصاد؛ العلم الشائك والذي يمتلك رزماً من التعقيدات, إذ يمكن تعريفه بأنه علم التعارض بين الأهداف, فحدوث التوازن أو الاستقرار الاقتصادي أمراً مستحيلاً, ولا يمكن لباحث أو متخصص الإلمام الكافي بديناميكيات عمل الاقتصاد وفهم شامل للتغير أو التذبذب في مؤشراته الكلية وتأثره وتأثيره بالمتغيرات غير الاقتصادية.
لكن أن يستحوذ التحليل القياسي أو ما يُسمى بأساليب القياس الاقتصادي بالجزء الأكبر من محتوى الرسائل العلمية في بعض الجامعات العربية, وأن يُشكل الحيز الأكبر من الوقت المسموح به لنقاش الأساتذة من حملة الدكتوراه في مناقشات رسائل الماجستير والدكتوراه فهذا يحتاج لإعادة نظر وقراءة مُعمقة تردُ الاعتبار للتأصيل النظري والتحليل التاريخي للظاهرة قيد الدراسة مع عدم إغفال قراءة الأفكار للاقتصاديين وتحليلها بشكل يؤسس لتطور المجتمعات, والكشف عن التحديات التي تواجه رفاهية الأفراد, وأساليب الإنتاج وآليات توزيع عادل للدخل والثروة , إضافة لنمو النواتج الكلية وما ينجم عنها من حلول لمشكلات الإنسانية المُستعصية وعلى رأسها نمو فائض الإنتاج وعدم القدرة على تصريفه, إضافة لاتساع الفجوة بين الشرائح المجتمعية في حدود الدولة الواحدة أو بين الدول, كذلك التعايش المستمر بين التضخم والركود وتربع مشكلة الركود التضخمي على عرش الاقتصاد العالمي في أكثر من حقبة زمنية, وما ينجم عن ذلك من تفاقم آفات الفقر والجوع والعوز الاجتماعي والقهر وكمحصلة ليست أخيرة انهيارات مجتمعية وانتشار ظواهر اجتماعية دخيلة في المجتمع, وتؤدي إلى فوضى وعدم تحقق الآمان وبالتالي عدم جدوى وجود رفاهية لبعض السكان في ضوء وجود حرمان في النسبة المتبقية من السكان, وهذا سيجعل من الضرورة أن يعي الاقتصاديين بأهمية وتلازم الأمن وإشباع الحاجات معاً والتأكيد على ذلك في الكتابات الاقتصادية ونقاش الرسائل والبحوث ذات الصلة.
هذه الآفات التي تعاني منها أغلب الاقتصاديات وعلى اختلاف هياكلها وبنيانها لا تُظهرها نتائج القياس الاقتصادي, حيث تُعطي دوماً نتائج مُضللة تُشكل مصدر إطمئنان وقوة لقوى الاستكبار والتوحش الرأسمالي لاستمرار السيطرة على ثروات وموارد الآخرين , وكذلك لاستمرار سطوة النظم الحاكمة سواء في الدول المتقدمة أو الصاعدة أو النامية على حد السواء.
الثابت هنا أن الاقتصاد القياسي ليس علماً بحد ذاته وإنما أداة من أدوات البحث المساعدة فأهميته لا تزيد عن أهمية استعراض مشكلة الدراسة أو إبراز أهدافها , لذلك فلا قيمة مُطلقة لهذه الأداة في ضوء إغفال التحليل النظري والتأصيل الفكري ومراجعة الأدبيات وما كتبه الاقتصاديون على مر التاريخ؛ حتى وإن اختلفت الظروف .
إن تربع القياس الاقتصادي على الحيز الأكبر من محتوى الرسائل العلمية وفي تعقيبات عينة من الأساتذة الذين يفتقرون للمسات التحليل النقدي والقراءة العميقة للظاهرة وفهم خفايا نظريات الاقتصاد واستثناءاتها يؤدي إلى لجوء الأساتذة إلى المسائل المُيسرة في الاقتصاد والتي لا تحتاج لبذل جهد كبير, وفي المقابل أصبح التوجه العام للأساتذة في إعداد ونقاش الرسائل العلمية ينحنى نحو منحنى " القياس الاقتصادي ", حيث أن قراءة كتاب واحد في أساسيات القياس الاقتصادي, أو مشاهدة عدة مقاطع فيديو عبر اليوتيوب لبعض ساعات أو التسجيل بدورة حول أساسيات التحليل القياسي ومدتها 12 إلى 24 ساعة تدريبية كفيلة بأن يناقش الدكتور طالب الماجستير أو الدكتوراه ولمدة قد تزيد عن نصف وقت المناقشة , فالحضور ليسوا متخصصين في علم الاقتصاد, ومن هم على المنصة فقراء في التحليل الاقتصادي وما سيقوله زميلك الدكتور ستقبله, وقد تحدث نقاشات حول موضوعات بعيدة عن صُلب الموضوع قيد البحث, كالحديث حول قيمة الانحراف المعياري وقيمة R سكوير وغيرها من الاختبارات الإحصائية , فلو أدخلت البيانات على أكثر من برنامج ستكون النتائج ليست واحدة , فالمشكلة ليست في النتائج بقدر ما هي تفسير الأسباب ومدى دقة النتائج ومناسبتها للواقع الاقتصادي في دولة ما فماذا ستفيد قيمة الانحراف المعياري في دراسة عن النمو الاقتصادي لنحو 30 مليون جائع في الولايات المتحدة الأمريكية.
والأكثر دهشة هي استخدام أساليب لعلاج المشكلات الإحصائية , وتجميلها للوصول إلى نتائج تُرضي المشرف أو لجنة النقاش ولا عزاء لقضايا البشرية المُلحة .
عندما يبدأ المناقش الداخلي أو الخارجي لرسالة الماجستير أو الدكتوراه في علم الاقتصاد بالتركيز على مسائل لغوية, وأين موقع الهمزة هل على كرسي أو بدون كرسي وكذلك كلمة " غير" في اللغة العربية هل تُعرف أو لا ؛ فأعلم أن المناقش أما غير قارئ للرسالة أو يفتقر لأساسيات التحليل ولمنهجية البحث العلمي, وإما ليس لديه دراية كافية بالموضوع الذي جاء لنقاشه رغم خبرته في نقاش وإشرافه على عشرات الرسائل العلمية في شتى مجالات الاقتصاد , وفي أغلب الحالات فإن هناك ضعف واضح في المستوى البحثي لأساتذة الاقتصاد من جهة , واتجاه عام للأساتذة للجوء إلى الاقتصاد القياسي باعتباره يفتح مجالاً للأساتذة بالنقاش والتعقيب حتى وإن لم يقرأ الرسالة بشكل مُعمق, أو ليس لديه معرفة كاملة بموضوعة البحث, ولو جئت بنفس الرسالة وبنفس التحليل القياسي لنفس الدكتور ستجد وجود فرق في المناقشة لو كان الدكتور في المرة الأولى مشرفاً وفي المرة الثانية مناقشاً , ولعل إحدى الأسباب أن بعض الأساتذة عندما يكون مناقشاً يرغب بإيصال رسالة للحضور في حفلة إشهار التخرج بأن الجهد المبذول في الرسالة مهماً لكن يمكن إثراءها في حال إعادة النظر بالفصل الخاص بالدراسة القياسية وسُيرفد الباحث بملاحظات كثيرة , الأمر الذي يعني بأن هناك ضرورة لقيام الباحث بإجراء كافة التصويبات التي يراها المناقش بأنه ضرورية وأنها سر تميز البحث , وفي حال العكس لو كان المناقش مشرفاً لنفس الرسالة فإنه سيناقش المناقشين في حال طالبوا بإجراء تعديلات جوهرية في جزئية القياسي, والسبب : الافتقار للتأصيل النظري وعدم فهم واضح لمدارس وتيارات الفكر الاقتصادي.
الاقتصاد القياسي ليس علماً بحد ذاته مقارنة بالاقتصاد السياسي أو بالفكر الاقتصادي ونظريات النمو والتنمية وغيرها, فمؤسسي الاقتصاد ومنذ القدم قد تناولوا الظواهر الاقتصادية بالتحليل والنقد ووضعوا تأصيل نظرياً يصلح لكل زمان ومكان مع تضمين التغيرات والتحولات على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي, فالأصل أن تخاطب الأفراد من باحثين ودارسين بزمانهم أي متغيرات عصرهم وخصوصية مجتمعاتهم وليس بزمانك أنت, بمعنى التأكيد على ديناميكية الفكر الاقتصادي وعدم وجود ثبات في أي من الظواهر ذات الصلة بالاقتصاد.
لو عدنا للوراء قليلاً لم يكن العلامة المسلم ابن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة ومراحل تطور المجتمعات مختص بالاقتصاد القياسي, وكذلك أدم سميث وديفيد ريكاردو والقس روبرت مالثوس وجون ماينارد كينز وكارل ماركس وغيرهم من العلماء الذين ارتقوا بالاقتصاد وجعلوه بمرتبة العلم المستقل بذاته بعد أن كان فرعاً من فروع الفلسفة والمعرفة كأم للعلوم .
كيف يُمكن أن تُهيمن أفكار المادية الرأسمالية المتوحشة على الاقتصاديين دون أن يشعروا, ذلك من خلال إعطاء أولوية أكثر للتحليل القياسي على حساب التأصيل النظري, والإيمان بدقة النتائج, الأمر الذي يعني بإعطاء نتائج مُضللة لصانعي القرار وراسمي السياسات والذين قد يتخذون بسبب ذلك قرارات اقتصادية تُلبي وصفات المنظمات الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين, وهذه الوصفات تؤدي إلى نتائج عكسية وتعميق المشكلة الاقتصادية وليس حلها, لكن قد تشير نتائج القياس الاقتصادي لعكس ذلك, فمثلاً قد يكون عنوان الرسالة يتمحور حول أثر التمويل الدولي/ الأجنبي أو الاقتراض على النمو الاقتصادي في دولة نامية فقيرة , في حال ركز الأساتذة على التحليل القياسي فأنن تكون النتائج إيجابية أمراً وارداً لجهة أن للتمويل دور في زيادة موارد الحكومة المالية والتي تعني زيادة كمية في إجمالي الناتج المحلي , لكن على أرض الواقع ستقوم الحكومة بإتباع سياسة مالية انكماشية وبأدواتها المعروفة وهي : خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب , وفي هذه الحالة سترتفع أعباء الأسر وتزداد معدلات البطالة والفقر , وعلى النقيض سيقول لك أستاذ الاقتصاد القياسي, هناك تأثير إيجابي للإقراض الدولي على النمو الاقتصادي, وسيكتب توصية للحكومة ومن في محلها بضرورة الاستمرار في سياسة الاقتراض من الخارجي والالتزام بوصفات المنظمات الدولية إذا أرادت أن تُخفض العجز المالي وترتفع تنافسية الاقتصاد كأهداف كلية تسعى لتحقيقها.
وقد تؤدي ملاحظات الأساتذة في الجانب القياسي إلى استدامة عمر النظم الاستبدادية والديكتاتورية, فمثلاً قد تتوصل دراسة ماجستير لنتيجة أن للإنفاق الحكومي دور إيجابي في في نمو الناتج في دولة يحكمها عسكر مستبدون أو سلطة انقلاب , في هذه الحالة سيقول الأساتذة أن هناك تأثير إيجابي للإنفاق الحكومي للنظام المستبد على نمو الاقتصاد وتحقيق الرفاهية, وفي حال طالب الأساتذة من الباحث حذف أو تقليص كل ما يتعلق بنظريات الفكر التي تناقش جدلية العلاقة بين الإنفاق الحكومي والنمو الاقتصادي المحابي للفقراء فإن هناك تضليل , لجهة أن هناك سياسة مالية تقشفية متبعة في تلك الدولة, أو أن عائدات النمو يستحوذ عليها نسبة هامشية من السكان ويمكن أن يكون للعسكر أو للسياسيين تحالف قذر مع رأس المال الاحتكاري فيما يُعرف بالزواج الكاثوليكي .
كما ستعزز هذه النتائج من سطوة النظام الحاكم وإعطاء دلائل أنه نظام محابي للفقراء, واستطاع تحقيق طفرة في الإنتاج والتي تعني تراجع معدلات البطالة والفقر , علماً بأن العكس هو السائد.
كما يمكن للأساتذة تضليل راسمي السياسات وصانعي القرار, فمثلاً قد يتوصل باحث لنتيجة مفادها أن هناك علاقة طردية بين الضرائب التنازلية ونمو الاقتصاد الوطني , سيبتسم الأساتذة ويوصون بضرورة استمرار الحكومة بفرض الضرائب التنازلية رغم أن الضرورة تتطلب فرض ضرائب تصاعدية لتفتيت التفاوت بين الشرائح المجتمعية , وعلى النقيض ورغم أن خفض الضرائب ستؤدي إلى تحفيز الاستثمار ونمو الاقتصاد الوطني, إلا أن هناك إشكالية تتمثل في سوء توزيع الدخل, فخفض الضرائب ستؤدي إلى اتساع الفجوة بين الشرائح المجتمعية, لذلك فإهمال مسألة توزيع الدخل وأين تذهب عائدات النمو سيكون أمراً مهماً.
ويمكن أن تؤدي ملاحظات الأساتذة في حفل إشهار تخرج باحث الدراسات العليا إلى التساوق والانحياز وصولاً إلى التماهي مع ما يُريده الغرب المتقدم والذي ينظر للشرق كبقرة حلوب وسوقاً لعرض ما ينتجه من سلع بما فيها السلاح , فقد يطلب المناقش من الباحث حذف أي تأصيل نظري وفكري حول مسألة ما, وفي المقابل ضرورة التركيز على الجزء القياسي باعتباره وفقاً له الإضافة الأهم لرسالة الباحث , فالجزء النظري موجود في الكتب ولا داعي لإدخالنا في الجدلية, دورنا فقط نبحث في قياس الأثر وقيمة داربن واتسون يجب أن تساوي أو تقترب من 2 صحيح.
عندما يتقزم التأصيل النظري والفكري للظواهر الاقتصادية في الرسائل العلمية مقابل تضخم أساليب التحليل القياسي والتركيز على الانحراف المعياري وغيره فإننا أمام هرم مقلوب , بحيث أن قمة الهرم وفي هذه الحالة التحليل القياسي والتي تٌشكل 5% من الأهمية باعتبارها أداة مساعدة ستمتص 95% من الفائدة العلمية للرسائل والمتمثلة في التأصيل النظري, وهذا يعني أنه مع مرور الوقت ستصبح الظواهر الاقتصادية ودراستها وتحليلها تخضع لبرامج التحليل الإحصائي , علماً بأن الاقتصاد علم إنساني اجتماعي وليس دقيقاً أن يخضع للتحليل القياسي بشكل كامل, وإنما أن يكون مساعداً ويبسط الظاهرة لا أن يكون المصدر الأساسي لتفسير أسباب المشكلة الاقتصادية.
ختاماً؛ هناك ضرورة لأن يهتم الأساتذة بقضايا الاقتصاد النظرية وبالتأصيل الفكري ودراسة مدراس وأفكار الاقتصاديين منذ القدم , والتركيز على مسائل الجدلية بين الظواهر الاقتصادية واعتبارها أساساً للنقاش وليس إضاعة الوقت بتفسير قيمة الانحراف المعياري ومعدل التصحيح وغيرها.
الاقتصاد القياسي منهجاً دخيلاً على الفكر الاقتصادي وهو أداة مساعدة وليس أصلاً, وأن يتحول لأصل وأساساً للتحليل وتفسير الظاهرة فإننا وخصوصاً في الدول النامية سنسقط في وحل الهرم المقلوب .
كما أن هناك ضرورة لأن يُجيب الأساتذة في أقسام الاقتصاد في الجامعات التي تمنح درجة الدراسات العليا على سؤال :
ما هي النسبة المثلى في الرسائل العلمية في تناول التأصيل النظري والتحليل القياسي, وما مدى الإضافة النوعية للرسائل العلمية في الاقتصاد في الجامعات العربية لحقل الاقتصاد مقارنة بالجامعات الأجنبية.

اخر الأخبار