لماذا تفشل حوارات المصالحة؟

تابعنا على:   09:19 2020-12-01

هاني المصري

أمد/ تبادلت حركتا فتح وحماس الاتهامات عن المسؤول عن فشل الجولة الأخيرة من جولات الحوار، ولكن من الملاحظ أن تبادل الاتهامات جاء بوتيرة هادئة من دون حملات تحريض متبادلة، باستثناء بعض الأصوات من الجانبين المعارضة للمصالحة، وترافق مع تأكيد كل من صالح العاروري وجبريل الرجوب على مواصلة الجهود رغم قرار السلطة بإعادة العلاقات مع إسرائيل، إذ جاء في حديث العاروري مع فضائية الحوار أن حوار القاهرة اصطدم بالخلاف على نقطة واحدة، وهي هل ستجرى الانتخابات بالتزامن أم بالتتالي خلال ستة أشهر قبل وصول الأنباء عن عودة العلاقات.

وأضاف أنه على الرغم من أن قرار السلطة بعودة العلاقات كبير جدًا، إلا أن "حماس" ستواصل الحوار، وترفض تشكيل جبهة من أغلبية الفصائل الرافضة لهذا القرار والمتوافقة مع رؤية "حماس" ولا تشارك فيها فتح. فما الذي يفسر تمسك الحركتين باستمرار الحوار؟

السبب الأول، أن الشعب لن يغفر للطرف المسؤول عن فشل الجهود المبذولة لإنهاء الانقسام، لذلك يحرص الطرفان على الظهور بمظهر الحريص على الوحدة، لأن الوحدة ضرورة وشرط ولا غنى عنها لإنجاز الانتصار، وذلك رغم إدراك متزايد، ولا أبالغ إذا قلت من الأغلبية، أن الوحدة لن تتحقق قريبًا وباعتماد نفس الأسس والأساليب والحلول الشكلية والإجرائية المعتمدة منذ وقوع الانقسام وتجنب العديد من القضايا المحورية، حتى لو تم تغيير وفود الحوار، لا سيما في ظل استمرار الاستقطاب الثنائي الحادّ بين قطبي الانقسام، من دون أن تشهد الخارطة السياسية وموازين القوى الداخلية تغييرًا جوهريًا، فلا تزال الاستطلاعات الرصينة تشير إلى أن حركتي فتح وحماس ستحصلان على حوالي 70% من الأصوات في أية انتخابات قادمة، ولا تزال "حماس" تسيطر منفردة على السلطة في قطاع غزة، بينما لا يزال الرئيس و"فتح" يسيطرون على المنظمة والسلطة في الضفة الغربية.

في هذا السياق، يؤدي إدراك صعوبة إنجاز الوحدة إلى نوع من التعايش مع الانقسام، والسعي لإدارته، وإضفاء الشرعية الشعبية عليه، من خلال محاولة اللجوء إلى الانتخابات "مضمونة النتائج"، التي لا تؤدي إلى المساس بالوضع القائم بالضفة والقطاع، كما يتضح من الاتفاق على خوض الانتخابات بقائمة مشتركة، والبحث في إمكانية التوافق على مرشح واحد للرئاسة.

السبب الثاني، أن الإستراتيجية المعتمدة من الرئيس وفتح (إستراتيجية أوسلو والمفاوضات للوصول إلى استقلال دولة فلسطين على حدود 67) وصلت إلى طريق مسدود، ولن يخرجها منه فوز بايدن وسقوط ترامب ورؤيته وعودة العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، فهذه التطورات يمكن أن تساعد على بقاء السلطة مقابل ثمن باهظ جدًا، وهذه السلطة مصيدة، وما دامت قائمة بالشروط التي تقيدها فستكون مرتهنة للاحتلال الذي يتحكم بحياتها.

كما يساعد على إبقاء الحوار من أجل الوحدة أن فوز بايدن يمكن أن يسحب رؤية ترامب من التداول، ولكنه لن يوقف الاستعمار الاستيطاني والضم الفعلي والزاحف، والتقدم على طريق إقامة "إسرائيل الكبرى" في ظل حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفًا من دون أفق قريب لتغييرها، بل ربما ستكون الحكومة القادمة في إسرائيل أكثر تطرفًا من الحالية كما تشير مختلف استطلاعات الرأي الإسرائيلية. فنتنياهو واليمين الديني والسياسي هو الصاحب الأصلي لرؤية ترامب، ما يعني أن رؤية جديدة ستحل محلها لن تختلف جوهريًا عن سابقتها.

في المقابل، فإن إستراتيجية "حماس" معطلة ومحاصرة، حيث هناك تهدئة في قطاع غزة منذ العام 2014، تخرقها خروقات وتصعيد ولكنها صامدة، وتستمر المحاولات لتثبيتها ضمن معادلة رفع، أو الأصح، تخفيف الحصار مقابل هدنة طويلة.

جعل هذا الواقع "حماس" هي الأخرى مرتهنة للسلطة، ما يثير سؤالًا مشروعًا حول إمكانية الجمع بين السلطة والمقاومة المسلحة في الظروف المحلية والعربية والدولية الراهنة وغياب عمق إستراتيجي لها، الأمر الذي جعل المقاومة تبدو كأداة في خدمة السلطة تستخدم غالبًا لإدخال رواتب موظفيها عن طريق مطار اللد، وتخفيف الحصار، أكثر ما هي إستراتيجية للتحرير. ولعل هذا يفسر موافقة "حماس" على اعتماد المقاومة الشعبية لإنجاح الوحدة رغم التأكيد على المقاومة بكل أشكالها.

يوضّح ما سبق استمرار وتزايد المخاطر المشتركة، خصوصًا بعد موجة التطبيع والتحالف العربي مع إسرائيل، الأمر الذي يفسر حاجة "فتح" و"حماس" إلى بعضهما، فهما مستهدفتان، لأن المطلوب منهما أكثر مما قدمتاه، ففتح تدرك أنها مطالبة بالموافقة على تصفية القضية الفلسطينية وإلا ستُستبدل، و"حماس" كذلك تعرف أنها ستتعرض للتصفية إذا لم تقبل باحتوائها.

السبب الثالث، أن المصالحة تستخدم كتكتيك للتهديد لتحسين شروط السلطتين تحت الاحتلال، ويساعد على ذلك أن الأصدقاء والأعداء يستخدمان الانقسام كذريعة لعدم تقديم الدعم، أو الضغط على إسرائيل، وإطلاق عملية سلام قادرة على الوصول إلى "حل الدولتين".

السبب الرابع، أن الحركتين بحاجة إلى تجديد الشرعية من خلال التوافق الوطني أو الانتخابات أو كليهما، خصوصًا في ظل تزايد التهديدات والمخاطر التي تواجه الفلسطينيين وقضيتهم وفصائلهم.

إن الذي أفشل جولة الحوار الأخيرة أنها كانت محاولة لإدارة الانقسام وشرعنته، من خلال تأجيل مسألة إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تعمل على إنهاء الانقسام، وتوحيد المؤسسات كمدخل لإجراء الاتخابات، وخلق أجواء الثقة، من خلال توفير الحقوق والحريات، ومعالجة آثار الانقسام ضمن حل الرزمة الشاملة إلى ما بعد الانتخابات.

ليس هناك ما يضمن إن جرت الانتخابات التشريعية من دون إنهاء الانقسام أولًا، وبصورة تنافسية بما يخالف توقعات أحد الطرفين أو كليهما، أن تجري بعدها الانتخابات الرئاسية والمجلس الوطني، وأن يعترف بنتائجها، وألا تتعرض للتزوير واستخدام التدخلات والتمويل الخارجي خلافًا للقانون الفلسطيني، هذا مع الاحتمال الدائم لتدخل الاحتلال لمصادرة نتائج الانتخابات إذا لم تناسبه.

الخلاصة مما سبق أن الطرفين لا يريدان الانتخابات إلا إذا كانت نتائجها مضمونة، وتضمن المحاصصة بينهما.

وسأنتقل الآن إلى مسألة أخرى في محاولة لتفكيكها، وهي: لماذا تفشل حوارات واتفاقات المصالحة دائمًا؟

هناك عوامل وأسباب فلسطينية وإسرائيلية وعربية وإقليمية ودولية تحول دون إنهاء الانقسام، ويمكن التغلب على الأسباب الخارجية لو توفرت القناعة والإرادة، لدى الرئيس وطرفي الانقسام، بأن الوحدة أولوية وضرورة لا غنى عنها، ولا بد من إزالة كل العقبات التي تعترض طريقها مهما كان الثمن، وخصوصًا الاقتناع بأهمية الشراكة، لأن لا شخص ولا فصيل وحده قادر على الإبحار بالسفينة الفلسطينية، التي تمخر وسط الرياح والعواصف العاتية، وإيصالها إلى بر الأمان.

يجب على واحد ألا ينسى وألا يقلل من حقيقة أن الانقسام صناعة إسرائيلية، وأن الأطراف الفلسطينية وقعت في الفخ الإسرائيلي، عندما تنافست على التحكم بالقيادة والسلطة، ولم تعرف الخروج منه، وهناك جماعات مصالح الانقسام التي نمت وتجذرت لا تريد الوحدة حفاظًا على نفوذها ومصالحها. فالحكومة الإسرائيلية وضعت السلطة دائمًا بين الاختيار بينها وبين حركة حماس، وهي تستطيع وضع العراقيل الضخمة أمام الوحدة والوفاق، وتعطيل إجراء الانتخابات ليس في القدس فقط، وإذا سمحت بإجرائها تصادر حريتها ونزاهتها في كل المراحل، كما يظهر في اعتقال المرشحين، وتهديدهم لمنع غير المرغوب منهم من الترشح، ومنع الدعاية الانتخابية، بما في ذلك التنقل ما بين الضفة وغزة والقدس، كما تصادر نتائجها إذا لم تناسبها.

هذا الوضع جعل من الجائز التفكير وتقديم النصائح من الأصدقاء والأشقاء بأن تشكّل "حماس" حزبًا تتجاوز فيه عقدة وضعها على قائمة "الإرهاب"، كما أنه جعل أمرًا "مشروعًا" المطالبة بعدم ترشيح "أصحاب اللحى" والرموز وقيادات المقاومة؛ خشية من اعتقالهم، ومن عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات إذا فازوا فيها. ألا يضرب هذا بالحد الأدنى من حرية الانتخابات ونزاهتها واحترام نتائجها، ويؤكد أن الوحدة شرط لا غنى عنه لانتخابات حرة تحت الاحتلال، كونها تحدّ من قدرته على التدخل، وتكون البديل إذا لم يتم التمكن من إجراء الانتخابات؟

كما أن الانتخابات (والوحدة) بحاجة إلى ضوء أخضر أميركي وعربي وإقليمي ودولي. فشروط الرباعية تقف عائقًا أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية، وأمام استمرار الاعتراف بمنظمة التحرير إذا ضمت حركتي حماس والجهاد المصنفتين على قائمة الإرهاب.

وما يمنع الوحدة عدم الإيمان بالشراكة كما يظهر من أن الرئيس يريد أن يبقى متحكمًا بالقرار ومحتفظًا بالصلاحيات والسلطات في يديه، وخصوصًا أنه رئيس المنظمة والسلطة والدولة وفتح، في ظل غياب وتغييب المؤسسة على مختلف المستويات والأصعدة داخل السلطة والمنظمة. كما أن "فتح" تريد أن تبقى مهيمنة على السلطة والمنظمة وتعطي الأولوية (كما فعلت سابقًا حتى المحاولة الأخيرة) لعودة سيطرة سلطتها على قطاع غزة على أي شيء آخر، على أن تكون "حماس" أقلية، وفي أحسن الأحوال، شريكة غير قادرة على تغيير الهيمنة الفتحاوية.

أما المحاولة الأخيرة فتظهر أن هناك تساهلًا مع مسألة بقاء سيطرة "حماس" على القطاع، بدليل تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات، مع تسجيل أن ما يميز هذه المحاولة أنها تناولت البرنامج السياسي، ولكنها ركّزت على الانتخابات، على قاعدة التعايش مع الانقسام، والسعي لإضفاء شرعية عليه عبر صناديق الاقتراع، على أن يتم بحث الملفات الأخرى بعد صدور مرسوم الانتخابات!

في المقابل، تريد "حماس" الاستمرار في الاحتفاظ بسيطرتها على قطاع غزة، والحصول على تمويل لها من السلطة في رام الله، وأن تنضم كشريك مساوٍ لفتح في المنظمة. كما تريد أن تحتفظ بسلاح المقاومة تحت سيطرتها مع المرونة بالاستعداد للالتزام بقرار وطني عند استخدامه، ما يجعل هناك سلطتان في مكان واحد وهذا يؤدي إلى ازدواج السلطة والقيادة والقرار.

لا بديل عن بلورة رؤية شاملة جديدة تنبثق عنها إستراتيجيات وبرامج تجسد القواسم المشتركة على أساس شراكة حقيقية وديمقراطية توافقية، وتشكيل بنى جديدة في السلطة والمنظمة على أساس برنامج وطني يجسد القواسم المشتركة، وهذا هدف بعيد التحقيق، وإلى حين أن يتحقق لا بد من عمل ما يأتي:

تقليل الخسائر والأضرار من الانقسام، وعمل كل ما من شأنه لمنع تحويله إلى انفصال،  والابتعاد عن التحريض الإعلامي المتبادل، والإقصاء والتكفير والتخوين، واحتكار الحقيقة والوطنية والدين.

توفير الحقوق والحريات، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وعدم اعتقال أحد على خلفية سياسية.

الحفاظ على النماذج الوحدوية، مثل الحج والتوجيهي والرياضة والثقافة وغيرها، وإطلاق مبادرات وحدوية مختلفة وتعميمها في مختلف المؤسسات العامة الخدمية والصحية والإدارية والتعليمية والقضائية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

الشروع في حوار وطني شامل يضع القضايا المحورية على جدول أعماله، ويجري توسيع دائرة المشاركين فيه ليضم ممثلين عن المرأة والشباب والشتات والكفاءات والخبرات والشخصيات الاعتبارية.

الاتفاق على الوحدة الميدانية في مواجهة المخططات العدوانية الاستعمارية الاستيطانية والضم الفعلي الزاحف ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية.

التمسك بالرواية التاريخية والحقوق والهوية والثقافة الوطنية، والدفاع عن الرموز والمقدسات، ورفض محاولات تغيير المنهج التعليمي والتعامل مع الأسرى والشهداء كحالات اجتماعية.

الشروع في عملية تخلّص تدريجي من اتفاق أوسلو والتزاماته، عبر توسيع المشاركة في صنع القرار والتمثيل الأوسع في المؤسسات في الضفة والقطاع، عبر انتظام الانتخابات في الهيئات المحلية والنقابات والجامعات والجمعيات والاتحادات الشعبية واللجان الشعبية في المخيمات.

كلمات دلالية

اخر الأخبار