الذاكرة التاريخية

تابعنا على:   13:52 2020-11-18

صالح العرابيد

أمد/ الشهيد جبر إبراهيم علي العرابيد 

ولد شهيدنا في بلدة هربيا الفلسطينية عام 1930م والده عرفه الجميع بالإصلاح و بالتقوى ، إنه المختار و الوجيه المعروف إبراهيم بن علي رحمه الله ، و الذي كان قد إشتهر في عمله الدؤوب أنذاك ، في زمن بريطانيا ، عهد الإنتداب البريطاني علي فلسطين .

كان من زملاء والده في الإصلاح ، المرحوم المختار عطايا أحمد جابر ، والمرحوم المختار عوض محمد الشرافي ، حيث كانوا يستندون إلي قدوتهم ومعلمهم ، المرحوم المختار عبدالرحمن يوسف علي عليان ، كان مرجعهم ومرشدهم الأعلي في القضاء العشائري ، حيث كان يمتلك في جعبته الخبرة في هذا العمل ، منذ زمن تركيا ( العهد العثمانى ) علي فلسطين ، ما علينا !!

عمل شهيدنا في بلدة هربيا ، بالزراعة وذلك في بيارة والده بن علي ، و أحيانآ كان يذهب إلي بيارة خاله القيسي ، ويعمل معه بالتحديد في موسم قطف الزيتون ، حيث كان لخاله معصرة زيتون قديمة ، كانت تسمى ب ( حجر البلد ) ، تعود أثريتها لأيام الرومان .

هاجر شهيدنا جبر مع والدته ، ورافقوا بالهجرة عائلة خاله سالم بن عبدربه بني العرابيد ، الملقب ب ( القيسي ) ، والمكني ب ( أبوجميل ) رحمه الله .

هاجروا إلى قطاع غزة أثر نكبة 1948م ، فكان يبلغ من العمر أنذاك 18 ربيعآ ، حيث كان شابآ يافعآ ، ومن صفاته أنه كان دؤوبآ مهذبآ ، حسنآ في إسلوبه ، متزنآ في سلوكه ، ومن مواصفاته كان طويل القامة ، أسمر البشرة ، وسيم الوجه ، و قيل عنه إنه راشدآ ناضجآ بعقله .

كانت والدته العمة إم جبر رحمها الله ، تفتخر بأن فلذة كبدها أصبح عزوة لها ، تستظل بظله كلما مشي برفقتها ، وتزداد فخرآ عندما يلتقي خط المسير بشقيقها القيسي ، ويسير الجمع حيثما قصدوا ، ويحلو حينما حلوا .

يحكى بأنه في أوائل أشهر النكبة ، ذهب شهيدنا جبر إلي قرية هربيا مسقط رأسه ، و مهد طفولته ، و أجمل ذكرياته ، والتي شرب من ماؤها ، وتنفس من هوائها ، وتمحلق بسمائها ، نعم ذهب الي حيث حن قلبه لبلدته الأم ، فقابلته إحدى المجندات اليهوديات ، والتى كانت تتمركز علي الطريق الجنوبي لبلدته ، نادته بالإسم جبر ،، جبر ، ثم تحدثت بالعامية : رووخ البيت . بلاش يجي خيال بمعنى جندى غيري يطخك !!

غضب منها شهيدنا وصرخ عاصفآ ، هنا ارضي ،، هنا بيتي ،، هنا ضريح أبي وجدى ،، وهذه هي بيوتنا ،، هذه هي أراضينا ، لن أذهب إلي خيام المشردين بحارة الزيتون ، اما انتي فأرجعي من حيت أتيتي .

تركها جبر وصار به السبل إلي أرض والده بالحارة الشرقية للبلدة ، تفقد الأشجار وببابور الماء ، و زار ديوان والده ، ثم ذهب إلي الحارة الغربية ، تفقد فيها معصرة زيتون خاله ، مسحها من الغبار ، تذكر موسم جني ثمار الزيتون ، و عادت الذاكرة به للوراء ، حيث تذكر أيام الخير و البركة ، عندما كان يأتي الفلاحين بمحصولهم ، يضعونه زيتونآ ويأخذونه زيتآ ، ثم ترك المعصرة وذهب ليستريح تحت ظلال شجرة البرتقال ، و التى كان يستلقي تحت ظلالها ، هو وخاله القيسي قبل النكبة .

فجأة صوت الأقدام العمياء تخطو عابثة بيارة القيسي ، انها أقدام جنود القتل والدمار ، الذين شردوا الناس من الديار ، جنود الخزى والعار الإسرائيليون ، أنزعج شهيدنا من ذلك الصوت ، فنهض ليري ما الحدث ؟!!
و ماهي سوي بضعة ثواني معدودات ، حتي تفاجأ بجيش مشاة العدو ، فمباشرة أطلق عليه الضابط النار ، وأصابه شهيدآ .

سقط جبر ولم تسقط سيرته في جلساتنا العائلية ، حيث أنه الغائب الحاضر ، في شتي الجلسات ، ذكره المرحوم عمي رزق ، وحدثنا عنه جدي المرحوم صالح ، ومازالت تسرد سيرته الطيبة إلي يومنا هذا ، سقط جبر ولم تسقط حكايته من حكايات شهداء الوطن ، الذين روا بدمائهم الزكية تراب الوطن .

أستشهد جبر علي الفور ، نزفت دمائه الزكية لتروى شجرة البرتقال ، شاهده أحد الفلاحين الذين تسللوا الي هربيا ، ليأتي متخفيآ ببابور الماء ، وعندما عاد ذلك الفلاح إلي حارة الزيتون ، اذاع الخبر إلي عمتي إم جبر رحمها الله .

يحكي بأنها صارت حافية القدمين تجري ما تدري كما يقال ، ركضت وجربت من حارة الزيتون الي هربيا ، تارة تلهث وتستريح ،، وتارة تبكي وتصيح ، ظلت عمتي إسبوعآ كاملآ في هربيا ، وهي تبحث عن نجلها الشهيد ، بحثت عنه في ديوان والده ، بحثت عنه شرق القرية ، في بيارة صلاح مصلح الغول ، بحثت عنه غرب البلد ، في بيارة إسماعيل محمود أبو عميرة ، بحثت عنه جنوب البلد في أراضي عبد القادر مصطفى أبوشقفة ، حتي بحثت عنه شمال البلد في أراضي عبد الفتاح حسين الغول ، وكذلك بحثت عنه شمال غرب البلد في أراضي محمد عبد الله جابر ، وفي بيارة أحمد عليان ، بحثت عنه كل مكان ، و المسكينة لم يخطر في بالها ، أو يوحي لها بأن فلذة كبدها شهيدآ تحت شجرة البرتقال ، المغروسة في بيارة والدها عبدربه أبوه للقيسي .

كانت عمتى إم جبر تبكي وتصيح طيلة الإسبوع ، دموعها غسلت ثوبها ، تنادي يما يا جبر ،، ها يما يا جبر ، وينك يما يا حبيبي .

لحق بها شقيقها القيسي ومعه إبنة أخته عمتي فهيمة إم فايز طال الله بعمرها ، و أخذوا يبحثوا عن شهيدنا وإمه ، هنا صرخت العمة إم فايز ، الله اكبر ،، الله أكبر ،، ثم بسملت ،، كبرت وهللت ،، هذا هو جبر شهيد تحت شجرة البرتقال ، حملوه وضعوه علي الحمار ، بكوا عليه وتحروقت قلوبهم لذلك المشهد ، بكي عليه خاله القيسي أكثر مما بكي علي شقيقه إعتيق بن عبدربه ، ثم ذهبوا إلي بيت إم جبر في هربيا ، وجدوها تجلس في فناء منزلهم المصادر من قبل قوات التعسف والتغول ، قوات الإحتلال الإسرائيلي .

سارعت إم فايز وهمت لتحتضن بإم جبر ، والبكاء كان منهمر كالشتاء ، حضن القيسي شقيقته وهو يبكي متوجعآ ، وقلبه بالحزن متوهجآ ، إنه مشهدآ داميآ ، من مشاهد الجرح الدامي ، أخرجها شقيقها بلطف ، ومسكتها إم فايز من يديها ، فتحوا الباب رأت إم جبر ولدها ، حلمها وأملها حبيبها وثروتها ، رأته شهيدآ بأم عينيها ، شهيدآ منكفئ علي بطنه ، بشكل منحني فوق الحمار .

أخذت تصرخ تضرب الأرض ، ويتعافر التراب علي رأسها ، ومن شدة الصدمة أغمي عليها ، سكب شقيقها قارورة الماء علي وجهها لييقظها ، ساعدتها إم فايز علي النهوض ، وأخذت تهدئ من روعها .

صاروا جميعآ بالشهيد عن طريق الساحل غربآ ( شاطئ البحر ) ، حتي وصلوا شرقآ إلي حارة العمدان بحي الزيتون ، وإم جبر تصرخ وتبكي ، إستقبلتها المرحومة جدتي تمام ( إم صالح ) ، وجدتي غصون ( إم حسني ) ، و المرحومة فاطمة( إم جميل ) ، وعمتى نظمية ( إم جهاد ) ، ونساء عائلتنا الكريمة أنذاك ، هنا سارعت تلك النسوة حافية باكية ، إستقبلن الشهيد وإمه ، حدثني الراوي جدي صالح رحمه الله ، بأن ذلك المشهد كان أول مشهد في غزة للمأساة ، والتي عاشتها عائلتنا في حارة العمدان ، والمشهد يعجز عن وصفه أي شاهد من شواهده ، وذلك لشدة حزن إم جبر وصراخها ، حتي قيل بأنها أثر ذلك فقدت عقلها ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) .
نسأل الله العلي العظيم ، بأن يرحم شهيدنا ، وبأن يرحم من ذكرتهم في تلك السيرة ، ويجمعهم بشهيدنا في الفردوس الأعلى .

اخر الأخبار