صائب عريقات : شاهد نفي ...

تابعنا على:   14:34 2020-11-11

الشيخ ماهر حمود

أمد/ هذا الرثاء ليس موجها للراحل صائب عريقات فقط، بل لكل من يسير على طريق فلسطين، سواء اختلفنا معه او اتفقنا، وسواء كان الاختلاف كبيراً أو يسيراً ،باختصار، من يسير على طريق فلسطين يحجز له مكاناً ما في الرحمة الإلهية والعفو الرباني، لأن من يسير على طريق فلسطين، فضلاً عن ارتباطه بأقدس قضية، وهي تضفي على من يحملها شيئاًمن القداسة ،قل أم كثر ،في مكان ما وضمن شروط ما، ذلك أنه يضع نفسه في وجه الصهيونية العالمية ، ومنظماتها السرية والعلنية والمنتشرة كأكثر من أخطبوط على مساحة العالم كله، ويضع نفسه في وجه الإستكبار الأميركي اللئيم، وكذلك في وجه أكثر الحكام العرب ،وكثير من الضعفاء والمترددين والمنتفعين والناكثين والقاسطين والمارقين...

وباستحضار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى ببارقة السيوف فتنة)، حيث أن بريق السيوف الملطخة بالدماء، سيوف الأعداء والمجرمين، تلمع فوق الرؤوس تشكل سبباً في مغفرة الذنوب ثم القبول عند الله، وبالتالي فأن تضع نفسك في مواجهة العالم كله تقريبا، وترى شعبك يواجه بالحجر الآلة العسكرية المحرمة، ويواجه بالقبضات تدمير البيوت، وبالأمعاء الخاوية ظلم السجان، وبأسلحة الحرب العالمية الثانية ثم بالأنفاق المرهقة والصواريخ المكلفة ،حصاراً وظلماً وموتاً يومياً...، ان ذلك أولى بالمغفرة والرحمة، بإذن الله تعالى.

أقول هذا الكلام من موقع المشاعر الوجدانية والأحاسيس ،أكثر مما هو من موقع الفتوى والموقف الشرعي، لأؤكد أن طريق فلسطين العريض يسع الجميع من حيث المبدأ، ويجب أن يضم الجميع لأن فلسطين تحتاج للجميع كما يحتاجها الجميع، وإن كان الذي يحتل الجادة الرئيسية أي منتصف الطريق ،هم من يؤمنون بزوال إسرائيل، وينتهجون المقاومة طريقاً للتحرير وطريقاً لإيقاظ الأمة من سباتها. ولكن من يشغلون وسط الطريق وجادتها لا ينبغي لهم أن يستفردوا بهذه الطريق وأن يحرموا منها الآخرين....ومن خلال مثلٍ فقهي مثير للجدل ،وقد لا يكون مناسباً ،لانه يتحدث عن أمر آخر ومع كثير من المبالغة ،أقول :من تراثنا أن رجلاً سأل حارس قبر الصحابي الشهيد (حُجر بن عدي) قبرُ من هذا؟ قال: هذا قبر سيدنا حجر بن عدي، قتله سيدنا معاوية بن أبي سفيان لأنه من شيعة سيدنا علي بن أبي طالب... يهزأ كثيرون من هذا الكلام كيف يكون المقتول والقاتل والباغي والذي بُغي عليه جميعا أسيادَنا وبأي دليل؟...

أكرر مرة أخرى مع الفارق الكبير ومع المبالغة، نعم كل من يسير على طريق فلسطين يستحق التقدير كائناً ما كان انتماؤه، وكائناً ما كانت أخطاؤه، وأحلم كما أتوقع أن هؤلاء بسبب فلسطين وقدسيتها، وقسوة طريقها، ووحشته وأنسها، في وقت واحد، سيجعل لهم الله فرصة للتوبة والإنابة والاستقامة...

والواقع أننا قد رأينا كثيرا من هؤلاءقد ألهموا في آخر أيامهم ترك كل فساد وانحراف وانصرفوا إلى العبادة ومراجعة أخطائهم وختم الله لهم بكل خير... هذا ما أتوقعه وأرجو لكل من سلك درب فلسطين حسن الختام... ولمن يتساءل أو يستغرب أقول :كيف لا أبكي هؤلاء،حتى لو لم ألتق بهم ،ولم أشاركهم أفكارهم ،ولم أرض عن أخطائهم وانحرافاتهم،كيف لا ؟وقد رأينا،على سبيل المثال، شعباً مظلوماً يبكي زعيمه وقائده بحرقة ولا يستطيع أن يبوح بسره... قتله السم الإسرائيلي، والفرنسي يعلم، والعرب يعلمون، والقادة يعلمون، والزوجة تعلم، وكثيرون يعلمون ولا يستطيع أحد أن يبوح بالحقيقة ولا يستطيع أحد أن يشير بأصبعه ،أو حتى بالايماء إلى القاتل، ومن تستر عليه، ومن زوّر الحقائق ،ليُقدَم هذا الاستشهاد وكأنه مجرد موت عادي، كيف لا تريدون لي أن أتعاطف مع هذا الشعب الذي لا يستطيع أن يبوح بسر قائده... ؟؟؟سؤال يطرح نفسه أيضا: أين كان الفقيدعريقات في تلك اللحظة ؟وهل كتم هذا السر أم كان بعيدا عنه؟ وهل سيغفر الله لمن أخفى هذا السر عن شعبه وجمهوره؟

لقد سمي الشهيد ياسر عرفات عريقات يوما ما (شيطان اريحا)... لأنه برع في المفاوضة، وكان يواجه الصهاينة بالأدلة القاطعة وبالمعلومات التاريخية الموثقة بالقوانين الدولية، ولكن هذه المفاوضات كانت مجرد إضاعة وقت وانحرافاً عن طريق التحرير، كما كانت مبرراً للصهيوني بأن يفاقم الاستيطان ،وأن يستمر بالظلم والحصار والسجون والتدمير، الخ... هنا نريده ، رحمه الله شاهد إثباتٍ وليس فقط شاهد نفيٍ ،يؤكد للجميع عملياً وبالتجربة أن الطريق الوحيد هو المقاومة وأن أي طريق آخر هو طريق مسدود ...استشعر من بعيد أنه أصبح هذا الشاهد التاريخي لهذه المرحلة الإستثنائية ، ،يخفف من تلك الخطايا التي كانت ،حسن النية، والظروف الضاغطة المأساوية، عسى أن يكون قد صرح عن ذلك أو كتبه في مذكراته، أو على الأقل قد أخرج من قلبه في لحظاته الأخيرة ،كل احتمال إلا الاحتمال الوحيد: المقاومة وزوال إسرائيل... وأبواب المغفرة مفتوحة بإذن الله الذي وسعت رحمته كل شيء. 

أقول للجميع: لمن أصاب ولمن أخطأ، لن تستطيع قوة في الارض أن تغلق طريق فلسطين، ولن تستطيع جحافل الإجرام أن تقف في وجه الوعد الرباني القاطع القريب بإذن الله: (وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة...) (..وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ، فلاتحسبنّ اللهَ مُخْلف وَعْدِهِ رُسُلَه ،إن الله عزيزٌ ذو انتقام )...صدق الله العظيم، وإن غدا لناظره قريب.

بقلم: سماحة الشيخ ماهر حمود ــ رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة في لبنان
 

كلمات دلالية

اخر الأخبار