كرامة الذبابة ولؤم العنكبوت!

تابعنا على:   15:38 2020-10-28

بكر أبوبكر

أمد/ في إطار تغذية الوعي الفردي والجماعي بالأفكار الغنية، والتجارب المثمرة لغيرنا ولنا، نمرّ على عديد النماذج مرورًا ذا معنى، فمنها ما يقدم لنا دفعة الى الأمام، وفيها ما يتوجب علينا تجنبه ورفضه، ولكن بمنطق الاستفادة من التجربة واخضاعها لمجهر الفكر والمرجعية الحصينة، فلا تكون التجربة أو تقييمها أو نقدها عقبة لنا عن التحرر، وإنما مدخلًا للتقدم الى الامام.

أنا والتنظيم والميدان والناس، تشكل رباعية تنظيمية-حياتية تقتضي إحسان الفعل والقول والتواصل والتعامل مع هذه المساحات.

وقد تكون رباعيتك أنا والأهل والأصدقاء والناس، وقد تكون رباعيتك أنا أي (مساحتك الخاصة) ومقر العمل (الوظيفة) والتنظيم السياسي أو الرياضي أو الثقافي، والعائلة وهكذا فلكل أن يشكل دوائره أو مساحاته.

ولكننا في الإطار التعبوي الوطني نقرر أولوية مساحات الأنا حيث البداية الحقيقية يوميا للتغيير: بالقراءة حتى القاع، وبالتعمق المنهجي، والفهم والتأمل وبالتجارب.

وفي المساحات يأتي أيضا التنظيم السياسي-السبيل نحو تحرير الوطن، والميدان-حيث فعل النضال والكفاح الدؤوب في منهج حياة، والناس من حيث هم هدف تحرير الوطن بهم ولهم.

في المادة١٢ من النظام الداخلي في حركة فتح -وفي الفصائل الاخرى ما يشبهها- تبرز أمامنا نقطة النقد والنقد الذاتي التي من المتوجب علينا اليوم استخدامها بمنطق محاسبة الذات والمساءلة بأنماطها المختلفة، فلا قيمة لأطر تنظيمية تجر العربة الى حيث لا نعرف! ولاخير فينا إن لم نوقفها، محاولين الفهم أو لنعدل مع قادتها المسار فلا تتدهور، لنواجهها بالأسئلة ونواجهها بضرورة أن تفهمنا ما تعمل.

الكذب والتعلم

كان لنا لقاء جميل حول موضوع الاستفادة من التجارب والتعلم والمساءلة مع ثلة من كوادر فتح من أقاليم الحركة في فلسطين قبل أيام،وتألقت فيه الأخوات، ولما كانت الضرورة تقتضي الاشارة الدائمة لضرورة خوض النضال أو الجهاد الداخلي والخارجي معا (في المساحة الاولى أي مساحة الأنا-الذات) بمنطق الجهاد الداخلي أي انتصر على مركبات السلبية في ذاتي، والخارجي بأن أتمكن من نقل تجربتي وانتصاري هذا نموذجًا للآخرين، فإننا أوردنا للتوضيح مجموعة من العبر والانتقادات والنماذج التي طرحت التالي من الأحداث

الدول الكبرى تكذب

التقى القيادي العربي الفلسطيني هاني الحسن مع الوزير الأمريكي (ذو الأصل اللبناني) فيليب حبيب بعد العام ١٩٨٢ حيث تواجها في بلد أوربي بعد مجزرة صبرا وشاتيلا الفظيعة ضد الفلسطينيين في لبنان التي تلطخت فيها يد مجرم الحرب شارون مع ذيوله وأتباعه من العرب الانعزاليين، فكان الرفض والاستغراب من هاني الحسن لعدم إيفاء الأمريكان بالتزاماتهم بالحفاظ على المخيمات إثر اتفاق خروج الثورة من لبنان، فقال له فيليب حبيب بكل برود واستعلاء: ألم تعلم أن الدول العظمى تكذب!

وعليه -وقس على ذلك من تجارب- يجب ان نتعلم. نعم يجب أن نتعلم، وما الرفض الفلسطيني الذي يقوده الرئيس محمود عباس اليوم عام 2020 ضد صفعة القرن المدوية على قفا الأمة إلا نتاج تجربة طويلة تعلمنا فيها قبل وبعد "اتفاقيات أوسلو" (1993-1995م) ألا نؤخذ بالأقوال، وألا ننبهر بالأوراق وما دوّن فيها، فالأفعال هي المعيار للمصداقية، والدول الكبرى تكذب.

ولا مصداقية للاحتلال الصهيوني بما يفعله يوميا من اعتداءات لا حصر لها على الأرض والشعب. إذن نحن نتعلم وهذه قاعدة أولى.

الازدراء، والوعي
تذكر الكاتبة د.مي صيقلي في كتابها الهام عن حيفا العربية أن الإنجليز في مراحل عديدة من احتلالهم لفلسطين (1918-1948م) كانوا يشعرون بالازدراء والاحتقار للعرب الفلسطينيين حتى ثاروا وسجّلوا البطولات! ما ذكرني هذا الازدراء بندوة للمفكر العربي خالد الحسن التي أشار فيها لضعف العرب وهوانهم وذلهم وذلك عام 1981 (قبل صمود بيروت) الى الدرجة التي لا تهتم فيها أمريكا حتى بمصالحها لديهم! فلا قيمة لهم ولا رد فعل متوقع منهم!

لذا تنظر أمريكا لدول العرب كما يقول ابوالسعيد أنهم صفر والرقم فقط هي "اسرائيل"! وما ذاك إلا ازدراء واحتقار يجعلنا دوما نفكر للاجابة عن سؤال القوة والكرامة في معادلة الوحدوية والاجابة عن سؤال ما العمل؟

وإذ كنا نتعلم فيجب أن نفهم. وهنا يجب أن نفهم أن الرئيس الأمريكي المختل بعنصريته البغيضة "دونالد ترامب"، والمغرور بصفقاته التجارية الذي أعلن أن القدس لليهود من آلاف السنين، حيث قال: أنها «العاصمة الأبدية للشعب اليهودي»! عام 2017، ثم فعل بأمر نقل سفارته لها، وقال وفعل أن لا عودة للاجئين ولا حياة للأسرى، ولا كرامة للشهداء هو يزدري ويحتقر العرب قاطبة وهم الذين صمتوا إزاء كل ذلك وأكثر صمت القبور!؟

ولم لا يفعل تحالف نتنياهو-ترامب الصهيوأمريكي ما يفعله باللعب في دم الامة وجثتها، و"ترامب" يرى العرب كما رآهم كل أسلافه صفرا والرقم الوحيد إسرائيلهم الموهومة، لذلك صرخ "ترامب" في أمة العرب وعلى أرضهم بلا خجل، ولا وجل وبكل بجاحة: أريد منكم كل أموالكم! ومنها الوظائف لشعبي الأمريكي فقط ولكم أن تعلموا أن الهيمنة ل"إسرائيل"!؟ أم الإبراهيمية!؟ صارخًا: جوبس جوبس جوبس أي وظائف وظائف وظائف! فذهبوا إليه طوعًا لا كرهًا!

كان العرب أو أشباههم على قدر ازدراء الأمريكي-الصهيوني لهم، فتذيّلوا (من الذيل) ظانين أنهم تحالفوا معه!؟ بدلا من أن يتحاوروا بينهم، فيتوحدوا بالعلم والجغرافيا واللسان والدين والحضارة الجامعة لهم، وذلك تحالف الذليل الخانع المدعو (الملك الرحيم أبوالفضائل بدر الدين لؤلؤ)! حاكم الموصل الذي انضم لهولاكو المغولي في احتلال عاصمة الخلافة بغداد، أو تحالف الذليل الآخر (الملك السعيد! حسن) الأيوبي!؟ ملك بانياس في قتاله العرب والمسلمين في معركة عين جالوت، وأمثالهم من قذارات التاريخ المخزي .

الانعزاليون العرب بالحقيقة استذيلوا (أي جعلوا أنفسهم ذيلاً للصهيوأمريكي بدلا من استرداد كرامتهم) واستتبعوا بأن أصبحوا أتباعًا للصهيوني الأمريكي ضد عروبتهم، وضد إخوانهم تحت مسميات فارغة من السيادة!

إنهم العبيد المتصهينين منعدمي الكرامة الدينية أو القومية، فلم لا يزدريهم نتنياهو أو ترامب أوالنازيين أمثالهم، ويحتقرهم!؟ ونحن نرى التراكض والعناق المعيب! حيث وجب أن نتعلم. ولأننا نعي ونتعلم يجب أن نصنع الفعل الجهادي-النضالي القادم المفضي للنصر.

لأمثال هؤلاء العبيد الأذلاء المستذيلين الانعزاليين المنبهرين بالغرب أو الصهاينة، والمستتبعين للصهيوأمريكي نقول لهم ما قاله رب العزة لرسوله الكريم: (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ -65-يونس)

الذبابة والعنكبوت

يقول المفكر الكبير مالك بن نبي في كتابه المعنون: العفن، أنه فترة دراسته في باريس في الثلاثينات من القرن العشرين-قبل استقلال الجزائر ودول المغرب العربي- كان هناك أستاذ جامعي فرنسي يحاول التقرب من الطلاب العرب سواء المشارقة أو المغاربة بسوء نية بالطبع، ليضخ فيهم أفكاره المسمومة من الفرنَسَة والبربرية ضد اللغة العربية، والتبشيرضد الاسلام، وازدراء أمة العرب وهو المستشرق الاستعماري الشهير "ماسينيون"، وقد نجح مع مجموعة فيهم كما الحال بنجاح "نتنياهو" اليوم، فشبه مالك بن نبي "ماسينيون" بالعنكبوت الذي لا يقبل حتى الذبابة ويقصد نفسه هنا -التي وإن أمكنه سحقها- فإنه يخاف تأثيرها على خيوطه-أتباعه!

ومن هنا فإن الأثرالنضالي النهضوي لأفكار العالم مالك بن نبي الذي شبّه نفسه بالذبابة المزعجة لعنكبوت الاستعمار وخيوطه، وأمثاله من علماء ومثقفي الامة كانت تؤثر على نسيج خيوط "ماسينيون" العفنة (أي على أتباعه من الطلبة العرب المغاربة الذين تفرنسوا أو كانت لديهم القابلية للاستعمار).

لذا فالمستعمر، ومثيله الصهيوني اليوم الذي نسج خيوطه فأنتجت المتصهين والمستذيِل، لا يترك أمثال هذه الذبابات، أو لنقل فراشات النور في العقول المظلمة فيسعى بكل أدوات حربه الميدانية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام لمحاصرتها، لعلّه يقضي عليها وعلى أثرها في ذيوله.

ولكن بالحقيقة الناصعة انتصرت الحرية والكرامة والعدالة، وزال الاستعمار الفرنسي و"ماسينيون" العفن، واندحر أولئك القابلين للاستعمار، وإن بقيت حفنة منهم مازالت تقاتل، وخلفهم اليوم من المتصهينين أو ذوي القابلية للتصهين من الانعزاليين العرب الكثير.

وعليه أصبح من المتوجب أن نخوض حربًا شرسة ضد الصهاينة وأذيالهم معًا، فلا تمتد خيوطهم لتطوق رقبة الأمة، وخاصة رقاب شبابها ومثقفيها وكتابها وفنانيها وعلمائها وكتابها وشعرائها، فتحرفها إلى الدرجة التي تتبنى فيها الرواية اليهودية الخرافية المحرفة، والرواية الصهيونية السياسية الاحتلالية الاحلالية العنصرية، والى ذلك تنبهر بالاحتلال وتخنع امتدادًا لاستمرائها الخنوع الطويل لحكم الاستبداد الذي قتل الحرية وخنق حتى الصراخ في الحناجر.

نحن نستطيع

ما كانت هذه ال[لا] العربية الفلسطينية الصارمة العجيبة التي رفعناها عاليًا ضد إسفاف صفعة ترامب وأتباعه الأذلاء المزدرين منه، إلا وعيًا عميقًا من المناضلين المجاهدين بالتجارب المريرة الطويلة التي خضناها كعرب فلسطينيين وأحرار الامة الكُثُر، لذا نحن سنظل نناضل ضد الإسرائيلي الغاصب للأرض أرضنا فلسطين، وضد الأمريكي المهووس بأفكاره الاستعمارية المتعاضدة مع فكره الإنجيلي الصهيوني الخرافي.

نحن أمة صارمة عميقة متجذرة فخورة بعلمها ونظرة علمائها الأفاضل النهضوية التقدمية المناهضة للعفن والتصهين، مهما طال الزمن، والرافضة لمنطق القابلية للاستعمار والاستحمار والانعزالية والاستذيال .

فخورون بأمة العرب، أمة المسيح عليه السلام، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم حيث طبعت على الكرامة والأنفة والحرية والحق والعدالة والفضائل، ومن هم غير ذلك هم الانعزاليون والمستذيلون والمتصهينون الشواذ الذين تُفتح لهم أبواب الإعلام والتواصل الاجتماعي اليوم ليسوا إلا خيوط عناكب "ماسينيون".

ومن هنا نحن نتعلم لنمتلك مرجعية عقلية صلبة وثابتة، وقيم و(خلق عظيم) لا يحفر فيها الزمن، وعلينا تطبيق الآليات والوسائل بعقل وتروي ومبادئ، وهذه الشروط النهضوية في الذات والآخرين، بلا استمرارية ومثابرة وديمومة كأنها لم تكن.

في إطار الكلام مقابل العمل فإن النظرة السوداوية فقط تعني ان الشخص يعمل ولا يغيّر لا ذاته ولا غيره من رباعية الأنا والتنظيم والميدان والناس، وقد تعني هذه النظرة أو الكلمة الذابلة استسهال الكلام بلا رصيد إيجابا أو سلبا أن الشخص يقوم فقط بمهمة التنفيس لا غير. وهذا الشخص لا يعمل وإنما يلوك كلامه كالعلكة ليقذفه بعد أن ينتهي منه!

أما الشخص الذي لا يثق بقدراته الفردية أو الجماعية لا يتعلم، ومن لا يثق بقدراته قد لا يدرك وجودها، وإن ادرك تكاسل فلا يسعي لتفجيرها أو تطويرها فإنه ايضا لا يعمل.

فمن يريد العمل يتعلم من التاريخ ويفقه مناهج الفكر، ويتعلم من تجارب الآخرين قبل تجاربه كما يدعم فكره بلاد أدنى تكاسل بالقراءة العميقة والبحث والتفكر العميق فلعلنا ننجو ونفوز.


• لم يكن من الممكن أن يكون العنوان بهذا الطول: دروس في الحرية والكرامة ومناهضة الازدراء والنضال الذاتي والجماعي، فكان العنوان كما تقرأون: كرامة الذابة ولؤم العنكبوت.

اخر الأخبار