ماذا تفعل تركيا في غزة ورام الله؟

تابعنا على:   14:27 2020-09-19

طارق فهمي

أمد/ تبدو تركيا مركز حركة حماس في الخارج بالوقت الراهن لاعتبارات متعددة لا علاقة لها فقط بلقاء رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومسؤولين أمنيين أتراك، أخيراً، وإنما الأمر متعلق بالتحركات التي تجريها حركة حماس في الخارج، وتتعلق بكثير من التطورات الأخرى التي تدور في هدوء وبعيداً عن وسائل الإعلام.

أهداف مباشرة

تبحث حركة حماس عن موطئ قدم لها في مناطق إستراتيجية جديدة للتواجد، وليس فتح مقر دائم فقط، فهناك نشاط كبير لحماس في الأراضي التركية يديره القيادي في حركة حماس صالح العاروري، والذي طالبت إسرائيل في شروط المصالحة الكاملة وتطبيع العلاقات بإبعاده عن الأراضي التركية، فهو يعد مهندس العلاقات التركية مع حركة حماس، وإن كانت أجهزة الأمن التركية طلبت رسمياً من الحركة تخفيف نشاطه وتحركاته، ومن اللافت أن الموساد الإسرائيلي هو من دخل على الخط في هذا الملف.

من ناحية أخرى، فإن حماس تبحث عن تمويل حقيقي، ودعم مالي وعتاد إستراتيجي، وهو ما قد تسهم فيه تركيا دون أن تكون هي الطرف المركزي في هذا الملف، خاصة وأن الحضور التركي في قطاع غزة - في المقابل - يتميز بطابع مصلحي ونفعي وليس تطوعياً، وهو يكاد يشابه ما جرى في اللجنة القطرية لإعمار القطاع، والتي تحولت من دورها التطوعي إلي دور استثماري للعمل في مشروعات تدر عوائد مالية.

ويشار إلى أن وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا) قد أعلنت عن قرب تنفيذ سلسلة من المشروعات الجديدة في قطاع غزة وكذلك الإعلان عن افتتاح مستشفى الصداقة التركي الذي يقام وسط قطاع غزة، ويعد المشروع أكبر المشروعات التركية الداعمة لسكان القطاع، وقد حرصت الحكومة التركية على تسويق هذا المشروع إعلامياً وسياسياً، وبصورة لافتة لتأكيد قدرتها على إتمام مشروعات ضخمة بمفردها ودون اعتماد على أطراف أو مؤسسات مانحة.

ومارست تركيا أنشطتها من خلال جمعية "ياروم" لتقديم المساعدات الإنسانية للفلسطينيين أبرزها، المعروفة باسم "يكا" وهيئة الإغاثة الإنسانية المعروفة باسم "إلي" وجمعية الهلال الأحمر التركي، وربطت بعض المناطق الاقتصادية بين غزة وتركيا من خلال الإعلان عن توقيع مذكرة تفاهم بين المدن الصناعية الفلسطينية والتركية، وبخاصة مدينة بيكو الصناعية في غزة لتسهيل دخول البضائع الفلسطينية للأسواق التركية، وبلغ عدد الأتراك الذين يزورون القدس سنوياً قرابة 50 ألفاً، وهناك توجه تركي رسمي لضرورة زيادة أعدادهم.

ويشار إلى أن تدريب العناصر والكوادر التي تتبع حماس في تركيا لم يعد له وجود حقيقي في الأراضي التركية، وإن كانت تركيا تعمل في خطابها الإعلامي والسياسي للتأكيد على هذا، وهو أمر ليس صحيحاً والوجود الميداني لعناصر الحركة محدود، ولا يجري بالصورة التي تريد تركيا إظهارها، ومن المؤكد أن تنسيقاً أمنياً على مستوى الأجهزة الاستخباراتية بين تل أبيب وأنقرة قد حدد ذلك بالفعل، لكن يبدو أن تركيا تحاول الالتفاف على ذلك من خلال التأكيد السياسي للحركة والتي تدرك أن الضغوط الإسرائيلية نجحت في تحويل الموقف التركي  تدريجياً إزاء ما يجري في القطاع.

فمحاولة تركيا لعب دور جديد في مسار التهدئة قد يصطدم بكل من قطر ومصر، خاصة وأنه ليس لتركيا ثقل في هذا الملف، وإن كانت هناك توصيات لجهاز المخابرات التركي، أخيراً، للحكومة التركية بضرورة استبدال المهام والأدوار في الساحة الفلسطينية، وعدم الاقتصار على دعم حماس فقط بل والانطلاق إلى مسارات أخرى للتعامل مع السلطة الفلسطينية، التي طالبت، أخيراً، من الحكومة التركية رسم حدودها البحرية مع الأراضي الفلسطينية.

وفي إطار انفتاح مهم يؤكد أن تركيا ستنظر بعين على القطاع، وأخرى على رام الله، حيث يحرص الرئيس الفلسطيني محمود عباس على التفاعل مع تركيا، وقام بتوجيه رسائل دبلوماسية وسياسية وإستراتيجية لأنقرة، ودلالاتها في هذا التوقيت أن السلطة تريد دوراً لتركيا في المرحلة المقبلة، وهو ما ينبغي تفهم الدوافع السياسية والإستراتيجية التي تقف خلف هذا الدور، ومحاولة الموازنة لدور دول مثل مصر والسعودية في الشأن الفلسطيني.

الصراع على القوى الإقليمية

في إطار استمرار التجاذبات السياسية الراهنة بين فتح وحماس من الطبيعي أن يكون الصراع على القوى الإقليمية، فحماس علاقاتها بمصر صامتة خاصة بعد التدخل المصري المباشر الأخير في ملف المواجهات في القطاع، ومحاولتها لضبط الوضع الداخلي وإقرار مبدأ التهدئة مجدداً، وهو ما تعاملت معه حماس بأنه غير مجد في إطار عدم التزام الجانب الإسرائيلي، مما سمح بدخول قطر على الخط وفتح مسار ثان للاتصالات التي لم تتضح نتائجها بعد.

قنوات للتعامل

في ظل هذه التطورات الجارية، فإن حركة حماس ستستمر في البحث عن تعدد قنوات التفاعل والتعامل ليس تجاه تركيا فقط بل وتجاه الإقليم على النحو التالي:

وجود تجاذبات حقيقية داخل الحركة وتوجهاتها إزاء تركيا وإيران بل قطر ومصر، وهو ما انعكس على صنع القرار داخل الحركة، وتعمق التباين إزاء ملف التهدئة وإعادة بناء منظومة التحالف الكبرى في الإقليم مع التركيز على إيران وتركيا بالأساس، وهو ما قد يفسر التكالب على تركيا في الوقت الراهن على الرغم من أن تركيا لديها تحفظات والتزامات ستعرقل دعمها الحقيقي للحركة في المدى المتوسط.

أن معركة الخلافة في المكتب السياسي للحركة لم تحسم بعد ولا تزال قائمة، وعودة خالد مشعل مرتبطة بضوابط مختلفة قد تلعب فيها تركيا دوراً كبيراً، لكنها لن تحسم الأمر في ظل ضغوط إيرانية متوقعة، وإن كان تياراً متنامياً في حزب العدالة والتنمية يطالب بوضع جديد لخالد مشعل وتوليه إدارة ملف التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وليس العودة إلى موقعه السابق في رئاسة المكتب السياسي خاصة وأن إجراء الانتخابات الداخلية باتت محل تشكك كبير في الفترة المقبلة في ظل توجه لاحتمالات إجراء تأجيلها لعدة أشهر.

لا تريد قيادات حماس في الخارج التركيز فقط على تركيا عكس ما هو شائع بالفعل، لاعتبارات متعلقة بإعادة بناء إستراتيجية جديدة لحماس في العالم وليس في الإقليم، وهو ما يفسر الانفتاح على روسيا ودول آسيا الوسطى، ومروراً بدول الجنوب الأفريقي، والانطلاق إلى آسيا حيث الدعمين الماليزي والإندونيسي وغيره، وهو ما يشير إلى أن الحركة تجاوزت البحث عن البديل الآمن والمقيم والقضية ليست مكتباً في تركيا أو إيران، وإنما في ممارسة أكبر دور في الخارج.

أما المقر المهم فهناك توقعات بأنه سيكون في الجزائر أو في السودان على الرغم من إنكار البلدين ذلك،  وهو الأمر الذي يؤكد أن الحركة تواجه إعصاراً داخلياً وأزمة خانقة وتداعيات أزمة كورونا وغلق القطاع، إلا أنها تريد تسويق نفسها من البوابة الدولية، وتركيا ليست بأكثر من نقطة في قائمة نقاط متعددة تستهدفها حركة حماس للخروج من الوضع الراهن، ولا علاقة له باستبدال المهام أو الأشخاص أو الأولويات حالياً.

تتخوف حركة حماس من نجاح الرئيس الفلسطيني محمود عباس من الانفتاح تجاه تركيا ما قد يؤدي إلى آثار سلبية على تعاملات حماس وأنقرة، خاصة وأن الحديث الفلسطيني الرسمي يصب في صالح محمود عباس الذي يريد تصويب مسار العلاقات التركية - الفلسطينية في الفترة المقبلة تحسباً لانهيار منظومة العلاقات الخليجية الفلسطينية بالكامل إثر معاهدتي السلام الإماراتية - الإسرائيلية، والبحرينية - الإسرائيلية، ودخول دولة الإمارات العربية على خط القطاع بدعم مصري، وارتضاء قطري وترحيب دولي، وهو ما سيدفع إلى منعطفات سياسية وإستراتيجية جديدة في القطاع.

ويدرك عباس أن السياسة التركية سياسة نفعية ويتعامل معها انطلاقاً من هذا التوجه، ولن يتراجع عن مد التعامل في الفترة المقبلة، خاصة أن ملف محمد دحلان القيادي السابق المفصول من حركة فتح ضمن التوجه الفلسطيني، ووفقاً لاعتبارات متعلقة بالرئيس محمود عباس شخصياً، وهو ما سيؤدي أيضاً لمزيد من توتر العلاقات بين دولة الإمارات العربية والسلطة الفلسطينية.

وتجدر الإشارة إلى أن تركيا وضعت اسم  القيادي دحلان على "القائمة الحمراء" بتهمة دعم المعارض البارز فتح الله غولن. ومن ناحية أخرى، كان دحلان كشف خلال مقابلة تلفزيونية حقيقة المشروع التركي في الإقليم العربي، والعلاقات الوطيدة بين تركيا وإسرائيل، وأشار دحلان إلى أنه تسير 300 رحلة طيران مدني شهرياً بين إسرائيل وتركيا، وأن 49 في المئة من الإسمنت المستورد لبناء المستوطنات الإسرائيلية من تركيا، و60 في المئة من الحديد المستخدم في بناء هذه المستوطنات مصدره تركيا، وحجم التبادل الأمني والعسكري الإسرائيلي مع تركيا هو الأعلى في المنطقة، وأول سفير لدولة إسلامية في إسرائيل كان من تركيا.

مخطط مدروس

تسعى تركيا لاستعادة ما تراه المجد العثماني القديم بالسيطرة على كل الأقطار العربية والهيمنة عليها سياسياً واقتصادياً، فمن المواضح أن العثمانيين الجدد يستخدمون جماعة الإخوان المسلمين وفروعها في الدول العربية للوصول إلى مخططاتهم، ومن بين هذه الفروع تأتي حركة حماس التي تستخدمها تركيا كورقة تناور بها عند الضرورة.

وفي المقابل، فإن السياسة التركية ستتعامل انطلاقاً من اعتبارات محددة في مقدمتها تحقيق مكاسب التواجد في الملف الفلسطيني بالكامل، وليس في القطاع وستخرج برسالة إلى رام الله وغزة أنها ستوازن في نمط العلاقة بصرف النظر عن اللقاءات لمسؤولين كبار في الحركة في تركيا، إذ إن إسرائيل ستحجم أي انفتاح جديد أو متوقع تجاه الطرفين.

كما أن حماس التي فشلت في تحريك الطرف الإيراني والحصول على دعمه في ظل التبدلات التي تجري في سياسة إيران تجاه الفصائل والعناصر الوكيلة في الإقليم بعد قاسم سليماني وفشل خليفته إسماعيل قاآني في التعامل مع هذه العناصر، هو الذي يدفعها للعمل والعودة لسياسة التعاملات مع تركيا وقطر بل ومصر في النطاق القريب مع استمرار عقد الحسابات، وعدم اعتماد خيار واحد ومحدد أو التسليم بما يجري في إطار سياسة تنويع العلاقات.

هذا ويبقى الهدف الرئيس والمهم للسياسة التركية في الفترة المقبلة العمل على توظيف الملف الفلسطيني بأكمله، وليس قطاع غزة انطلاقاً من تبني أنقرة تيارات الإسلام السياسي، وتركيز المشروع التركي على معادلة تاريخية أطلقت عليها مصطلح "العثمانية الجديدة"، وهي معادلة تريد السياسة الخارجية التركية من خلالها الاستفادة من الروابط التاريخية والثقافية والاجتماعية لبناء عالم أو فضاء جغرافي حيوي للسياسة التركية. وذلك في استحضار للإرث العثماني، لا سيما وأن هذا الأمر تزامن مع تحولات في الداخل التركي على شكل التخلص من الأسس التي قامت عليها الجمهورية لصالح بناء نظام رئاسي أعطى لأردوغان صلاحيات شبه مطلقة.

تنوع التحرك التركي

تتنوع التحركات التركية في فلسطين على الأرض على عدة مستويات، فهي على سبيل المثال تتحرك تجاه عرب فلسطين 48، من خلال شبكة الدعوة التي تضم العشرات من المؤسسات الخيرية العاملة في مجال الصدقات والتعليم والدعم الاجتماعي، الحاصلة على تمويل تركي، مثل "المركز الثقافي التركي، اللقلق، وقت القراءة، البستان، تيكا، من يد إلى يد".

كما تتحرك تركيا في مدن النقب ويافا وحيفا واللد والرملة، ما يجعل إسرائيل تواجه صعوبات في التصدي للنفوذ التركي المتزايد بين الفلسطينيين في إسرائيل، كما قدموا تمويلاً مالياً مجزياً لاستبدال غطاء قبة الصخرة، وترميم البوابات الإسلامية بالحرم القدسي، وجزء من الجدار الشرقي للبلدة القديمة.

إضافة لذلك هناك منظمات تركية أخرى تسعى لترميم مساجد داخل إسرائيل، مثل حسن بك في يافا، والجرينة في حيفا، وتسعى للحفاظ على المسجد الأقصى والإرث العثماني في القدس، والسيطرة على الوقف الإسلامي بباب الرحمة.

الرسائل النهائية

كما أنه من المتوقع أن يطلب الفلسطينيون من الجانب التركي في الفترة المقبلة تدريبات ودعماً إستراتيجياً ومسرح عمليات في مواجهة إسرائيل مع صقل خبرات القيادات الميدانية للقسام وخاصة القيادات العليا، أما في رام الله، فقد يعمل على دعم التقارب على أرضية مصلحية مباشرة ومحاولة إحداث توازنات منضبطة ومهمة في سياقها الأمني والسياسي، خاصة بالنسبة لما يجري في منظومة العلاقات الخليجية الإسرائيلية الراهنة والمقبلة مع التأكيد الفلسطيني على دور دولة مثل تركيا في مقابل تنامي دور دول أخرى في الإقليم تسعي لحصار وتطويق أي تأثير للرئيس محمود عباس، وحصر خياراته، كما يجب الانتباه إلي أن المساعدات التركية المالية أو العينية لحركة حماس والدعم المتواصل لها واستمرار آلية الاتصال تجري بوصفها فرعاً من جماعة الإخوان المسلمين، وليس لكونها حركة فلسطينية، كما تبقى الرهانات قائمة على أن الدعم التركي لحركة حماس يأتي ضمن مساعي تركيا لتحقيق هدفين: ضمان استمرار الانقسام الفلسطيني واستمرار حكم حماس لقطاع غزة، والثاني، هو محاولة جذب حماس إلى دائرة المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي بديلاً عن السلطة الفلسطينية في رام الله.

كلمات دلالية

اخر الأخبار