الفلاسفة ومسألة العمل

تابعنا على:   16:58 2020-08-30

شريف حسني الشريف

أمد/ يعتبر الكسل جزءا من طبيعة الانسان، ومن صميم كونه بشرياً. وقد تراوحت الآراء قديما وحديثا وعلى اختلاف الحقب الزمنية، ما بين الحض على العمل وتمجيد القيم الداعية إليه،  وما بين الاعراض عنه، باعتبار أن الحياة ليست طويلة بما يكفي، كي يقضي الانسان عمره في السعي والاجتهاد.

 الكسول هو الذي لا يقدم على فعل شيء، و يطمح بأن يتوافر وامتلاك كل شيء. مما يناقض القول بأنك إذا أردت شيئا فعليك أن السعي خلفه، وبذل كل الجهود اللازمة للوصول إليه واقتناصه. وقد تدركه مع ذلك أو لا تناله على الإطلاق. وكثيرة هي الأقوال والحكايات والأمثولات والأشعار، في مختلف ثقافات الأمم التي تحض على العمل، وعدم السكون الى الراحة، من حيث أنه وسيلة لتحقيق الذات، وتأمين الاكتفاء للمجتمع من الإحتياجات الأساسية، والمطالب الضرورية بالدرجة الأولى.

و يتصف الكسول  بميزة عدم الدخول في صراع تنافسي أو وجودي مع الآخرين، على المال أو الثروة و الجاه. والكسالى لا يسعون إلى شيء، ولا يطمحون لتحقيق سوى مطلبهم الأثير بالكسل، كما لا يرهقون أنفسهم بالسؤال عن مغزى الحياة والوجود وما ورائهما، ولا يتأثرون كثيرا بما يقال حول أهمية العمل، ودوره في حياة الانسان وتلبية متطلباته.

وكما يقال فإن نفي الشيء هو اثبات لنقيضه، وعدم التفلسف هو تفلسف ولكن من منظور آخر، حيث يتسع المجال ليشمل الذين يمارسون الفلسفة وينتهجونها كطريقة و أسلوب للحياة، والذين هم ليس كذلك.

من المتداول على صعيد تأريخ الفكر الفلسفي من حيث البدايات والنشوء، أن الفلسفة نشأت نتيجة توافر الوقت للتفكير، والفراغ من عبء تأمين متطلبات الانسان واحتياجاته، وقد نشأ الفلاسفة على احتقار العمل اليدوي الشاق باعتباره من شأن العبيد، كما أنه لا يليق بالشرفاء والاحرار سوى ممارسة التفكير، والنهل من متع الحياة.

فهل استقرت النظرة الفلسفية إلى العمل باعتباره شيئا أو سلوكا لا يليق بالفلاسفة، أم هل شجع الفلاسفة على السعي وبذل الجهود، بدل الاكتفاء بالدعة والخمول وانتظار الأعطيات؟
وكيف تجلى الأمر والنظر إلى الثروة على صعيد الأشخاص الذين لقبوا بالفلاسفة، وقدموا إسهامات شتى في مجال الفكر والإنتاج الفلسفي؟

• بداية طاليس الفيلسوف اليوناني والرياضي الشهير، كون ثروته من خلال التجارة، فقد جمع ثروة بفضل توقعاته المناخية الصائبة، وقام في إحدى السنوات بشراء كل موسم الزيتون، معتمدا على معرفته العلمية وحدسه، وسعيا لإثبات أن للفلسفة فائدة عملية.

• سقراط الذي يعرف بأنه أستاذ أفلاطون، و يوصف بأنه أول من أنزل الفلسفة إلى الأرض، وجعلها تدخل بيوت الناس. بمعنى عمل على نقل الاشتغال الفلسفي من تفسير الطبيعة، والسؤال عن مصدر الوجود، إلى الاهتمام بالإنسان وقضاياه، والتركيز على الأخلاق، منطلقا من أن الانسان خير بطبعه, وأن لا أحد يفعل الشر مختارا. وكان سقراط لا يتقاضى أي أجر مقابل تعليمه ، وعاش في فقر وحاجة دائمة.

• ديوجين الفيلسوف اليوناني المثير للجدل بسبب نمط عيشه،  والذي تتلخص فلسفته بأن غاية الحياة هي السعادة، التي تتحقق عندما يعيش المرء بانسجام مع الطبيعة؛ عاش حياة قوامها التشرد، وأمضى أكثر من نصف عمره داخل برميل، كان يجوب شوارع المدينة حافي القديمين، ومن القصص الشهيرة أن الإسكندر الأكبر جاء إلى أثينا، ومر بديوجين بينما كان قابعاً في برميله، فدار بينهما نقاش، وسأله إن كان يستطيع مساعدته، فأجابه ديوجين لا شيء فقط إنك تحجب نور الشمس عني، فقال الاسكندر لو لم أكن الإسكندر الأكبر لتمنيت أن أكون ديوجين.

•وبسبب تراجع الفلسفة في أثينا و اليونان عموماً، وانتقال العلوم والمعارف في العالم القديم إلى الإسكندرية. ازدهر الفكر الفلسفي، وغدت المسيحية التي تغلغلت في المدينة، إحدى الديانات المتواجدة بقوة في القرن الثالث الميلادي. حيث عاش الفيلسوف «آمونيوس ساكاس»، و الذي ينسب إليه تطوير فلسفة أفلاطون، وإعطائها شكلاً جديداً عرف باسم الأفلاطونية الجديدة، أو الأفلاطونية المحدثة وكانت لفظة (ساكاس) تعنى السقَا أو الحمال. لقبه تلامذته وأتباعه من بعدهم  بالملهَم من الله. واشتهر من تلامذته العديدون ومنهم أفلوطين،  الذي قدم في شبابه إلى الإسكندرية، فأخذه صديقٌ له لزيارة آمونيوس ساكاس والاستماع إلى دروسه الفلسفية، فلما انتهى الدرس صاح أفلوطين: هذا هو الرجل الذى كنتُ أبحث عنه. وقد اشتهر أفلوطين بكتابه التاسوعيات

•ديكارت الذي يلقب بأبي الفلسفة الحديثة، واشتهرت مقولته بأن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وقدم إسهامات عديدة في مجالات عديدة. التحق الجيش الهولندي، حيث تطوع للخدمة في الجيش الهولندي عام1618 م، وخاض معه عدة معارك، وفي عام 1622، ثم عاد إلى فرنسا وقام  بتصفية أملاكه، واستثمر في تجارة السندات المالية، مما أمن له دخلا مريحا.

•الفيلسوف سبينوزا ولد عام 1632م في أمستردام، هولندا، لعائلة من أصل يهودي . توفي والده الذي كان تاجراً ، فتولى أخوه الأكبر شؤون تجارته، وبوفاة الأخ وقع على عاتقه إدارة الشركة التجارية، ولكنه أخفق في أداء المهمة التي اوكلت إليه، و أدى تراكم الديون إلى توقف الشركة عن نشاطها، امتهن بعد أن ضاقت به سبل العيش صنع العدسات.

•شوبنهاور الفيلسوف الألماني، والمعروف بفلسفته التشاؤمية، فالحياة شر مطلق. عرف بكتابه «العالم كإرادة وتصور«. انتحر أبوه وهو في السابعة عشرة  من عمره ، وعاش بعد ذلك حياة تعيسة بسبب خلافه مع أمه، أدى الخلاف بينهما إلى قطيعة كاملة. ومع ذلك فقد عاش حياة مديدة، واستثمر في مجال التجارة والسندات المالية، مما أمن له دخلاً مريحا مكنه من قضاء شيخوخة هادئة، لم يعرف فيها العوز والحاجة.

•الفيلسوف نيتشه صاحب كتاب «هكذا تكلم زارادشت » الشهير سخر من قيم الدعوة إلى العمل، بأن العمل الشاق من الصباح إلى الليل يلجم كل فرد، ويساهم بشكل قوي في إعاقة تطور العقل والرغبات وحس الاستقلال. لأنه يستهلك قدراً هائلاً من الطاقة العصبية ويستثنيها من التفكير والتأمل والتخيل، ومن المخاوف والحب والكراهية، وهو يمثل على الدوام هدفاً تافِهاً ويؤمن ترضيات سهلة ومنتظمة.

• براتراند راسل الفيلسوف والرياضي والمنطقي الذي عاش لمدة قرن وكتب في مجالات وميادين شتى، أعلن بأن الاعتقاد بأن العمل فضيلة هو سبب الشرور العظيمة في العالم الحديث، و ألف كتابا سماه« في مديح الكسل». المسألة الرئيسية في المؤلف المذكور تقوم على أن العمل الذي ينجز في العالم يزيد عما ينبغي إنجازه بكثير، وأن ثمة ضرراً جسيماً ينجم عن الإيمان بفضيلة العمل. مؤكداً الحاجة إلى الكف عن إرهاق الناس، في  القيام بأعمال مضنية تحولهم إلى آلات إنتاج، والاعتماد أكثر على تحفيز قدراتهم الذهنية والفكرية والإبداعية، فثمة فائض في العمل، وليس ثمة فائض في مستوى جودة الحياة.

وذلك في تبيان لأهمية الكسل، ولكن بشكل مغاير للصورة التقليدية الشائعة عن الكسل، والقائم على عدم الفعالية المطلقة.  كما أن في ملاحظة نيتشه العميقة إشارة إلى أهمية استعادة الذات والالتفات لها، وعدم الاستغراق في تفاصيل لا سيما وأنه هو الثائر على القيود ، والمبشر بأفول الأصنام، والقائل أحب الذي يبدع ما هو أسمى منه، حيث لا إبداع بلا عمل، كمحصلة فلسفية أخيرة.

كلمات دلالية

اخر الأخبار