مرايا.. لله درّك ما أنبلك

تابعنا على:   00:11 2020-06-26

عبدالله الشاعر

أمد/ في الكتابة عن قامة كبيرة كأبي عبد الله، سأستهلّ المحاولة بهذا المقطع الشعريّ، لواحدة من شعراء المقاومة في لبنان:
" في سِدرةِ العشقِ ، تتلو وجهَهُ الصُحُفُ بأيّ سرٍ تُرى آلاءَهُ أصِفُ ؟!
لي بُحَّةُ الناي ، مسَّ الضُرُّ قَصبَتَهُ و كُلما صِحتُ ( يا مولايَ ) ينكشِفُ
لهُ الليالي و ما أوتينَ من وَجَعٍ شَفعٌ ووَترٌ وغارٌ فيهِ أعتَكِفُ "
من ذا الذي في حياته تتعاظم المواقف، وفي موته حياة وانبعاث؟
لم يدهشني هذا الحضور المكثّف لصوته بعدما ووري الثرى، كما لم يفاجئني هذا الانفعال الكبير مع رحيله؛ فالعظماء تُصقلُ سيوفهم مع كلّ معركة يخوضها الأحرار، وتغدو مواقفهم البوصلةَ الأصدقَ نحو القدس والكرامة، وتغدو بحّة صوتهم الفصاحةَ التي تقضي على كلّ الثرثرات العابثة، واللغات التي تبيعنا الأوهام، وتسرق منّا أحلامنا وبنادقنا
ها نحن اليوم نقف بكلّ ما أوتينا من خشوعٍ أمام حضوره الآسر، نستلهم من عينيه معالم الطريق، ونتزوّد من بسالته خبزًا نظيفا في زمن الجوع الكافر والجبان، ونأوي إلى مدارات روحه كلّما ضاقت في وجهنا سُبلُ السياسة، وجهالة السياسيّين.
لطالما كانت قامته أطولَ من المسكونين بالأنا، ولطالما كانت مواقفه أكثرَ حكمةً وأصدق قيلا، ولهذا صرخ بكلّ ما أوتي من بصيرةٍ وعزيمة بضرورة الالتفاف حول البندقيّة خيارًا آمنًا في مواجهة الطغاة، وسبيلًا وحيدًا لاسترداد الحقّ المُغتصب، وسياجًا منيعًا يمنع القطعانَ المتوحّشة من النيل من كرامة الفلسطيني، ومن ترابه المقدّس.
لقد كانت المسيرة مضنيةً، وجراحها نازفة، لكن حينما يكون الهدفُ فلسطين، تهون الصعاب، وتُبذلُ المهج عن يقينٍ وطيب خاطر...أليس هذا ما شهدت به مسيرة أبي عبد الله، الممتدّةِ من وضوح الفكرة إلى بسالة البندقيّة، ومن طهارة الموقف، إلى طهارة الغايات؟
لطالما ضاقت في وجه الفلسطيني عواصم الخنوع العربي، ليجد بعدها لذّة الولوج إلى رحاب الله، والتمسّك بحبله المتين، فظلّت فلسطين الحلم المُقدّم على كل شيء، كما ظلّت طريقها معبّدة بسيوف الصادقين ودمائهم.
كان رضوان الله عليه مستيقنًا أنّ أروقةّ الفنادق لا تُطلّ على مخيّمات الفقر والصفيح، وأنّ البنادق وحدها التي ستسّد جوع الفلسطينيّين للنصر، لهذا لم يُسلم فكرته للمانحين، ولم يرهن سلاحه لإملاءات أحدٍ، أيًّا كان هذا الأحد؛ ففلسطين لا تقبل الشروط، ولا تبيع ثوابتها بالمال، كما لا يمكنها أن تقايض بندقيّتها بالعروض.
في زمنٍ تساقطت فيه بعض الحركات والدويلات سهوًا أو عن سابق انهيار، ظلَّ أبو عبد الله يقبض على يقينه، وحمل الهمّ الإسلاميّ في قلبه المُتعب...أهٍ من قدرة هذا القلب على احتمال الأوجاع...أوجاع الوطن الذي تقضمه الجرافات، والاتفاقات، والخيانات... أوجاع الفكرة التي تتآكل بفعل الضغط الذي يعانيه الآخرون... أوجاع المسلمين وقد خرج من بين ظهرانيهم من يسفك الدماء البريئة باسم الدين، وينادي لإقامة مملكة الرعب على أنقاض المقهورين... أوجاع الأمّة التي تنخر عظم المروءة، وتمضغ كبدها، وتُلقي بأشلائها في عراء العروبة الدامي!
وفي هذا الوقت الذي تزحف فيه دبابات الغزاة على ما تبقى من أرضنا كالجراد، وفي هذا الوضع الملبّد بالضباب، تُصبح حاجتنا لصوت أبي عبد الله ماسّة؛ ليفكّ لنا رموز المشهد، وينير لنا طريق الصعود إلى سدرة الحقيقة، وليأخذ بأيدينا نحو فلسطين كاملة من بحرها لنهرها، دون أن نٌسقط من ترابها ذرّةً واحدة، ولا من مائها قطرةً.

عزاؤنا في دكتورنا الكبير أنّه لم يرتحل قبل أن يترك لنا إرثًا عظيمًا، يُحصّننا من الزلل السياسيّ، ويفتح لنا الدروب الطاهرة إلى القدس، لندخلها كما دخل أجدادنا أوّل مرّة، ونتبّرَ ما علا الأوغاد تتبيرا.

اخر الأخبار