ترى لماذا الآن يستعاد الحديث عن المفاوضات سلاحاً وعن الرباعية الدولية سقفاً سياسياً؟

تابعنا على:   15:48 2020-06-06

إياد محمد عبدالحميد مسعود

أمد/ بعد أن أعلن الاجتماع القيادي في 19/5/2020 عن قراره «التحلل من الاتفاقيات والتفاهمات مع الحكومتين الإسرائيلية والأميركية، بما فيها القضايا الأمنية». لاحظنا أنه أطلت علينا إشارات، دعانا شكنا الصحفي المعتاد للتدقيق في خلفياتها ونواياها ومقاصدها، وفي السياق السياسي العام الذي وردت فيه.
• الإشارة الأولى مقالة لأحد كتاب الأعمدة في إحدى صحف رام الله، ممن اعتادوا تسخير قلمهم ليتلون بتلون السياسة اليومية للسلطة. إن ذهبت يميناً ذهب معها، وإن ذهبت يساراً شق لها الطريق، وإن راوحت في مكانها، أسهم في تبرير المراوحة وأسبابها ودوافعها وتظهير الحكمة من خلفها.
يتحدث المقال، دون مقدمات، عن المفاوضات، باعتبارها أسلوباً نضالياً تتبعه الشعوب من أجل الوصول إلى أهدافها. ويرى المقال أن نجاح المفاوضات رهن بتوفر مفاوض ذكي ولماح، وذي خبرة، ومعرفة، وحنكة وقدرة لغوية وإمكانيات متقدمة على صياغة العبارات، إلى آخر ما هنالك من مواصفات. وكان واضحاً لنا وللآخرين أن مديح المفاوضات لم يأتِ صدفة، بل هو يرتبط بأمر ما. وإن كان المقال قد حاول أن يقول بعبارات مختصرة أن اللجوء إلى سلاح المفاوضات لا يلغي إمكانية اللجوء إلى أساليب نضالية أخرى، وإلى أسلحة أخرى، دون أن يشرح لنا ما هي هذه الأساليب، وما هي هذه الأسلحة، وتمنينا لو أنه أعطى هذه الأساليب والأسلحة ما يعادل ربع ما منحه للحديث المسهب عن المفاوضات وأهميتها في نضالات الشعوب.
• الإشارة الثانية هي إعادة إحياء اللحنة الرباعية الدولية، كما وردت في البيان الصادر عن الاجتماع التشاوري للجنة التنفيذية الأخير، والدعوة لمؤتمر دولي ترعاه الرباعية الدولية لاستئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. علماً أن وكالات الأنباء التي تحدثت عن مشاورات أجرتها رام الله مع موسكو عن احتمالات وضرورات إحياء الرباعية الدولية أكدت أن الجانب الروسي أوضح للجانب الفلسطيني أن أي اجتماع قد تعقده الرباعية الدولية، لا بد أن تكون «صفقة القرن» واحدة من القضايا المدرجة على جدول الأعمال. فالكل يدرك أن المبادرة الوحيدة المطروحة عالمياً لاستئناف المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، هي «صفقة القرن». مبادرة الرئيس بوتين لعقد لقاء بين الرئيس أبو مازن، وبنيامين نتنياهو في موسكو، أفشلها نتنياهو مرتين، علماً أنه زار موسكو ثماني مرات في أقل من سنتين.
• أما الإشارة الثالثة والتي أدرجناها في سياق شكنا الديكارتي، فهو حديث وزير خارجية السلطة الفلسطينية (1/6/2020) عن خيارات السلطة التي تتراوح بين «المقاومة الشعبية السلمية غير العنيفة وغير المسلحة»، وبين اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، في رهان كبير على ضغط دولي يرغم إسرائيل على التراجع عن قراراتها بالضم ■




(1)
المفاوضات ليست جريمة ... ولكن!
■ في المبدأ، ليست المفاوضات جريمة، أو خيانة وطنية ترتكبها حركات التحرر الوطني والدول والشعوب، في إطار نضالها من أجل حريتها واستقلالها وخلاصها الوطني.
وتاريخ الإنسانية حافل بالتجارب التفاوضية، خاصة تجارب حركات التحرر العالمية في القرن العشرين. فالشعب الفيتنامي، فاوض الاحتلال والاستعمار الفرنسي كما فاوض الاحتلال الإمبريالي الأميركي. وكذلك فعل الشعب الجزائري في مواجهة الاستعمار الفرنسي، الأمر نفسه حدث في جنوب اليمن، وفي كوريا وجنوب إفريقيا، لكن الملاحظ، لدى هؤلاء جميعاً، أن المفاوضات انعقدت بطلب من الطرف الذي كان يعتبر نفسه الأقوى، بعد أن أدرك أن قوته، على تعاظمها، لم تمكنه من إخماد نيران الثورات والانتفاضات الشعبية، وإن الحل الوحيد لأزمته، هو حل سياسي بالضرورة. كما الملاحظ أن الأطراف المقاومة، عندما قبلت بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، رفضت أن تسقط سلاحها أو أن تتوقف عن النضال في الميدان، إذ ربطت بين المفاوضات وبين مواصلة القتال، للضغط على «المفاوض الخصم» لتقديم التنازل المطلوب.
فالمفاوضات، ليست حذلقة كلامية، ولا فن إدارة الحوار، فقط، وليست مناورات فحسب، بل هي موازين قوى على الأرض، ولا نعتقد أن وزيرة خارجية حكومة الفيتكونغ كانت أكثر حداقة، وذكاء وقدرة من هنري كيسنجير. الفارق بين الاثنين أن وراء وزير خارجية الفيتكونغ، مقاومة مسلحة ممتدة في طول البلاد وعرضها، تكبد اليانكي خسائر فادحة، وبالتالي لم تكن في عجلة من أمرها. بقدر ما كان كيسنجر في عجلة من أمره لإخراج جيوش بلاده من المستنقع الذي أغرقت نفسها فيه، لذلك فازت الحكومة الثورية في جنوب فيتنام في المفاوضات، لأنها انتصرت في الميدان، على الإرادة الأميركية. ولا بد أن يكون لمشهد الأميركيين الفارين من سايغون، من على ظهر السفارة الأميركية، معلقين بالمروحيات الأميركية،.. ثمن يدفعه كيسنجر غالياً إلى طاولة المفاوضات.
إذن المفاوضات ليست جريمة، لكن المفاوضات ليست السلاح الرئيس، بل هي أسلوب كفاحي يعكس موازين القوى على الأرض؛ وفي الميدان■
(2)
التجارب المرة للمفاوض الفلسطيني
■ لا يمكن الحكم على تجربة المفاوضات الفلسطينية، سوى بالفشل، والدليل على ذلك أنها فشلت، ليس فقط في تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، بل وكذلك وفرت للاحتلال الإسرائيلي الفرص والغطاءات السياسية من أجل تحقيق مشاريعه الاستيطانية التوسعية، وصولاً إلى الشروع في ضم ما تبقى من الضفة الفلسطينية إلى دولة إسرائيل الكبرى. وحين ذهب المفاوض الفلسطيني إلى طاولة المفاوضات كان محكوماً بهاجس وحيد هو ألا يفقد موقعه على رأس البيروقراطية الفلسطينية، حتى ولو تطلب ذلك تنازلات جوهرية تمس الحقوق الوطنية، وتقوم على رهانات فاشلة. ولعله من الغرابة في مكان أن تفضل قيادة دولة الاحتلال التفاوض المباشر مع ممثلي قيادة م.ت.ف، في أوسلو، وأن تجد معهم سهولة ومرونة لم تجد مثيلاً لها لدى الوفد الفلسطيني المفاوض في واشنطن. فمن كانوا في واشنطن، كانوا يطمحون إلى اتفاق يحقق لشعبهم أهداف الانتفاضة التي انطلقت عام 1987، بينما من كان في أوسلو كان همه أن ينال اعتراف الجانب الإسرائيلي بـ «شرعيته»، في المعادلة السياسية في المنطقة في إطار مشروع الحل السياسي كما أطلقته «عملية مدريد للسلام».
لذلك لم يجد وفد واشنطن ما يقدمه ويتنازل عنه، بينما قدم وفد أوسلو الكثير من التنازلات التي تحولت إلى كوارث وطنية، منها على سبيل المثال، القبول بالتفاوض في ظل استمرار الاستيطان، ومنها إسقاط قضية اللاجئين، وتأجيل البت بمصير القدس، التي كانت تخضع لخطط تهويد لم تتوقف. والأخطر من هذا أن المفاوضات الكارثية أوصلت الفلسطينيين إلى اتفاق من شقين:
1) الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود (رغم أنها دولة احتلال، وهي سابقة تاريخية لم تشهد الشعوب لها مثيلاً) دون أن تعترف إسرائيل بالمثل بحق الدولة الفلسطينية المستقلة بالوجود.
2)الإقرار بأن الضفة (ومنها القدس) وقطاع غزة أرض متنازع عليها (وليست أرضاً فلسطينية محتلة) بلا هوية وطنية، يتم حسم وضعها النهائي في مفاوضات الحل الدائم.
والجزء الأكبر من كارثة اتفاقات أوسلو تحققت من خلال هذين البندين، المفاجئ في الأمر، أن الجانب الفلسطيني المفاوض، مازال حتى الآن يعطل قرار المجلس الوطني (30/4/2018) بسحب الاعتراف بإسرائيل، ومازال اعترافه بها قائماً حتى اللحظة، رغم أن القضية قد دخلت مرحلة الضم، وباعتراف صائب عريقات (2/6/2020) «ضم الضفة كلها وليس فقط 33% منها»■
(3)
ما معنى الدعوة للمفاوضات في الوضع الراهن؟
■ أية دعوة للعودة إلى المفاوضات، في الوضع الراهن، سوف تعتبر انتحاراً سياسياً، إذا لم تلتزم قرارات المجلس الوطني (30/4/2018) التي اشترطت للعملية إطاراً يتمثل في مؤتمر دولي ترعاه الأمم المتحدة، ومرجعية هي قرارات الشرعية الدولية، وإشرافاً دولياً متمثلاً في الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وسقفاً زمنياً محدداً، كي لا تكون مفاوضات مفتوحة على الزمن، كما هو حال مفاوضات أوسلو وما تلاها، وبقرارات ملزمة بضمانات دولية، تكفل للفلسطينيين حقوقهم الوطنية المشروعة، في تقرير المصير، والاستقلال (كما نص عليه قرار الجمعية العامة 19/67)، والعودة إلى الديار والممتلكات تطبيقاً للقرار 194.
وبالتالي فإن مثل هذه الدعوة هي في واقع الحال هدف نضالي، لن يتحقق في الأيام المنظورة، فلا ميزان القوى على الأرض في المناطق المحتلة تحديداً يرغم دولة الاحتلال على الرضوخ لشروط هذا المؤتمر، ولا ميزان القوى العالمي، قد توفرت فيه الشروط للضغط الكافي على الولايات المتحدة كي لا تعرقل انعقاد مثل هكذا مؤتمر. وبالتالي (مرة أخرى) أن أية دعوة لاستئناف المفاوضات في ظل الميزان الحالي للقوى، حتى ولو قيل عنها «غير مشروطة»، أو بلا «شروط مسبقة»، هي دعوة من شأنها أن تثير الشبهات، لأنها لن تقود سوى إلى مستنقع صفقة ترامب – نتنياهو، بغض النظر عن النوايا وحقيقتها. ففي السياسة لا تفيد النوايا، وقديماً قيل إن طريق المقبرة معبدة بالنوايا الحسنة.
ما يعني في السياق أن القضية الفلسطينية أمام مرحلة نضالية جديدة، اختلفت فيها المعايير والمقاييس والأسس، وما كان يصح قبل الإعلان عن الضم، لم يعد يصح بعده. وإذا كانت المقاومة الشعبية السلمية قد أثبتت جدواها في الهند، كما يقول البعض، فليس بالضرورة أن تثبت جدواها في فلسطين ترى لماذا لم يأخذ بها الشعب الملون. في جنوب إفريقيا، ولم تأخذ بها شعوب الجزائر، وفيتنام، وكوريا، واليمن، وفدائيو مصر، والمقاومة الفلسطينية في منتصف الستينات؟ لسبب بسيط، وهو الفارق الواسع بين تجارب الشعوب والاختلاف بين ظروف الهند، وظروف كل من فلسطين وغيرها ممن اعتمدت كل أشكال النضال دون استثناء. ثم لماذا الإصرار على «المقاومة السلمية»، والإصرار على «تجربة غاندي» التي لا نقلل على الإطلاق من أهميتها التاريخية وتجاهل باقي التجارب التي أثبتت هي الأخرى نجاحها وقدرتها على تحقيق أهدافها؟■
(4)
أخيراً.. وليس ختاماً
■ حين يتجه الإعلام، للترويج لآليات عمل سياسي بعينها، في الوقت الذي تمر فيه المسألة الوطنية بمنعطف حاد جداً. وحين يتجه الإعلام، في ترويجه لهذه الآليات، بأهدافها المكشوفة، ويتقاعس في المقابل عن الترويج لقرارات أعلى سلطة تشريعية في المؤسسة الوطنية الفلسطينية، هي المجلس الوطني، ويتقاعس في المقابل (أيضاً) عن ترجمة هذه القرارات بآليات تنشر الوعي بأهمية هذه القرارات، فمعنى ذلك أن الأمور لا تسير على ما يرام، وأن الحديث عن بقاء الباب مفتوحاً، يدعونا للسؤال: مفتوحاً على ماذا؟ وزير الخارجية، قال إن الباب سيبقى مفتوحاً إذا تراجع نتنياهو عن مشروع الضم. وهل من عاقل يقف إلى جانب الوزير في محاولته نشر الأوهام، وعلى الجميع أن يتأمل كثيراً في منعطفات هذه المرحلة ومطباتها وألغامها وأن يدرس أين يضع أقدامه حتى لا يطيح به لغم زرع في الطريق. وطريقنا مزروع بعشرات الألغام السياسية.■

اخر الأخبار