في ذكرى نكسة حزيران67؛ الضمّ والمواجهة القادمة

تابعنا على:   21:46 2020-06-01

المتوكل طه

أمد/ الآن ، وبعد ثلاث وخمسين سنة من تلك الصعقة الدّاهمة ، ما زالت آثار النكسة ماثلة للعيان ! بل إن الاحتلال الإسرائيلي الذي أطبقَ وسيطر على أراضٍ عربية مقدّسة وواسعة العام 1967 .. ما فتئ يرتع في معظمها ، ويعبث ويغيّر من طبيعتها وملامحها ، ولم نجد من أنظمة المحيط إلى الخليج مَن يحرّك ساكناً ليستعيد هذه المرابع ! حتى أنّ الوضع العربي الشائك والملتبس والمتدهور اليوم ينبئ بأيام قادمة قاتمة ، لا ضوء فيها  يبشر بزوال العتمة أو أنّ ثمّة نهاية لهذا النفق الخانق ! حتى أنّ عدداً من أصحاب الصولجان انكفأ وارتدّ وراح يهرول نحو قادة الكيان الاحتلالي .. ليطبّعوا معه ويباركوا إجراءاته الفاشية الهادفة والحاسمة لهضم الأرض وتدنيس بيوت الله تعالى ! في لحظة يعلن فيه الاحتلال ، بكل صفاقة وتبجّح ، عن نيّته الفعلية لأسْرَلَة الأرض واستباحتها وضمّها .. دون أن نرى أيّ ردّة فعلٍ قادرة على كبح جماحه .. اللّهم بعض الاستنكارات والشجب والبيانات والتنديد اللفظي الخائب ، الذي لا يُغني ولا يُسمِن من جوع .

حتى أنّ الوضع الفلسطيني ، ليس بأفضل حالٍ ، للأسف ، بسبب مشهد الانقسام المشبوه الذي يتكرّس .. وبسبب غياب المؤسسة الجامعة الوطنية وانتفاء رؤية حاكمة واستراتجيات وسياسات عملية رائية .. وبسبب انعدام الامكانيات المادية واللوجستية ، وارتهان الحالة الفلسطينية بيد الاحتلال ، إلى حدّ كبير ، وتغلغله في أحشائنا وسيطرته القابضة على مفاصلنا ومقدّراتنا .. وبسبب تهافت الروح الجامحة المُقاوِمة وتحطيم روافعها على مدار سنوات خلت ..

ومع كلّ ذلك ؛ فإنّ ذلك ليس قدَراً يحول دون يقظة الشعب الفلسطيني الذي يستطيع أن يُفاجئ الجميع باجتراحٍ جديد لمعجزة الدفاع عن حياضه وأرضه ، على أن يتدارك القائمون على الأمر بعمليّة تحوّلٍ فارِقة ، يستعيدون من خلالها الوحدة والشَرَاكة واختراق العقبات ، ليكونوا قادرين على منع  ضمّ معظم أراضي الضفة الغربية وتقويض حلّ الدولتين ، ومنع إقامة "كيان" فلسطيني في قطاع غزة ، يبدّد حلم وحدة الأرض والقيادة وإقامة الدولة وعاصمتها القدس الشريف. بمعنى أن قادة الاحتلال لن يقتصر فعلهم على ضمّ أراضٍ في الضفة بل سيقترن ذلك بإجراء سياسي إسرائيلي يهدف إلى جعل قطاع غزة هو "أرض المستقبل" لترجمة التطلعات الفلسطينية ، بصورة مبتسرة وجزئية ومشبوهة .

ومع أني لستُ متشائماً ، لكنّي لا أرى أيّ مبادرة أو سعي جدّي مسؤول لتحقيق الوحدة الوطنية واستعادة الشراكة القائمة على رؤية جامعة ، ولا ألحظ أن الأطراف الفلسطينية تسعى إلى الخَلاص الجماعيّ بل الشخصيّ ، ولأن المستوى الرسمي لن يستطيع أن يقلب الطاولة كلّياً وعمليّاً في الأرض المحتلة على الاحتلال .. لهذا ؛ سيكون الثقل كلّه على الشارع الفلسطيني الذي سيجد نفسه أمام سؤال داهم وشائك وثقيل ، وأمام توحّشٍ وعنفٍ احتلاليٍّ قاسٍ دامٍ ومتواصل ، وأمام استحقاقات الحياة اليومية الصعبة .. فهل تتمّ معجزة يقظة مسؤولي الفصائل الفلسطينية ، أم سيواصلون "الكلام"  التبريريّ الواهم ، الذي لا يجدي شيئاً أو نفعاً ؟ وسيكونون ، عندها ، مثل أنظمة 1967 التي جعجعت وخسرت كلَّ شيء !؟

إن قادة أحزاب الاحتلال مجمِعون على الضمّ ، أي أنهم متّفقون على المبدأ ومختلفون في الكيفيّة ، فمنهم مَن سيذهب إلى الضمّ مباشرة ، ومنهم من يفضّل أن يتمّ الضمّ بالتفاوض مع أصحاب الشأن . في حين أن الشعب الفلسطيني الذي يعاني غير أمر .. سينفجر في وجه الاحتلال بالضرورة ، وسيسجّل ، للمرّة الألف، أن كل ما يُشاع عن الاهتراء والاستحقاقات والاستسلام والانفراط والوَهن.. ما هي إلا مفردات سيتجاوزها الشعب الفلسطيني ويُحيلها إلى منصّات انطلاق جديدة وشاحذة ، لمواجهة الإجراءات الاحتلالية ، ببسالة وتصميم وعبقرية فائقة . بلغة أخرى ؛ إن الذين يدّعون بأن الشعب قد أَجهَزَ عليه اليأسُ والفساد والإحباط واستحقاقات الحياة.. لا يعرفون هذا الشعب ، ويجهلون معدنه القادرعلى تحويل كل تلك الحالات إلى وقود ومعنويات مضيئة وروح وثّابة جامحة .

وإذا ما تمّ الضمّ فإن ذلك يعني أن المجتمع الدولي ومؤسساته والنظام العالمي العميق .. قد فَقَد جدواه ودوره ، وأن البلطجة ومنطق الكاوبوي وغطرسة القوة هي التي تتسيّد على الأرض وتحكمها .. وهذا يعني أن العالَم مقبلٌ على تغيير عميق نحو تشكيل "هيئة" جديدة تحكمه !

***

إن النكبة ومن بعدها النكسة وما رافقهما من ضعف وفشل عربي، قد حوّلتا الشعب الفلسطيني إلى شعبٍ مُشردٍ ومشتت، ومورست عليه عمليات التهميش والتغييب والنكران والتجريم وسحب الشرعيات والتعريفات عنه. إن هذه الآليات المختلفة التي مارسها الصديق قبل العدو حوّلت الشعب الفلسطيني عملياً إلى شعب فريد، وتنبع فرادته من قدرته على الصمود أمام كل هذه العمليات التي تشارك فيها قوى ذات جبروت وطغيان. تنبع فرادة هذا الشعب من قدرته على الثورة - بغض النظر الآن عمّا أفضت إليه هذه الثورة - .

فرادة الشعب الفلسطيني في قدرته على تحويل الخيمة ، من خيمة لجوء إلى خيمة ثوّار، وتحويل المنفى ليس إلى مكان للنجاح او النجاة بل إلى مكان للاستعداد والاحتشاد، وتحويل المأساة إلى حكاية لم تكتمل ولم تكتب نهايتها، وتحويل الهزيمة إلى مشارف الطريق المؤدية إلى النصر، وتحول الشعب الفلسطيني شاهداً – بعد أن كان شهيداً – على استحالة التعايش مع المشروع الصهيوني التوسعي والاحتلالي والإحلالي أيضاً.

وإذا كانت النكبة قد اقتلعت شعباً من أرضه مقابل استيطان شعب آخر فيها، فإن النكسة العام 1967 وسقوط القدس كانت أشد وأنكى وأمرّ، إن سقوط القدس لا يعني سقوط غرناطه أو سقوط  بغداد أو الاستيلاء على بيروت .. مثلاً، سقوط القدس عادة ما يرمز إلى خراب وضياع ورخاوة وعدم أهليّة مَنْ تضيع منهم البلاد. القدس ليست ككل المدن.  إن احتلال الأماكن المقدّسة يعني سقوط الكرامة والعزّة، إن تدنيس المقدس هو قمة الهزيمة، ولهذا نفهم لماذا شارك صلاح الدين الأيوبي بنفسه في غسل المسجد الاقصى بماء الورد بعد احتلاله لمدة تزيد عن ثمانين عاماً.

والنكسة – وهي هزيمة مرّة بأبعاد خطيرة قد رسمت المنطقة حتى هذه اللحظة – كانت بداية القبول بإسرائيل والتعامل معها والخضوع للأمر الواقع الذي فرضته.

النكسة كانت فضيحة لأن الأنظمة التي واجهتها ادّعت القومية والاشتراكية والجماهيرية والجاهزية، على عكس الأنظمة التي واجهت الصهيونية العام 1948، كانت فضيحة أيضاً لأن الانظمة العربية العام 1967 كانت تخدع بالقول إنها أتت لتعبّر عن المطامح والآمال والتطلعات القومية والوحدوية والعروبية، على عكس الأنظمة عام 1948 التي كانت مرتَهنة بأوامر المستعمِر العلني أو الخفي. كانت النكسة فضيحة لا تغتفر لأن أنظمة عام 1967 أتت إلى سدّة الحكم على أساس من نكبة عام 1948 ومن أجل تجاوزها وتصحيحها لكنها سقطت في ذات الهوّة بطريقة أكثر قبحاً وأكثر فضائحية.

ضياع القدس فيما سمّي بالنكسة يشبه العقاب الجماعي الذي يحلّ بالأُمّة - الآن -إن لم يكن العقاب كلّه والعذاب كلّه والمرارة كلّها والهزيمة والذلّ والهوان. وإن استعادة القدس تعني امتلاك كلّ ذلك دفعة واحدة !

 وأُبعد في القول لأقول إن استعادة القدس هي الشرط الوحيد من أجل أن تحيا الأُمّة حياة طبيعية تستطيع فيها أن تتنفّس الهواء وتأكل الطعام . الحياة دون القدس ناقصة ولا تستحق أن تكون ..الحياة دون القدس كريهة وضيقة ولا سبيل إلى الاستمتاع بشيء.

إن ضياع القدس لا يعني ضياعها فقط ، بل يعني أيضاً تهديد بغداد ودمشق والقاهرة ومكة، وضياع القدس لا يعني تشريد الشعب الفلسطيني أو قمعه أو منعه من التطوّر، ولكنه أيضاً يعني تجويع الشعب العربي وحصاره ومنعه من التطور وامتلاك أسباب القوة، ذلك أن إسرائيل لا تمنع الشعب الفلسطيني حقوقه وتطوّره، وإنما تقوم أيضاً بتجفيف أسباب القوة والمنعة في دول المحيط، حتى تقوى إسرائيل ويضعف مَن حولها، وحتى تنمو إسرائيل ويموت مَن حولها، إذن ضياع القدس لا يعني ضياع مدينة بل ضياع مستقبل أيضاً.

ولهذا فإن النكسة بمعناها وتجلّياتها وآثارها ونتائجها أشد مضاضة من النكبة وأعمق مرارة وأشد وطأة.. وهذا ما نشاهده ، للأسف، في كل أرجاء الصورة العربية المتهدّمة .

اخر الأخبار