القــــــدس بيــن الأصالــة والتهويــد والتطبيــع

تابعنا على:   21:44 2020-05-30

عارف عرفات

أمد/ القدس هي المدينة التي لا زالت تستحوذ على اهتمام آلاف الملايين من البشر على سطح الكرة الأرضية, هي تلك المدينة التي لعبت دوراً استثنائيأ في التاريخ  ولا زالت على مر العصور تحظى بمكانة وأهمية وجدل سياسي ورؤيوي تفوق أهمية أي مدينة في العالم... فهي مدينة السحر والخيال...ومقصد رجال الدين...والباحثين والرحالة والرسامين والفنانين على مر العصور...هي الروح التي يأنس بها الغادي والبادي...تلك المدينة التي قال عنها أحد الباحثين "أن الله تعالى قسّم الجمال إلى عشرة أجزاء...ومنح القدس منها تسعة أجزاء...ووزّع الجزء العاشر على الكرة الأرضية" في إشارة إلى مكانة وأهمية وجمالية هذه المدينة التي تشخص إليها عيون الملايين...إنها مدينة السلام...إنها "يبوس" التي بنتها القبائل اليبوسية المتحدّرة من الكنعانيين...

القدس وعبقرية المكان  والتاريخ

    وقد استحقّت مكانتها التاريخية بفعل موقعها الجغرافي المميز في قلب فلسطين ,هي ثغر الشام وبوابتها الى مصر وبوابة مصر الى الشام ,وإشرافها على البحر الميت وجبل مؤاب وقربها من البحر المتوسط ,وإطلالتها على العديد من الوديان ,وتحصينها من عدة جبال كجبل الطور وجبل الزيتون وجبل موريا ,هذا الموقع الجغرافي جعلها عرضة على مدار تاريخها للغزوات والحروب والأطماع من شعوب وجيوش ,كما خضعت لحضارات متعاقبة بفعل الاحتلالات المختلفة ,حيث خضعت لحكم الفراعنة والبابليين والرومان والصليبين وغيرهم ,وعليه فإنها عبر التاريخ كانت مسرحا للنزاعات حتى عهد الصليبيين  والاستعمار البريطاني ....

كما قد استحقت مكانتها التاريخية لما توليه العقائد المسيحية والإسلامية واليهودية من أهمية روحية ,فالمسيح اقام فيها ,وبشر الخلق بتعاليمه ,وتوفي فيها , وأقيمت بها كنيسة القيامة و"كنيسة الجثمانية " وموقع العشاء الاخير وطريق الآلام

لما توليه العقائد المسيحية والإسلامية واليهودية من أهمية روحية, فالمسيح كان يقيم فيها, وبشّر الخلق بتعاليمه, وتوفي فيها, بها كنيسة القيامة وكنيسة "الجثمانية" وموقع العشاء الأخير وطريق الآلام...

   لكنها اكتسبت أهميتها الأكبر بعد أن أعطاها الإسلام بعداً روحياً ودينياً, حين أعطاها النص القرآني هذه المكانه  " سبحان الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى الذي  باركنا حوله لنريه من اياتنا انه السميع البصير  "  وفي حديث لرسول الله "صلّى الله عليه وسلّم قال " "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد, المسجد الحرام ومسجد الرسول والمسجد الأقصى" وقد أعطاها الإسلام هذه المكانة الروحية حين اعتبر أن القدس كانت اوّل قبلة في ا لإسلام  نحو المسجد الأقصى وهو ثالث الحرمين الشريفين, وبالقدس كانت رحلة الإسراء والمعراج للرسول الكريم, و فيها صلّى الرسول بجميع الأنبياء ليلة الإسراء والمعراج, وعلى مدى العصر الاسلامي كان المسجد الاقصى  يشكل علامة تاريخيه ودينيه وروحيه  يحج اليه المسلمين من كل فج وميل , بالاضافة الى مسجد قبّة الصخرة, والمصلى المرواني, وحائط البراق, وفيها من الأوقاف والمعالم الإسلامية ما لا يحصى...

    بيد أنّ القبائل اليهودية وفق تخيّل التوراة, تعتقد بأن القدس هي عاصمة "اسرائيل" الموحّدة في الزمن الغابر في القرن العاشر قبل الميلاد في سياق روايتها التوراتيه عن مملكة اسرائيل بعد ان  فتحها الملك داوود وبني فيها ما سمي بهيكل سليمان الذي تعتبره اليهودية قدس الأقداس, حيث لا معنى له بالروحانيات الدينية بقدر ما هو مدعاة سياسية لكسب الشرعية اليهودية التاريخيه على القدس. " اورشليم " ...

القدس وشرعية الكيان

وهنا يطرح السؤال : لماذا اعطى الكيان هذه الاهمية والاولوية لمدينة القدس في سياساته الاستيطانيه  والتهويديه ...؟؟                                                  

ولماذا اقدم على على ضم القدس قبل غيرها من المدن الفلسطينية التي احتلت عام 1967...؟ هل من أسباب  تاريخية أو سياسية أو دينية...؟

من دون شك ان هذه الاسباب مجتمعة  تشكل هواجس تاريخيه للكيان لاستكمال شرعيته  " الحق الالهي  "

    فلا زال الكيان الصهيوني يعتبر أن شرعيته التاريخية والتوراتية ناقصة, وأن الشرعية السياسية التي محضها المجتمع الدولي له لا تكفي لإثبات  "حقه  التاريخي بالقدس" التي يسميها أورسالم وفق الرؤية التوراتية...

   هذا النقص في الشرعية التاريخية يدفعه إلى محاولة ربط الماضي  المتصور بالحاضر, في محاولة لاعادة  تشكيل بناء الماضي المتخيّل في قلب الحاضر للوصول الى معادلة الاستمراريه التاريخيه , فالتوراة تتحدث عن مملكة يهوذا في القدس, وبناء الهيكل ومعبد حيرود...

   وعلينا أن نتصور أن احتلاله لكل فلسطين بمدنها وقراها, لا تجعله مطمئناً على شرعيته بدون القدس, لأنه بنى عليها أوهامه بالحق الإلهي والتاريخي على مدار عصور, ارتباطاً بالرؤية التوراتية, وعلى مدار عمر الكيان لم يستطع أن يحصل على الشرعية السياسية لأحقيته في مدينة القدس, حتى أن قرار التقسيم "181" لم يمحضه الشرعية, بل اعتبر القدس مدينة ذو مركز دولي خاص, بل أن عشرات القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة لم تمحضه هذه الشرعية...

    هذا الشعور بالنقص بالشرعية التاريخية والتوراتية يدفعه إلى تبنّي سياسات التهويد لمدينة القدس على أكثر من مستوى سياسي اقتصادي, وثقافي وعمراني وديمغرافي لاثبات ان هذه القدس العصرية هي منجز يهودي خالص خالي من اية اثار فلسطينيه عربية اسلاميه في محاولة لاسقاط اية دعاوي غير يهوديه تطالب بالقدس عاصمة لفلسطين , بالاضافة الى حاجته اليوم الى هذه المكانة الدينيه والتاريخية التي تحتلها القدس عالميا لتأسيس رأي عام عالمي سياسي وشعبي وثقافي يؤمن بيهودية القدس واستمرارية التاريخ اليهودي على الارض الفاسطينيه , وفي السياق يصبح الحجيج  العالمي الديني والسياحي هدفا دعاويا وسياسيا واقتصاديا للكيان لما تمثله القدس من مكانة عالميه  في خدمة الكيان ...

التهويد لاسكات التاريخ الفسطيني ..   

    وعليه فإن القدس اليوم تتعرّض لأبشع عملية تهويد عبر التاريخ, بفعل السياسات والخطط والبرامج الاسرائيلية الرسمية, لأجل تغيير معالم المدينة المقدّسة, وطمس معالمها التاريخية الدالة على هويتها العربية والإسلامية, والدالة على هويّة الشعب الفلسطيني العربي الذي أقام فيها منذ العصر الكنعاني, وكون هويته الوطنية والثقافية والدينية على أرضها منذ آلاف السنين...

   إن الحديث اليوم عن تهويد القدس, يعني فيما يعنيه جعل القدس مدينة يهودية خالصة خالية من تراثها الفلسطيني والعربي والإسلامي, وخالية من آثارها وأوابدها وكنوزها وعمرانها ومساجدها ومعابدها وقصورها, بما يمحو كل أثر يدلّ على الحق التاريخي لشعب فلسطين بهذه المدينة, في محاولة يائسة لإثبات أن القدس هي أرض الميعاد وأرض الآباء والأجداد للشعب اليهودي...

    لقد عملت "اسرائيل" منذ عام 1967 وحتى اليوم على تدمير البعد التاريخي  والثقافي الروحي لمدينة القدس, وسعت جاهدة عبر الأبحاث والتنقيب عن الآثار, في كل مكان وفي كل زاوية من زوايا القدس الشريف لإيجاد دليل تاريخي وروحي واحد يثبت أحقية "الشعب اليهودي" في القدس,...وفي سياق هذا البحث والتنقيب كانت تدمّر كل أثر أو معلم تاريخي له علاقة بالشعب الفلسطيني العربي والإسلامي, ولم تستطع حتى اليوم أن تجد دليلاً واحداً أو برهاناً أثري أو تاريخي له دلالة على الوجود التاريخي "لشعب اسرائيل" على أرض القدس  ..وعالم الاثار الاسرائيلي " اسرائيل فلنكشتاين "  المعروف بابو الاثار الاسرائيلي  يشكك في اي صلة لليهود بالقدس , كما يؤكد ان  علماء الاثار اليهود لم يعثروا على اي شواهد تاريخية او اثاريه تدعم رواية  التوراة  .. ولم تبقى سوى  معزوفة حائط المبكى, الذي تحوّل إلى قبلة اليهود ومقام شعوذاتهم وهذيانهم...

   وعملت على تغيير أسماء أكثر من ( 667 ) موقعاً تراثياً وأثرياً في القدس, حيث  تقوم  بتدمير ممنهج لجميع المواقع التراثية والأثرية والإسلامية والمسيحية في القدس...

   لقد أزال الكيان الصهيوني حارات وشوارع كاملة في القدس, لها ارتباط تاريخي بالوجود العربي والإسلامي مثل حارة المغاربة, وحي باب السلسلة, وحارة سوق الحصر...

   وأقدمت على وضع مخطط وتصميم جديد "خريطة جديدة" لمدينة القدس والحرم القدسي الشريف في محاولة لمحو الوجود الحضاري العربي داخل القدس والحرم الشريف, وفي سياق الخريطة الجديدة, أزالت العديد من العقارات والأبنية السكنية والمحلات التجارية, والمعالم التاريخية,  وأجلت السكان المقيمين والعاملين فيها تحت حجّة أن هذه الأبنية والعمران آيلة للسقوط, وأنها تحتاج إلى بنية تحتية للصرف الصحي وخلافه...

   كما أقيم بنيان عمراني جديد وحديث الطراز في وسط الأحياء التاريخية للمدينة, وذلك لإعطاء مدينة القدس طابعها الحديث الدالة على الأثر والفعل اليهودي...

   ولا تتوانى الوزارات الاسرائيلية المتعاقبة في ترجمة الرؤية والمخطط الممنهج, والذي يكتسي رؤية عملية وميدانية على الأرض, وذلك لإنشاء وتأسيس مدينة جديدة يهودية الطابع على أنقاض القدس التاريخية...

     ولا يقف الأمر عند حدود العمران, إنما يتعدّى ذلك إلى العبث بروح التاريخ وصوره الأثرية, فتجدها تستولي على الموجودات والمقتنيات الأثرية من المتاحف الفلسطينية, ونقلها إلى المتاحف الصهيونية, وتدمير بعضها الدال على الوجود والحضور التاريخي الفلسطيني الذي يمتزج مع التاريخ الفلسطيني والعربي والإسلامي, وتخلق منه تراثاً وفلكلوراً مزيفاً وخادعاً, وتنسبه إلى ما يسمى بالتراث اليهودي, وتقوم بترويجه في الأسواق العالمية باعتباره تراثاً يهودياً واسرائيلياً...

    ولا تكتفي السياسات الصهيونية بذلك بل لجأت إلى تهويد القدس ديمغرافياً, حيث عملت ولا زالت على إحداث خلل كامل في التوازن الديمغرافي في المدينة على كل الأصعدة, حيث وضعت مبكراً ما يسمى "مشروع تهويد القدس 2020" الذي يرمي إلى طرد الفلسطينيين والسكان المقدسيين من المدينة, وإبقاء 12% فقط منهم داخل المدينة, مؤقتاً لحين طردهم في الوقت المناسب, وإحلال مليون يهودي بالمدينة, وفي  السياق أحاطت القدس بالجدار العنصري, الذي فصل أجزاء من القدس ومحيطها وسكانها, وفصل القدس عن باقي المدن الفلسطينية, لتصبح مدينة معزولة عن محيطها من المدن الفلسطينية الأخرى, وتابعة لما يسمى بالقدس الكبرى...!!

    وعمدت إلى إقامة أكثر من ثلاثين مستوطنة  وبؤره في مدينة القدس, بشكل دائري كي يقطنها أكثر من مليون يهودي وفق الخطّة, وذلك في سياق التطهير العرقي حيث أقامت أكثر من (4436) وحدة سكنية بالقدس الشرقية, وجاري العمل على تنفيذ خطة سكنية تصل إلى حدود (9000) وحدة سكنية, وإقامة مراكز تجارية على مساحات تصل إلى ثلاثمائة ألف متر مربع, تخصص للفنادق والمشاريع التجارية, وجاري العمل على وضع خطة تطويرية حتى عام 2030, تقام خلالها أكثر من (11 الف) وحدة سكنية في غضون سنوات قليلة, وفي السياق ذاته, عملت "اسرائيل" على مصادرة آلاف من بطاقات الهوية المقدسية التي يحملها الفلسطينيون, تحت حجة أن هؤلاء يعيشون خارج مدينة القدس, ومن جراء هذه السياسة سقطت أحقية أكثر من عشرة آلاف فلسطيني بالإقامة في مدينتهم القدس, كما لجأت إلى سياسة التهجير من المدينة, خاصة المناطق المكتظة بالسكان الفلسطينيين, حيث أقدم سابقاً رئيس الحكومة "إيهود باراك" عام 2008 على طرح حل يقوم على نقل أحياء كاملة من القدس إلى أراضي السلطة الفلسطينية...!!

   وضمن سياسة التهويد عمدت "اسرائيل" إلى التحايل في عملية الاستيلاء على بيوت الفلسطينيين والمنشآت المقدسية, فاستولت على الكنيسة الأرثوذكسية في القدس مع بداية الاحتلال, وباعت مقبرة "دير مارسابا" وأراضي من جبل أبو غنيم  في القدس, كما باعت مأوى لحجاج القدس من أهل موسكو, وأراضي من جبل الطور, وساحة عمر بن الخطاب من البلدة القديمة, وصادرت أكثر من أربعمائة كيلو متر مربع من الأراضي حول القدس لتوسيع المستوطنات, وأقامت جدار الفصل العنصري, حيث حاصرت أكثر من (25 الف) مواطن فلسطيني, وأخرجت أكثر من (30 الف) فلسطيني خارج القدس من أجل التغيير العمراني والديمغرافي...

   كل هذا الفعل الميداني على الأرض يضعنا أمام عملية تهويد حقيقية مبرمجة ومتدرجة, بحيث تصل إلى معادلة أكثرية يهودية, تصنع ما تشاء, وتعبث فيما تشاء لتصبح القدس يهودية خالصة في مقابل أقلية فلسطينية عربية ليس لها علاقة بتاريخها ولا حاضرها, ولا مستقبلها, ووجودها مؤقتاً في القدس لحين تسمح الظروف المناسبة لطردهم...!!

والجدير بالذكر أن الكنيست كان قد أخذ قراراً مبكراً عام 1980 بضم القدس العربية إلى ما سمي بالقدس الاسرائيلية, وإلحاقها إدارياً وسياسياً ومالياً...

    وحتى تكتمل صورة التهويد والضم, جاء الموقف الأمريكي الأخير الذي يشرعن ضم القدس, واعتبارها عاصمة "اسرائيل" الأبدية, ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس, ليؤكّد أن القدس هي بيت القصيد في كل العملية الاستيطانية والإحلالية, باعتبارها تلك العاصمة المتوهمة التاريخية لما يسمى بمملكة يهوذا...

    وعلى ذات المنوال سعت "اسرائيل" منذ عام 1967 ولا زالت للترويج بأن مدينة القدس, هي العاصمة الأبدية والتاريخية للشعب اليهودي, وهم بناتها عبر التاريخ, وأن القدس وردت في التوراة في سياق ذكر الهيكل أكثر من (632) مرة...!! وأن فلسطين لم تذكر في التوراة...!! إنها الخدعة الاستشراقية والاستراتيجية التي اعتمدتها الصهيونية العالمية والمسيحية الصهيونية المبكرة لغرض اغتصاب فلسطين التاريخية...وهنا يتقاطع الفكر المسيحي الصهيوني مع الرواية التوراتيه المتخيله  ..

   ومن هنا نرى أن السياسية الإعلامية الصهيونية حول مدينة القدس هي سياسة متناغمة ومتجاورة مع سياسة التهويد والتغيير ضمن المخطط المرسوم...

   بيد أن هذه السياسة ليست وليدة اليوم, إنما هي ترجمة أمينة للرؤية الغربية منذ "أوريان الثاني" قائد الصليبيين, ومنذ مؤتمر بازل عام 1897, حيث أن حلم الغرب لم يتوقف, وإذا كان هذا الحلم قد ضرب مع عودة القدس لأهلها بقيادة صلاح الدين, فإن الغرب ظل ينتهز كل فرصة للاستيلاء على القدس بكل الطرق, إلى أن كانت ضالتهم في الحركة الصهيونية العالمية مع بداية القرن العشرين...

    وعملية التهويد اليوم ليست نتاج سياسة راهنة فحسب , إنما هي نتاج رؤية مبكرة في كيفية ربط حاضر القدس بما يسمى ماضي أورشليم, وقد أعلن هرتزل في مؤتمر بازل عام 1898 " إذا حصلنا يوماً على مدينة القدس, وكنت لا أزال حياً, وقادراً فسوف أزيل كل شيء فيها ليس لليهود, وسوف أدمّر كل الآثار التي مرت عليها قرون" من هنا فإن فكرة التهويد هي فكرة غربية صهيونية مبكرة...

   أما شارون فقد أعلن "أن  القدس ملك لأسرائيل, وأنها لن تكون بعد اليوم ملكاً للأجانب"  .. واليوم يقوم نتنياهو بما قام به أسلافه الصهاينة في التهويد والضم والإحلال...

    إن عملية التهويد لا يجب فهمها على أنها قرار سياسي اسرائيلي فحسب, بقدر ما يجب إدراكها بأنها عملية ومستمره  قائمة  على رؤية سياسية واستيطانية وتوراتية تستند إلى برنامج عملي تهويدي عمراني وديمغرافي وثقافي واقتصادي, في سياق مرحلة طويلة من عمر الكيان...

تهويد الوعي العربي

   ورغم أن التهويد يأخذ طابعه الشامل لمدينة القدس, وكل المدن الفلسطينية, عكا وخيفا واللد وبيت لحم وبيسان وغيرهم, والعبث في أسماء آلاف المدن والقرى والأودية والجبال والمواقع والعيون والآبار وإعطائها أسماء عبرية, فإن هذا التهويد في نظر الكيان الصهيوني غير كافي لأخذ شرعية التهويد...!!

    الأمر الذي يدفع الكيان إلى الانتقال إلى مرحلة أخرى من التهويد, وهي مرحلة تهويد العقل والوعي العربي, عبر عملية التطبيع الجارية اليوم مع الكيان الصهيوني, فالكيان يحتاج إلى ما هو اكبر من العلاقات الرسميه العربيه الى  فك الحصار الشعبي العربي عنه وفتح نوافذ تطبيعية مع الشعوب العربية, والنفاذ الى العقل والوجدان الشعبي العربي

    وعملية التهويد/ التطبيع هذه تلعب فيها القوى الناعمة دوراً محورياً, لدفها إلى الأمام, واستثمار المناسبات الرياضية والتجارية والاقتصادية والفنية لاختراق الجبهة الثقافية التي تمثل ولا زالت القلعة الأخيرة الصامدة فيوجه الكيان...

    إن أحد أهم سياسة التطبيع لدى الكيان الصهيوني, هو خلق بيئة عربية ملائمة ودافعة, تتفهم وتتكيف مع وجود الكيان والعلاقة معه  توطأة لتهويد الوعي العربي, كي تسود الرواية اليهودية بأحقية اليهود في فلسطين, ولعل في المسلسلات الرمضانية من (أم هارون ومخرج 7) إلا دليلاً على محاولة إدخال الرواية اليهودية في الوعي العربي وصولاً إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية سياسية مقطوعة الجذور التاريخية, ومقطوعة الهوية العربية, وهنا مجدداً يجري العمل على إسكات التاريخ الفلسطيني وطرد التاريخ الفلسطيني من الوعي العربي ليسود تاريخ التوراة المتخيل والمسيطر اليوم على المسيحية الصهيونية في أمريكا والغرب الأوروبي...

   تلك هي الرؤية الصهيونية الشاملة لتهويد فلسطين والقدس وتهويد العقل العربي اتجاه فلسطين, وهي رؤية متناغمة اليوم مع صفقة القرن, ومع برامج السلطات الاسرائيلية في ضم غور الأردن وشمال البحر الميت...

   ومن المؤسف أن كلمة تهويد اليوم كاصطلاح تمر على مسامعنا دون أن نعي مضمونه, فكرته, أهدافه, مخاطره, تبعاته, على كل المنطقة وليست فلسطين فقط, الأمر الذي يفقدنا حتى الإحساس بأن جزءاً من روحنا, من جسدنا, من وعينا, من تاريخنا, يستلب منا في وضح النهار دون ألم أو تأنيب ضمير...

   إن هذا الواقع التهويدي والتطبيعي يقودنا إلى سؤال (ما هي مسؤولياتنا نحن العرب, والفلسطينيين, والحلفاء, تجاه هذا الواقع...؟؟)

أولاً: أهمية العمل على تشكيل هيئات ومؤسسات فلسطينية وعربية, تقف محلياً وبرنامجياً في مواجهة عملية التهويد عبر السياسة, والثقافة,والإعلام, والبرامج التلفزيونية, في محاولة لإحياء التاريخ الفلسطيني القديم والحديث لنفي الرواية التوراتية التي عملت المركزية الأوروبية على تسويقها وتبنيها عبر المسيحية الصهيونية, وهي رواية استشراقية استيطانية, لا زالت مخزّنة في العقل الأوروبي الغربي...

ثانياً: وكذلك الحال يستدعي الأمر تشكيل هيئة فلسطينية مهمتها رصد كل عمليات التهويد في أرض فلسطين, وتبيان مخاطره, ليس على المستوى الفلسطيني فحسب, إنما على المستوى العربي والإسلامي, وباقي الديانات, فالتهويد هو نقيض كل ما هو غير يهودي على كل المستويات الثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية...

ثالثاً: العمل على استثمار يوم القدس العالمي من كل عام لجهة إعلاء شأن القدس وفلسطين على المستوى الإقليمي والدولي وخلق رأي عام عالمي يعي حقيقة مدينة السلام أم المدائن تاريخياً وراهناً...

رابعاً: من غير المنطقي إلا نطالب السلطة الفلسطينية بوقف عملية التفاوض مع الكيان وطرد الأوهام من مسار التسوية, والخروج منه لإرغام الاحتلال على وقف إجراءاته التهويدية, وإثارة الغضب السياسي والإعلامي  على المستوى الفلسطيني والعربي والعالمي دون خوف من سقوط العملية السياسية الوهمية...

خامساً: من الأهمية بمكان ألا تسقط قلعة الجبهة الثقافية في الواقع العربي, الأمر الذي يجب إيلاء مؤسسات محاربة التطبيع دوراً محورياً في إسقاط مشاريع وبرامج التطبيع على المستوى العربي...                                                                                       سادسا  : العمل عل تشكيل مؤسسة وطنيه لاحياء التاريخ الفلسطيني القديم  من مفكرين واكاديميين ومختصين بكتابة التاريخ القديم عرب وغير عرب للوقوف عن كثب على حقيقة التاريخ الفلسطيني الذي جرى اسكاته من قبل الرواية الاسرائيلية والتوراتيه وتبيان ان التاريخ اليودي ليس الا لحظه تاريخيه في قلب موسوعة التاريخ الفلسطيني

أخيراً: يخطئ من يطن أن فلسطين, حتى لو تهودت معالمها, وعمرانها, ولو استبدل سكانها بيهود العالم, يمكن أن تسقط كقضية وطنية...عربية...إسلامية...فالروح لا تهوّد...والتاريخ لا يهوّد...والحلم فوق التهويد...

اخر الأخبار