حادثة فاشودا

تابعنا على:   16:02 2020-05-06

ميرفت عمر طباسي

أمد/ هي تلك الحادثة التي لا يعلم عنها الكثيرين شيئاً يذكر، هي نفسها التي تحولت في السياسة العالمية لمتلازمة فاشودة، هي تلك الواقعة التي تنسب إلى بلدة تقع جنوب السودان تسمى فاشودة، هي ذلك الاسم الذي أثار لغطاً في السياسة وانقلاباً في الموازين العالمية، هي من نقشت في صفحات التاريخ ومثلت ذروة الصراع الامبراطوري بين القوى الأوروبية الاستعمارية.
فاشودة ..... قرية صغيرة تقع جنوب السودان قرب التقاء النيل الأبيض بنهر السوباط. أسسها الجيش المصري عام 1855 باعتبارها قاعدة من أجل مكافحة تجارة الرقيق العربية في شرق افريقيا كانت تقع على أرض مرتفعة على طول مئة ميل من الخط الساحلي المستنقعي، وسكنت المنطقة من قبل سكان شيلوك. وبحلول منتصف سبعينات القرن 19 أصبحت فاشودة سوقاً مزدحمة ومدينة إدارية ناجحة.
طالبت القوى الاستعمارية الأوروبية بأفريقيا بعد مؤتمر برلين عام 1885 المتعلق بغرب افريقيا وبدأت تلاحق أي أراضي متبقية فيها وتسمى هذه الفترة بفترة التدافع من أجل افريقيا وكانت القوتان الرئيسيتان في هذا التدافع هما بريطانيا وفرنسا.
كان هدف بريطانيا إنشاء سكة حديد القاهرة – كيب تاون-أي السيطرة على حزام بطول افريقيا من مصر إلى جنوب افريقيا وربط ممتلكاتها في جنوب أفريقيا بأراضيها في شرقها، وكانت السودان هي المفتاح لتحقيق هذه الطموحات خاصة مع وجود مصر تحت سيطرتها، والتصدي لأي محاولة من جانب دولة أوروبية ما للتدخل في تدفق مياه النيل، لما في هذا من تهديد للسلطة البريطانية في مصر ومن ثم تحكمها في قناة السويس، لذا عملت سياسة سالسبوري على تحييد مخططات الدول بشأن مياه النيل. أما هدف فرنسا هو السيطرة على السودان الكبير الممتد من شنقيط (موريتانيا على المحيط الأطلسي) إلى تاجورة (جيبوتي على مضيق باب المندب) وأن يكون هناك رابط مستمر بين نهر النيجر والنيل مما يسمح لها بالسيطرة على حركة التجارة بحكم سيطرتها الحالية على طرق القوافل عبر الصحراء. كما كان لها موقعاً بالقرب من مصب البحر الأحمر في جيبوتي والتي يمكن أن تكون بمثابة مرسى شرقي لحزام شرقي.
فلو قمنا برسم خط من كيب تاون إلى القاهرة (الهدف البريطاني) وخط من داركار إلى الصومال على البحر الأحمر (الهدف الفرنسي) فهذان الخطان يتقاطعان بالقرب من بلدة فاشودة لذلك اتضحت أهميتها الاستراتيجية لكلا البلدين ومحاولاتهم للسيطرة عليها، وكما هو معروف لا يمكن التعايش بين المحور الفرنسي والمحور البريطاني، والأمة التي تمسك معبر المحورين ستكون القادرة على المضي قدماً في خطتها لتحقيق أهدافها.
في السودان اندلعت الثورة المهدية بقيادة محمد أحمد المهدي تطالب بانفصال السودان عن مصر وتحت ضغط إنجلترا انسحب الجيش المصري من السودان عام 1884 لأنهم كانوا يطمعون بالسودان لأنفسهم، فقامت دول الاستعمار بتقسيم الأملاك المصرية لعدة أقسام حصلت بريطانيا على أوغندا والجزء الجنوبي من مديرية خط الاستواء. أما فرنسا كان نصيبها تاغورة وجيبوتي ونظرت للسودان بعد انسحاب الجيش المصري على أنها أرض لا صاحب لها ولتحقيق أهدافها أرسلت حملة فرنسية من الجنود السنغاليين بقيادة مارشان انطلقت من الغرب الافريقي ( لوانجو) ودخلت إلى السودان عبر حدوده مع الكونغو حتى وصلت إلى منطقة فاشودة وبسطت سيطرتها على حوض أنهار أعالي النيل لمنع إنجلترا من التوغل في قلب افريقيا. وقام مارشان برفع العلم الفرنسي ايذاناً بضم ذلك الجزء إلى الممتلكات الفرنسية وأعلن أن أعالي النيل فرنسية.
اعتقد المصريون أن فرنسا ترفض وجود الانجليز في مصر ولن تدخر جهداً في تعكير صفو بقائهم فيها وأن فرنسا أرسلت الحملة إلى فاشودة لفتح باب المسألة المصرية لإرغام إنجلترا على تحديد موعد الجلاء عن مصر.
وبمجرد أن علم الانجليز بالحملة الفرنسية صدرت التعليمات لكتشنر (سردار الجيش المصري في السودان) بمتابعة السير في النيل الأبيض إلى فاشودة وأعلن بلفور بأن الحملة جردت لمصلحة مصر، هب كتشنر من فوره من الخرطوم في فصيلة مختلطة من جيشه وبرفقته جنود من الجيش المصري ووصل بعد ثلاثة أسابيع إلى هناك في 19/09/1898 على رأس كتيبتين من الجنود مصحوباً بأسطول صغير يضم 5 سفن في النيل قوي التسليح يحمل أفضل القوات البريطانية المنتشية بالنصر في كراري وجيش قوامه 25 ألف من الجنود. عندما وصل وجد معسكر شارمان هناك فاستدعي الضابط الفرنسي إلى مقره الجديد للنظر في أمر وجود جنود فرنسا في تلك المنطقة التي تعتبر من أملاك الخديوي، ولما كان مارشان أقل رتبة من كتشنر فقد ذهب إليه حيث أعلن بأن وجوده إنما كان بأمر من الحكومة الفرنسية ورفض التنازل عن أرض احتلها وأبى إنزال علمه من ساريته. امتنع الضابطان المتخاصمان من الدخول في معركة لفض النزاع وساد لقاء متحضر تناول فيه كتشنر ومارشان البراندي والسيجار، رأى كتشنر درءاً للموقف أن يترك حامية ترابط بالقرب من الفرنسيين ورفع الراية المصرية على مسافة 700 ياردة من الراية الفرنسية واتفق القائدان على الرجوع إلى حكومتيهما لتحديد لمن تكون السيادة على مياه النيل والتوصل إلى حل سياسي للمشكلة. ويمكننا هنا أن نتساءل: كيف سيكون رد الحكومتين؟ لقد وضعت كلاهما أهدافا حاولت جاهدة لتحقيقها. كيف سيكون الرد البريطاني؟ هل تتنازل بريطانيا وتنسحب من فاشودة وتوقف أطماعها الاستعمارية من أجل فرنسا؟ هل توقف بريطانيا مخططا أمضت سنوات تعمل على تنفيذه؟ وهل ستتنازل فرنسا عن حلمها النابليوني الذي طالما راودها بتكوين امبراطورية عظمى لها تضاهي بها الإمبراطورية البريطانية؟ وسط عشرات الأسئلة المطروحة وتوقعات الاجوبة المنتظرة ساد المناخ السياسي حالة من الترقب الكل ينتظر ما ستؤول إليه الأمور الكل يترقب بحذر ويهمس في قرارة ذاته هل ستندلع حربا جديدة؟ هل ستشهد المنطقة مزيدا من الدماء المراقة؟ هل سيسجل التاريخ فصلا اخر لمعارك تقودها بريطانيا وفرنسا وتدفع افريقيا فاتورتها؟ وأمام هذه الأحداث .. والأجواء المشحونة .. والصورة التي باتت تتشكل في المخيلة.. والعاصفة التي بدأت تجتاح المنطقة..
أرسل اللورد سالسبوري الوزير البريطاني خطاباً للحكومة الفرنسية يؤكد أن قيام الثورة في السودان لا يفقد الحكومة المصرية حقها فيها فهذه الأرض المتنازع عليها هي ملك لمصر. وحينما بلغت الأنباء لندن وباريس اندفعت الحشود إلى الشوارع تطالب (بفاشودة أو الحرب) وحدث توتر بين الحكومتين كاد يؤدي إلى الحرب بينهما وأخطر الرعايا الانجليز في فرنسا أن يكونوا على أهبة الرحيل لو تحرج الموقف، ووقفت الامبراطوريتان على حافة الحرب بسبب الخطاب الساخن على الجانبين. اذا الأوضاع تتصاعد ماذا سيحدث بعد..؟
كانت بريطانيا مستعدة للحرب بينما لم تكن فرنسا كذلك ومع إصرار البريطانيين على الانسحاب الفرنسي الفوري وغير المشروط من فاشودة كان على الفرنسيين قبول هذه الشروط والتي وصلت إلى حد الاذلال العلني وذكرت فاشودة في فرنسا بصفتها مثالاً على الوحشية والظلم البريطاني، خضعت الحكومة الفرنسية للمنطق، أولا: إن الجيش الذي فتح السودان يعيد أرضاً كانت من أملاك الخديوي. ثانيا: رأى الساسة الفرنسيون لبعد نظرهم ألا داعي لجلب عداوة إنجلترا وهم تحت تهديد قوة ألمانيا التي تجاورهم.
ولما كانت فرنسا تسعى آنذاك للحصول على صداقة إنجلترا لمواجهة ألمانيا فان وزير الخارجية الفرنسية (دلكاسي) كان على أتم الاستعداد للتنازل عن أطماعه في السودان بغية نيل الصداقة الإنجليزية خاصة بعد أن وافقت إنجلترا على قيام ألمانيا ببناء خط للسكك الحديدية في العراق والذي ستستفيد منه فرنسا.
كما أن فرنسا كانت تسيطر على الإقليم الغربي لأفريقيا باستثناء المغرب وكانت تتطلع لاحتلال المغرب لأنها تتحكم بمضيق جبل طارق ولا تستطيع ذلك إلا من خلال مساعدة بريطانيا، وهذا ما كانت تلوح به بريطانيا في فاشودة بأن مصالح فرنسا مرتبطة بالتسوية مع بريطانيا وهذه ما تسمى في السياسة بالغزل السياسي.
وما لبث أن أعلن أن فرنسا ليست على استعداد للدخول في حرب من أجل رقعة من الأرض لم يسمع بها أكثر من 90% من الشعب الفرنسي وبعثت الحكومة الفرنسية تأمر مارشان بالانسحاب في 04/11/1898 تاركاً وادي النيل للإنجليز، فقد كانت تدرك عجزها عن الاحتفاظ بوضعها هناك وتخلت عن دعاواها في أعالي النيل و اعتبرت هذه الحادثة انتصاراً دبلوماسياً للبريطانيين، إذ أدرك الفرنسيون أنهم يحتاجون إلى الوقوف بجانب بريطانيا على المدى الطويل من أجل ضمان وجود حليف قوي و بذلك انتهت المواجهة بينهم (دبلوماسية) دون صدام مسلح و سوي النزاع بمعاهدة السودان عام 1899. وهكذا دانت السيطرة لبريطانيا على مياه النيل من منابعه في المنطقة الاستوائية إلى مصبه في البحر المتوسط، كما أصبحت مصر و قناة السويس مؤمنتين الآن في حوزة بريطانيا حتى أن الامبراطور (مينلك) وعد في عام 1902 بعدم التدخل في تدفق النيل الأزرق و روافد عطبرة. أما نتائج هذا الاتفاق فلم تكن ذات أثر على السودان بل على المسرح السياسي الأوروبي لأن فاشودة وضعت اللبنات الأولى للتفاهم الإنجليزي الفرنسي الروسي وبدأت تلتئم الهوة التي تفصل بين الدولتين وفتح الطريق لتوثيق العلاقات التي انتهت بالوفاق الودي عام 1904. وأدت إلى سن (متلازمة فاشودة) في السياسة الخارجية الفرنسية والتي تعني السعي من أجل تأكيد النفوذ الفرنسي في المناطق التي قد تصبح عرضة للنفوذ البريطاني حيث كانت فاشودة شاهدة على نهاية الحلم الامبراطوري النابليوني بالسيطرة على النيل الجبار.
وفي مصر كانت النتيجة صادمة فأصيب الخديوي عباس حلمي والمصريون بخيبة أمل حيث كانوا يأملون وقوع صدام بين إنجلترا وفرنسا وكان هذا الصدام حلماً يداعب زعماء الحركة الوطنية ليتم بعدها فتح المسألة المصرية حيث كان رهان المصريين قائماً على أن فرنسا ستتراجع عن فاشودة شريطة انسحاب إنجلترا من مصر ولكن بعد نهايتها الدبلوماسية دب اليأس في النفوس وتراجع عباس حلمي عن مساندة الحركة الوطنية وتحويل بوصلة الولاء لبريطانيا وفتح صفحة التعاون معها، بيد أن الجميع قد أيقن أن بقاء بريطانيا في مصر قضاء محتوم، وقام الخديوي بزيارة لندن عام 1900 وتوقيع اتفاقية الحكم الثنائي والتي بموجبها تقوم إنجلترا باحتلال السودان دون اعتبارها مستعمرة وبذلك تواجه فرنسا وأي دولة مستعمرة باعتبارها شريك مع مصر في حكم السودان وبدأت سياسة الوفاق بين عباس حلمي وجورست.
حادثة فاشودة كانت ترجمة حقيقية لموازين القوى الدولية، ففرنسا لن تقوى على مواجهة بريطانيا وليس لديها المبرر الكافي لهذه المواجهة لذلك انتهت بهذا الحل الدبلوماسي.
وغير اسم فاشودة الذي يشير إلى الخلاف باسم غيره وهو (كدوك) واختفت فاشودة من الخريطة وأصبحت اسماً تاريخيا فقط لمحو ذكرى الصدام من الذاكرة.

اخر الأخبار