الكورونا وعوامل هدم العالم /2

تابعنا على:   17:01 2020-04-09

عمر حلمي الغول

أمد/ النقاط التي سلطت الضوء عليها أمس، كنت أشرت لها في العديد من المقالات منذ نهاية عام 2008 حتى الأمس القريب، وشكلت الإرهاصات الضرورية للتحولات والإنزياحات في خارطة العالم. غير ان ظهور وتفشي وباء "كوفيد 19" في الصين "ووهان" نهاية 2019 ثم إنتشاره في ربوع الكرة الأرضية منذ مطلع العام 2020 وخاصة في دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وما نجم من تخبط وفشل وإرباك في في العديد من الدول المتقدمة في مواجهه الفايروس، وما إنتهجته تلك الدول من سلوكيات لا تمت للمدنية العالمية بصلة، في الوقت الذي تمكنت الصين من تجاوز خطر الجائحة الكونية بسرعة فاقت التقديرات، الأمر الذي سمح للمتابعين لتطورات المشهد العالمي إعتبار هذة المحطة نقطة ذروة في سيرورة التحولات السابقة، ووضع بين ايديهم البرهان للبناء عليه لإستشراف مستقبل النظام العالمي ووصوله إلى مرحلة كيفية فاصلة بين نظامين عالميين، النظام المتهالك القديم، والنظام الذي يتشكل حاليا، ومازالت ملامحة لم تتبلور تماما بعد. حتى كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق نشر مقالا في 3/4/2020 الماضي في "وول ستريت جورنال" إضطر فيه إلى أن يناقض إستنتاجاته السابقة، التي كان يؤكد فيها، على ان الغلبة ستكون لإميركا، وبتعبير آخر، كان يجزم، بأن العالم سيبقى وفق خاضعا للمعايير القيمية والسياسية الإستراتيجية الأميركية. لكنه في مقالته تراجع كليا عما ذكره سابقا، عندما قال، أن "جائحة الكورونا ستغير العالم للأبد"، وهناك العديد من علماء وخبراء الفكر السياسي وجلهم من الأميركيين سبقوا الثعلب العجوز في ما خلص إليه.

لكن بعيدا عن كيسنجر واساتذة الفكر السياسي، فإن اي ملم بمبادىء علم السياسة يستطيع ان يستشرف من جملة الظواهر الملازمة لوباء الكورونا آفاق عملية الهدم للنظام العالمي القديم وبناءه بشكل مغاير نوعيا، ومن أبرز الظواهر التي رأيناها وشاهدناها وقرأناها في وسائل الإعلام، هي: أولا مبادرة الولايات المتحدة بشن حرب عالمية ناعمة دون قنابل وصواريخ وطائرات وجنود من خلال إستخدام الأسلحة الجرثومية على الصين الشعبية. وقرار الحرب إتخذ في العام 1985 من قبل مجلس الأمن القومي الأميركي، وفق ما ذكره الدكتور طلال ابو غزالة؛ ثانيا الإنشداد والتركيز على "الأنا" القومية لهذا البلد او ذاك. وتمثل ذلك في كل دول العالم بدءا من الولايات المتحدة وإنتهاءا بآخر دولة راسمالية، وتجلى ذلك فيما بين دول الإتحاد الأوروبي، التي تركت إيطاليا وأسبانيا وصربيا وغيرها تقلع شوكها بايديها، وتخلت عمليا ومن حيث تدري عن العقد السياسي والإقتصادي والأمني والصحي والثقافي للأتحاد؛ ثالثا عودة دول العالم الأول لمنطق القراصنة في العصور الوسطى، وهذا ما مارسته كل من الولايات المتحدة وفرنسا والمانيا وإسرائيل وغيرها في إختطاف طرود اجهزة التنفس والكمامات والمعدات الطبية المخصصة لدول صديقة وحليفة دون اي رادع، ليس هذا فحسب، بل ان بعض تلك الدول أميركا نموذجا شاءت إنتاج دواء خاص بها ويقتصر إستخدامه عليها فقط؛ رابعا إشتداد وتعمق الأزمة الإقتصادية العالمية. لا سيما وان تفشي الوباء الكوروني في دول العالم فرض على كل الدول سياسات إقتصادية مغايرة للدورة الإقتصادية العادية والمنتظمة في بلدانها، وفرض شلل ووقف قطاعات عمل كاملة، ولا يقتصر الأمر على الطيران والموانىء والسياحة، بل يشمل قطاعات إنتاجية عديدة، مما غير معادلات توزيع وتقسيم العمل داخل الدول ذاتها، وفيما بين الدول عموما، مما ترك أثرا مباشرا على العملية الإقتصادية، وأدخل إقتصادات الدول في ركود غير مسبوق، واشرس وأقوى من أزمة 1929 و1930، و2008، ويحمل تهديدا خطيرا على مستقبل إقتصادات الدول فيما لو إستمرت الجائحة تغزو العالم لشهور قادمة؛ رابعا الخطاب السياسي المعتمد بين الدول في ظل أزمة الكورونا يقوم على لغة التهديد والوعيد والإنتقام، ولا يرتكز على خطاب التعاون والتكافل لمواجهة التحدي. وهذا عزز منطق البلطجة والقرصنة؛ خامسا اظهرت ازمة الكورونا الفشل المدقع للدول والأقطاب العالمية الأولى وخاصة اميركا ودول الإتحاد الأوروبي ومعها دولة الإستعمار الإسرائيلية، ليس هذا فحسب، بل انها تلكأت وتراخت في مواجهة الأزمة، مع ان الأجهزة الأمنية في تلك الدول ابلغت صناع القرار بإنتشار الوباء في بلدانها، ومع ذلك لم تحرك ساكنا؛ سادسا كما أن إعتماد دول العالم الأول شعار "مناعة القطيع" وتبنيها نظرية مالتوس للقضاء على كبار السن، زاد من إنكشاف إفلاسها، وسقوطها الأخلاقي والقيمي .. إلخ من الظواهر الحاملة لعوامل الهدم.

ويمكن بموضوعية الإستنتاج إستنادا للسياسات الماثلة امامنا التأكيد على الآتي، اولا العالم بات في ظل أزمة الكورونا يسير بخطى اسرع من السابق نحو العودة إلى مربع الدولة القومية؛ ثانيا إنتهاء مرحلة العولمة الأميركية المتوحشة، واساسا وضع ترامب وإدارته المداميك الأولى لإضمحلالها وإندثارها؛ ثالثا زوال الإتحاد الأوروبي كمنظومة. لإن التقوقع على الذات القومية، كان العنوان الأبرز للدول المركزية في الإتحاد في ظل ازمة الكورونا. وهذا ما اشرت له في مقالة الأمس، عندما ذكرت أن خروج بريطانيا من الإتحاد لم يكن مقتصرا عليها، انما ستتبعه دول اخرى؛ رابعا هذا المخاض سينعكس على هيكلة العالم بشكل مغاير ووفقا لموازين القوى العالمية الجديدة، والتي بالضرورة ستكون الصين صاحبة باع طويل فيه، لإنها تمكنت من تجاوز الأزمة بسرعة، وكونها مدت يد العون للدول الأخرى بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي وخاصة ايطاليا، إضافة لتعافي إقتصادها من الركود.

لكن من السابق لإوانه الحديث عن هوية وكيفية بناء النظام العالمي الجديد. بيد ان الضبابية في شاكلة النظام، لا تلغي حقيقة راسخة تقول، ان موازين القوى هي التي ستحدد مركباته ومنظوماته السياسية والإقتصادية والقانونية والثقافية. ومن شبه المؤكد انه سيكون نظام متعدد الأقطاب، وهذا سيفرض إعادة هيكلة هيئة الأمم المتحدة بمعايير النظام الدولي الجديد. وأعتقد ان التحولات الدراماتيكية لن تنفي دور الرأسمالية، بل ستبقى كجزء ومكون من النظام الدولي الجديد وبشروطه. لكن هل تظهر منظومات فكرية سياسية جديدة؟ هل يصبح النظام الصيني نموذجا يحتذى به؟ من الصعب التكهن بما ستؤول إليه الأمور. لكن التغيير قادم لا محالة. والسلاح النووي لن يحل معضلة أميركا، بل قد يكون عبئا عليها، كما حصل بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي. وقد تذهب أميركا إلى التفكك. لا سيما وان العديد من الولايات ككاليفورنيا وتكساس وغيرها هددت بالإنفصال أكثر من مرة، وآخرها في عهد الرئيس دونالد ترامب. خاصة وان الإدارة الحالية فشلت فشلا ذريعا، كما قال كيسنجر في مقاله المذكور آنفا بشكل غير مباشر، ان الولايات المتحدة بحاجة إلى إدارة جديدة "في ظل الإنقسام السياسي الذي نعيشه اليوم." وهو ما  يتطلب وجود حكومة "تتحلى بالكفاءة وبُعد النظر للتغلب على العقبات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق العالمي المترتبة على تفشي الوباء."

وباختصار شديد لكل ما تقدم سيكون إنعكاس مباشر وغير مباشر على مكانة دولة الإستعمار الإسرائيلية، لن تنفذ منه، مهما حاولت من المناورات، وتسويق الذات في حالة السيولة التي تشهدها المنظومة العالمية الآيلة للسقوط واالغياب، لترسيخ حضورها في العالم القادم. السيناريوهات كلها مفتوحة دون إستثناء. لكن اسباب وجودها وقبلها الحركة الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر لم تعد قائمة.

كلمات دلالية

اخر الأخبار