الجمع بين أولوية الحياة ودوران عجلة الاقتصاد

تابعنا على:   14:40 2020-04-07

هاني المصري

أمد/ سأناقش في هذا المقال فكرة تقوم على ضرورة الجمع ما بين مكافحة الوباء ومنع انتشاره بعد مرور المرحلة الأولى التي بحاجة إلى الإغلاق التام والعزل المنزلي الاختياري والإلزامي، واستمرار دورة الحياة الاقتصادية في نفس الوقت بصورة تدريجية بعد مدة أقصاها نهاية أيار القادم. ونجاح هذه الخطة مرهون بمدى التقيد بالإجراءات الوقائية وتجنب التجمعات. وحتى لا تضيع البوصلة لا بد من الانطلاق من المبادئ والأسس والمعايير الآتية:

أولًا: الأولوية القصوى هي للحفاظ على الحياة البشرية، فلا شيء أهم من حياة البشر وصحتهم، وهذا يجعلنا على النقيض من الأفكار والدعوات التي تبناها قادة وحكومات تنطلق من أولوية الاقتصاد، وروّجت لما يسمى "مناعة القطيع"، وبعضها وصل إلى حد الدعوة للتخلص من المسنين والمرضى والعاطلين عن العمل، كونهم عبء على الاقتصاد، وخصوصًا أن نسبتهم في البلدان "المتقدمة"، وتحديدًا أوروبا عالية. أما نحن فقيمنا وعاداتنا وأخلاقنا المنبثقة من ديننا وثقافتنا لا تسمح لنا بارتكاب جريمة التساهل مع وفاة أي نفس بشرية.

تكمن خطورة هذه الأفكار في أنها تستند إلى أشياء خاطئة أو غير مثبتة حتى الآن، مثل أن المصاب لا يصاب مرة أخرى وتتوفر له مناعة، وأن الشباب والأطفال بمنأى عن الإصابة والموت، في حين أن تجارب كثيرة أثبتت عدم دقة ذلك، فضلًا عن أن موجة ثانية من كورونا محتملة جدًا في الصين وغيرها.

ثانيًا: الأولوية القصوى للحياة البشرية لا تعني إهمال الاقتصاد الذي من دون دوران عجلته لا يمكن للحياة البشرية أن تستمر، فالأولوية الثانية إذًا هي لاستمرار دورة الحياة الاقتصادية الاجتماعية الثقافية التعليمية، ولو بصورة تدريجية، وهي ضرورية ولا غنى عنها للحفاظ على الحياة البشرية.

ما يعزز ما سبق أن التقديرات الأكثر رواجًا بأن هذا الفيروس سيستمر في الفتك بالبشر على امتداد الكرة الأرضية، إلى أن يتم  التوصل إلى علاج له أو لقاح يمنع الإصابة به، لفترة قد تطول، وأن هناك احتمالًا بأن يبدأ دورة جديدة في الشتاء القادم، فلا يعقل أن تبقى الحياة الاقتصادية مجمدة لفترة طويلة، لأن هذا يعني أن انهيارًا اقتصاديًا شاملًا، يمكن أن يحدث، وهذا إن حصل سيفتح أبواب الفوضى والفلتان الأمني.

ثالثًا: الأوضاع التي تمر بها فلسطين تتميز بخصائص استثنائية، أبرزها أنها ترزح تحت وطأة مشروع استعماري استيطاني، يأخذ شكل التمييز العنصري لبعض المناطق، وشكل الاحتلال العسكري لمناطق أخرى، لذا لا يبالغ أحد بالتصديق أن لدينا دولة تحتكر القوة والسيادة، إضافة إلى ما نعاني منه من انقسام السلطة إلى سلطتين تتنازعان على الهوامش والفتات الذي يتيحه الاحتلال .

إن الواقع الذي نعيشه حافل بالتمييز العنصري الذي مارسته دولة الاحتلال ضد شعبنا في أراضي 48 والقدس، عبر التمييز في الفحوصات والعلاج، وعدم السهر على ضمان تنفيذ إجراءات الوقاية، إضافة إلى الطريقة العنصرية التي تعاملت بها مع العمال الذين يعملون في إسرائيل، واستمرار حصار قطاع غزة، والسعي للمساومة بين تزويده بالأدوية والأجهزة الطبية اللازمة لمكافحة الوباء، وبين تحقيق أهداف سياسية كما يحاول أن يفعل نفتالي بينت، وزير الحرب الإسرائيلي.

يتطلب ما سبق أن تكون كورونا وتداعياته مدخلًا لإنجاز الوحدة في مواجهة الوباء كمقدمة لتحقيق الوحدة، بدلًا من الضحك على الذقون بالمكالمات الدافئة والحديث عن عدم التمييز في المعاملة، بينما التحريض الإعلامي المتبادل والاعتقالات مستمرة.

الخلاصة مما سبق أنني أدعو إلى الاستعداد وتهيئة الناس للتعايش مع الاستمرار في مكافحة الوباء، والالتزام بأقصى قدر من إجراءات الوقاية من جهة، وبين العودة التدريجية للحياة، لأن الاستمرار بتجميد الحياة الاقتصادية سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. وهنا يمكن أن نستفيد من تجارب مثل الصينية والسويدية، بحيث نطبق الأولى في البداية ونأخذ فيما بعد في بعض الجوانب من الثانية، مثل التشديد على إجراءات الوقاية على كبار السن والمرضى والذين مناعتهم ضعيفة.

نعم أنا كنت ولا أزال مع اتخاذ أقصى الإجراءات، بما فيها الإغلاق التام، والحجر المنزلي الطوعي، والحجر الإلزامي، ودعوت إلى منع التجول، ولكن بهدف محاصرة الوباء ومنعه من الانتشار ومن تحقق سيناريو فقدان السيطرة الذي سيلحق أضرارًا فادحة بالحياة البشرية والاقتصادية معًا ولكن هذا لا ينفع أكثر من فترة قصيرة لا تتجاوز عدة أشهر.

وفّر إعلان حالة الطوارئ (رغم الجدل القانوني حول تمديدها)، والإجراءات الأخرى، وتجاوب الشعب معها (رغم الأخطاء والثغرات من الحكومة وقطاعات من الشعب)؛ الوعي العام بخطورة الوباء، وكيفية محاصرته ومكافحته، وساهم حتى الآن في محاصرة الوباء في بؤر محددة. ووفر وقتًا ثمينًا مكّن وزارة الصحة والمستشفيات والمنظمات الأهلية الصحية والمواطنين من الاستعداد لمختلف الاحتمالات، وبذل جهودًا كبيرة لاستكمال النواقص في الجهاز الصحي.

لا بد من تعزيز ضرورة الاستعداد للجمع ما بين مكافحة كورونا والعودة التدريجية إلى الحياة الاقتصادية، والوقوف عند الأضرار التي لحقت بالاقتصاد الفلسطيني، لا سيما أن كورونا ساهم بشدة في تخفيض مختلف مجالات الحياة الاقتصادية، وخاصة الاستيراد والتصدير، إلى معدلات غير مسبوقة، وهذا أدى كما قال رئيس الوزراء محمد اشتية إلى انخفاض موازنة الحكومة إلى أكثر من 50%، ما دفعها إلى تبني موازنة طوارئ، ووضع موازنة تقشفية صحية لمواجهة فيروس كورونا بلغت 120 مليون دولار، ما سيؤدي إلى مضاعفة العجز في الموازنة.

وهناك توقّع بانخفاض الإيرادات من الجمارك والضرائب بأكثر من 70%، وانخفاض المساعدات الخارجية، وبالتالي يترتب على ذلك عدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها، بما في ذلك الرواتب التي لن تتمكن من صرفها، أو صرفها كاملة، إذا استمرت الأوضاع الحالية على ما هي عليه. ويضاف إلى ذلك تراجع عوائد العمل من العمال في الداخل، المقدرة بمليار شيكل شهريًا، وفوائد السياحة، بما فيها قدوم أهلنا بالداخل الذين يضخون أسواق الضفة بحوالي مليار دولار سنويًا.

يقتضي ما سبق خطوات صعبة جدًا، ولكن قد نضطر إليها لتعزيز صمود المواطنين، من خلال مساعدة الغني للفقير، وتخلي الشركات الكبرى عن أرباحها لهذا العام، وعلى الشركات التي بمقدورها مواصلة العمل في هذه الظروف، مثل الاتصالات والتكنولوجيا ومصانع الأدوية والمنظفات والمعقمات والأغذية، مضاعفة قيامها بمسؤولياتها الاجتماعية.

لا تملك الحكومة الفلسطينية القدرة لتعويض الأفراد، لا سيما العمال والموظفين والمؤسسات والشركات، خصوصًا الصغيرة الزراعية والصناعية، كما تفعل البلدان المتقدمة، ولكن هذا لا يعفيها من مسؤولياتها وواجباتها. فلا يكفي الحديث عن تشكيل صندوق أو صناديق الطوارئ تشارك في تمويلها الحكومة والعمال والقطاع الخاص القادرين، بمن فيهم المغتربون، من دون تحديد الموازنة وأسس وآليات ومواعيد صرفها وقيمتها.

وحتى لا يكون العمل تلقائيًا وبلا تخطيط ويوم بيوم وشهر بشهر، لا بد من بلورة رؤية شاملة، ووضع خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأمد تستند إلى الإمكانات والموارد المتاحة والمحتملة، والنفقات الجارية والمحتملة، إذ لا ينفع القول إن رواتب الموظفين ستصرف في الأشهر القادمة وفق الإمكانات، فيمكن معرفة بحدود تقريبية ما الذي نملكه ويمكن أن نملكه وما النفقات. والمهم أن تكون آليات الصرف عادلة ووفق الاحتياجات والأولويات المحددة التي لا تكون معنية فقط بالإغاثة، وإنما تلحظ قدر الإمكان تنمية القدرات ودعم المؤسسات الزراعية والصناعية والصحية والتعليمية التي تضمن سريان دورة الحياة. ويساعد على التبرع إطلاق يد المبادرات العامة والمحلية، فقد يمكن التبرع لمستشفى ميداني في مدينة معينة من أهل البلد.

وحتى يمكن تحقيق ذلك بالحد الأقصى وبأفضل شكل، لا بد من وضع إستراتيجية موحدة للضفة الغربية وقطاع غزة تأخذ الظروف الخاصة بالحسبان، ويشكّل على أساسها فريق وطني للطوارئ موحد للضفة والقطاع، ويمكن أن يكون مدخلًا لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة. فمثلًا يستطيع القطاع أن يمنع انتشار الوباء بشكل أكبر من الضفة بحكم القدرة على السيطرة على المعابر، وهذا يعني أن دورة الحياة يمكن أن تعود بالتدريج وبسرعة أكبر هناك. في المقابل، إذا انتشر الوباء في القطاع ستكون التداعيات كارثية أكثر من بقية الأراضي الفلسطينية. ونحن الآن نسمع روايات متناقضة عن أن خطط الحكومة  تشمل الضفة والقطاع، وأن المتاح يوزع هنا وهناك، وروايات أخرى معاكسة تمامًا وهذا أكثر من أمر معيب.

اقترحت سابقًا، وأكرر ضرورة تشكيل صندوق وطني يستند إلى أسس ومعايير تحدد واجبات وحقوق الحكومة والشركات والأفراد، وتشارك فيه شخصيات متنوعة موثوقة فوق مستوى الشبهات، ويضم ممثلو القطاع العام والخاص والأهلي، بعيدًا عن سيطرة أفراد ومراكز قوى أو تنظيم واحد.

وردًا على من يقول إن الحكومة هي الجهاز التنفيذي وصاحب الأمر والنهي. نقول صحيح، لكن مع التذكير أن حكومتنا حكومة مجازًا لأنها تحت الاحتلال، وأن السلطة سلطتان، لذا إذا أرادت أوسع تكافل وتضامن اجتماعي وأقصى مسؤولية اجتماعية عليها تحقيق أقصى قدر من المشاركة وتحمل المسؤولية من دون احتكار القرار واللجان والمؤسسات .

نحن نحتاج إلى مساهمة كل شخص قادر، وليس الأغنياء فقط، من خلال وضع رسوم يمكن تحصيلها عبر فواتير الهواتف. ونحتاج إلى الاقتراض من الخارج والبنوك، ونحتاج الى العودة لدورة الحياة الإقتصادية حتى لا نصل إلى وضع نضطر إلى الاقتراض من الودائع في البنوك بنسبة صغيرة التي تقدر بحوالي 12 مليار دولار، وقد يصبح تخفيض النفقات، بما فيها الرواتب، أمر لا مفر منه. كما يمكن وضع لوائح ضريبية جديدة تخفض عن قطاعات وتزيد عن أخرى، ويمكن دراسة  تخفيض ضريبة القيمة المضافة والجمارك، ولكن من دون مبالغة، لأن الحكومة من دون ضرائب وجمارك لا تستطيع القيام بالتزاماتها المضاعفة .

لقد استندت موازنة الحكومات التي شكلت منذ تأسيس السلطة على معايير واحتياجات تعرضت إلى كثير من الملاحظات الجوهرية، أهمها أنها توسعت في الكادر الوظيفي وأعطت الأمن نسبة من 20-30%، وأهملت الصحة والتعليم والزراعة والصناعة والتكنولوحيا، ما ساهم إلى وصول الوباء إلينا وظهرنا مكشوف، الأمر الذي يستدعي مراجعة شاملة، تتضمن توفير متطلبات موازنة جديدة تستند إلى تعزيز الصمود في وجه الاحتلال، وتقليل اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على الاقتصاد الإسرائيلي كخطوة على طريق الاستقلال الوطني.

يمكن هزيمة فيروس كورونا لأن الشعب الفلسطيني شعب الجبارين واعتاد على الظروف الصعبة والحروب والمجازر والإغلاقات وكل أشكال القمع والحصار.

اخر الأخبار