"جائحة كورونا"... صفعة نحو إعادة الترميم

تابعنا على:   10:29 2020-04-04

يوسف المخلص

أمد/ لا زالت هذه الجائحة المعضلة تحصد الآلاف من القتلى والمصابين، ولا زال الوباء يتجول بين أقطار العالم بكل سلاسة دون أي جواز سفر أو تأشيرة. جائحة لا طالما كانت صفعة على خدود الإنسانية استشعرت حجم قوتها، وأماطت معها اللثام على كل الزائفات المنمقة التي كانت تنذر باحتكار القوى العظمى الماسكة بزمام السلط وإسداء القرارات، أو بسط نفوذ استغلالها للثروات على حساب المسحوقين من المفقرين و البؤساء، ضحايا أنظمة النيوليبرالية و الرأسمالية المتوحشة التي زاغت بقرارات التخلي عن دعم الخدمات العامة كالتعليم والصحة، والذهاب نحو خوصصة عدة مرافق ومؤسسات عامة، وخفض الدعم عن المنتجات الأساسية (مثل القمح والغاز والسكر والزيت...)، فأجهزت بالتالي على ما تبقى للفرد والمواطن البسيط من أمل في استشراف الحياة الكريمة.

تبعات هذا الوباء لم تسلم منها كذلك من تربعوا سدة الريادة، ليعانوا الأمرين والويلات ليصير نتاج الجني وراء محصلات هذا الفيروس كسادا، فباتت التبعات تضرب بسوطها على أذناب الدول المتضررة، وصارت تتقلب تحت رحمة هذا الفيروس وهي تتصدر قائمة دول العالم أيضا من ناحية تعداد الإصابات والقتلى، لتصل ذروتها حسب معطيات صادرة عن جامعة "جونز هوبكينز" الأمريكية إلى أكثر من 216 ألفا من الإصابات بالفيروس وتسجيل 5 آلاف وأكثر من الوفيات لحدود الساعة. بل وشل جل الأنظمة الذكية لها من استخبارات وتعقب مستقبلية لأماكن انتشاره.

وأمام تفشي هذه الجائحة التي أرخت ظلالها على كل المناحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية كذلك، والتي كانت سابقا تستحيل التخمين في فرضيات إمكانية شل وتوقيف نشاطاتها لتغرق جراء ذلك في مستنقع الدوغمائية، دون الحاجة لوضع مسائلة ذاتية لأوجه التصدي وتقوية مناعة جديدة كافية لمحاولة حد نزيف عولمة جديدة، عولمة التخبطات والمآسي والأوبئة.

إن طغيان التوحد الذي أصاب بعض الدول الريادية التي استطالت التعني بسلطها أمام دول العالم الثالث، وتماديها في وضع عناوين مستفزة من قبيل "التربع على العرش" أو ما شابه أمام ذلك الخانع المستلب دون حراك أو مقاومة، وكذا الغرق حد نزوعها للنرجسية التفاخرية كان لهم من الأسباب ما جعلها اليوم تقف على اختلال نقد وبناء الذات بدل العكس، من خلال استعراض القوة واليقين في حل الأزمات التي قد تعصف بكيان وثوابت ذلك البلد وتكشف عيوبه، ولعل المثال هنا نستحضره عندما خرج الرئيس الأمريكي في إحدى طلعاته الإعلامية لمواطنيه وهو يقول : "فيروس كورونا سيزول، لا تقلقوا، فقط حافظوا على هدوئكم"، ليؤكد بعد انتشار الفيروس الذي نخر بلاده ويقول أنهم في مواجهة "عدو غير مرئي" وأنها "محنة سيئة، سيئة للغاية". وفي واقعة أخرى عندما ذكرت شبكة "سي إن إن" خبر العديد من المواطنين الأمريكيين الذين يعانون أعراضا مرتبطة بالفيروس قالوا إنهم غاضبون ومحبطون بسبب إبعادهم عن المستشفيات والمراكز الصحية أثناء محاولتهم إجراء الاختبار. وتفيد حادثة إهمال أخرى عندما تم منع شاب أمريكي من الكشف الطبي عن احتمال إصابته بفيروس كوفيد 19 بسبب عدم توفره على التأمين الصحي، ليلقى حتفه بعدها مباشرة تأثرا بالوباء[1]. فما كان من "ترامب" جراء كل هذا إلا أن أجبر لمقاومة هذا المد الوبائي بطلب العون والمساعدة من نظيرتها روسيا التي استجابت لذلك، حتى يتدارك جل هذه المطبات والهفوات المتراكمة التي من الممكن أن تعصف بثقة المواطنين فيه خلال ترشحه للانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة المقرر إجراؤها في الثالث من نوفمبر سنة 2020. فيما أكد "آدم جافني" من كلية الطب بجامعة هارفارد ورئيس منظمة "الأطباء من أجل برنامج وطني للصحة": " أن هذا ليس نظام رعاية صحية، إنه فوضى مزرية، مرة أخرى هناك أنساق متباعدة وغير متجانسة حسب الطريقة التي ندفع بموجبها أقساط الرعاية الصحية، فضلا عن المنظومات المختلفة لإدارة مستشفياتنا: بعضها غني وبعضها فقير، كل منها يعيل نفسه، ومنغلقة على ذواتها بسبب الانحصار على نظام منافسة السوق".

إن التعني بالديمقراطية الحاضرة شكلا كشعارات وأسامي صورية دون مضمون، كما أوردها سابقا الرئيس الرابع للولايات المتحدة الأمريكية "جورج ماديسون" في كون بلاده  " تعيش ديمقراطية ليبرالية تحفظ حقوقا أساسية للفرد، ولا تخضع كل شيء لما تطالب به الأكثرية، ولما تعتبره الأكثرية مصلحة عامة". هذا النموذج طالما أعلن إخفاقه وقصره اليوم في جعل المواطن الأمريكي ضمن أولوياته وهو يعيش اليوم تحت أشد الأوضاع التي عصفت باستقرار معيشه، جراء استهتار متعمد من صناع القرار الأمريكي و"الترامبي" على الخصوص، وهي توجه أصابع الاتهام نحوه مباشرة بعد كان خالف واعترض آراء بعض مسؤولي الصحة الذين دقوا ناقوس الخطر قبل، ليرد عليهم بأن انتشار الفيروس محليا ليس أمرا محتوما. فلعل ما استثمر من حركة العولمة اليوم هو التسابق نحو تملك سيادة القرار وانكماشه حول نفسه أو كما يتجسد -إن صح التعبير- من خلال عبارة" أنا ومن بعدي الطوفان". فلا عجب من طفو أبعاد الانغلاق القومي والانحصار داخل دائرة الانعزالية ونهج "سياسة الأبواب الموصدة" تجاه باقي البلدان، والترصد بالمقابل لأي غنيمة خارجية في ظل هذه الأوضاع المتأزمة لاقتناصها والظفر بها لصالحها، ولعل حادثتي مصادرة حمولة مساعدات طبية في دولة التشيك التي كانت قادمة من الصين ومتوجهة نحو إيطاليا، وحادثة سرقة باخرة أخرى محملة بالكحول الطبي كانت متوجهة نحو تونس، لعلهما خير مثال اليوم نحو الغلو في النزعة الفردانية لبعض الدول في ضمان استمراريتها ووجودها لمكافحة خطر هذا الشبح تحت أي مسبب أو ذريعة كانت.

إن لفظة الديمقراطية بكل ما تستدعيه مقوماتها اليوم، بكل أسسها وركائزها التي تكفل للإنسان حقه في العيش والاستقرار والأمن الصحي، لم نستطع الوقوف على معناها الحق إلا مع النموذج الصيني اليوم البلد "غير الديمقراطي" الذين أبهر العالم ووضع لنفسه مكانا مرموقا يحتذى به، ليشق طريقه أمام فشل استراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع الوباء لتكون الصين بذلك بلدا يسير بخطى ثابتة نحو زعامة العالم. هنا تمثل أوجه النجاح الديمقراطي الذي يمثل قوة البلد في تدبير الأزمات والمعارك الداخلية بالعديد من الإجراءات الاحترازية؛ إعلان حجر صحي في أسرع الأوقات، بناء مستشفيات في حيز زمني وجيز لا يتعدى العشرة ايام، توفير كمامات وأقنعة بالمجان للمواطنين دون احتكار وغيرها...، كلها بوادر رسمت للجميع معالم التفوق والنجاح الصيني في تدبير الأزمة للبلد، لا سيما وأن الصين قد نالت التنويه من منظمة الصحة العالمية بنهجها في السيطرة على انتشار فيروس كورونا.

إن الديمقراطية الحقة التي يستوجب تبنيها ونيلها هي التي تجعل من المواطن صلب اهتمامها وتسهر على توفير السبل الكافية للعيش الكريم وتضمن لهم توفير احتياجاتهم الأساسية على الأقل، بعيدا عن كل الشعارات الرنانة والكلمات الزائفة التي تدعي ذلك. أو كما قال السوسيولوجي الفرنسي "إدغار موران": "إن الديمقراطية أكثر من مجرد نظام سياسي، لأنها بقدر ما تجعل الإنسان يتمتع بحقوقه تجعله أيضا جديرا بإنسانيته"

كلمات دلالية

اخر الأخبار