الكورونا كشف لا عقلانية النظام العالمي

تابعنا على:   19:28 2020-03-15

د. مصطفى البرغوثي

أمد/ فيروس الكورونا دقيق وصغير الحجم بحيث لا يمكن رؤيته لا بالعين المجردة، ولا بالميكروسكوب العادي، فقط المجهر الإلكتروني يستطيع رؤية تفاصيله.

ومع ذلك فإن هذا الكائن صغير الحجم، كشف وعرى عيوب النظام العالمي الإقتصادي، والصحي، والأمني، بصورة عجزت عنها ملايين المقالات والنشرات، والكتب.

وأبرز ما عراه هذا الفيروس هو النظام الراسمالي المتوحش، الذي لم يخجل عن مراكمة مليارات الدولارات في جيوب ثمانية أشخاص، يملكون ما يملكه نصف البشرية جمعاء.

وما ذكرنا به  هذا الفيروس أن الإنفاق العالمي على الصحة لا يتجاوز 40 دولارا للفرد في العام في البلدان الفقيرة، وحوالي 1000 دولار في أغنى بلدان العالم أي الولايات المتحدة.

وما كشفه أيضا أن الإنفاق على الصحة ليس معيارا كافيا، فرغم ان الولايات المتحدة تنفق 17% من دخلها القومي على الصحة، فإن نسبة من لديهم تأمين صحي شامل فيها لا يتجاوز 30%، لأن معظم الإنفاق يذهب لجيوب شركات التأمين، وليس للمواطنين وصحتهم، ولا للصحة الوقائية أو الأولية، ولأن أسعار الخدمات العلاجية التي تفرضها الشركات خيالية.

مليارات الدولارات تذهب لشركات التأمين، والأدوية، وكلها لم تستطع، حتى الآن اكتشاف لقاح واقي من هذا الفيروس الدقيق والخطير .

مليارات الدولارات تنفق سنويا على التسلح وأجهزة الأمن المتعددة، وقد تضاعف الإنفاق على الأسلحة بشكل جنوني في السنوات الأخيرة، وكل ذلك لا قيمة له في وجه فيروس دقيق اسمه الكورونا المستجد، الذي لا يفرق بين إنسان فقير في شوارع دلهي، وبين أثرى أثرياء العالم من أصحاب المليارات في كاليفورنيا أو نيويورك.

كما لا يفرق بين الحكام، والملوك، والوزراء، والمشاهير، وبين المواطنين العاديين البسطاء.

العالم أصبح قرية عالمية واحدة نتيجة العولمة، وانفجار التجارة والنشاط الإقتصادي العالمي، ومنظومة الرأسمالية التي تقدس حرية التجارة، وحرية تنقل الأموال، وحرية الإستثمار، ولكن ذلك جعلنا أيضا عالما واحدا لا حدود بينه لنقل الفيروسات والأمراض الحديثة التي لن تبقى محصورة في البلدان النامية كأمراض الملاريا، والسل، والحمى الصفراء القديمة.

عالمنا ينفق آلاف المليارات على إنتاج وتجارة الأسلحة المربحة، ويتقاعس عن تخصيص 12 مليار دولار كافية لجعل المياه النقية والصحية متوفرة في كل بيت في العالم.

وعالمنا انشغل بتطوير أنظمة التجسس الإلكترونية وبرامجها التي قضت على خصوصية البشر، وجعلت كل مكالمة هاتفية، وكل محادثة في العالم، مسجلة في خوادم الأجهزة الأمنية، ولم ينشغل بتطوير تقنيات تطوير اللقاحات ضد الفيروسات، والأمراض المعدية، كما يستطيع أن يفعل.

 وكثير من الحكومات تلكأت عن تخصيص موارد لمكافحة فيروس الكورونا عندما بدأ بالإنتشار، وإنشغل إعلامها بالشماتة بالصين، ولكنها سارعت لتخصيص عشرات المليارات لدعم البنوك والشركات الإحتكارية عندما انهارت سوق الأسهم مهددة معبد الرأسمالية العالمية.

و من المذهل أن كوريا الجنوبية و الصين وفرت بسرعة الفحوصات لكل من يحتاجها في حين تجاهد الولايات المتحدة لتوفيرها وبعد أن تعرض رئيسها لانتقادات حادة لتباطئه في التعاطي مع وباء العصر العالمي.

فيروس الكورونا، يُعلم الإنسان، أيا كان موقعه، ومنصبه، وثروته، أننا عالم واحد، ومصيرنا واحد، والخطر علينا واحد.

وكل الأسلحة النووية، والهيدروجينية، و قاذفات القنابل، والطائرات، وكل الجدران والحدود، لن تستطيع حماية طفل، أو رئيس، أو مسن واحد، من الإصابة بفيروس الكورونا.

ولا يجوز أن تمر تجربة الوباء العالمي القاسية التي نعيشها بكل آلامها وكأن شيئا لم يحدث، فهي نتاج العولمة التي لا يمكن إعادتها إلى الوراء.

العقلانية تتطلب إعادة النظر في كل المنهج الاقتصادي، والسياسات الاقتصادية والاجتماعية العالمية، والتعامل مع البشرية وبلدانها كأجسام متساوية دون تمييز، وتتطلب التخلي عن الجشع الأناني للأفراد، الذين لن تحميهم ملياراتهم من فيروس آخر قادم، أو من نيزك قد يصطدم بكرتنا الأرضية، أو كارثة بيئية محتملة.

العقلانية تتطلب حراكا ثوريا عالميا لإصلاح الأنظمة السياسية والاجتماعية بما يضمن وضع مصلحة الإنسان، والبشرية جمعاء، وسلامة الكرة الأرضية، فوق كل المصالح الخاصة، وبما ينهي كل أشكال العنصرية، والتمييز، والتسلط السياسي في عالمنا. 

كلمات دلالية

اخر الأخبار